مصادر الأدب الصوفي وقضاياه
1/ مصادر الأدب الصوفي :
تمهيد :
لعل أبرز مصادر الأدب الصوفي التي أسهمت بلورة التجربة الصوفية وفجرت قرائح الشعراء والأدباء ونقلها بين الأسلاف تتمثل في :
1- القرآن الكريم والحديث النبوي :
إن الطريق الصوفي في أصلها ناشئة من الإسلام وتعاليمه ، فمن دوافع الزهد والتوجه بجلّ الجهد من أجل الفوز بالآخرة ، واستخدم الصوفية في فهمها طرقا متنوعة من التأويل وقرءوا في نصوصهما معاني جديدة لم يسبقوا إليها ، نجد ابن عربي في كتبه يستند إلى طائفة من آيات القرآن ويكتب بلغتين : لغة الظاهر التي تفهم من منطوق النص القرآني ، ولغة الباطن وهي التأويل الصوفي الفلسفي الذي يخضع النص القرآني له ، (فالوجه) في قوله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ، الشاهد في هذه الآية هو الذات الإلهية التي لا تفنى ولا يعتريها التغيير والفساد ، في مقابل المظاهر الوجودية المتغيرة المتحولة التي نسميها عالم الظاهر أو الوجود الخارجي.
2- الشعر الديني :
الشعر الديني في الإسلام هو أول منابع الأدب الصوفي الإسلامي ، بدأ هذا الشعر في الإسلام مع انتصار الدعوة الإسلامية ، فما كاد الله صلى الله عليه وسلم يخرج بالمسلمين إلى الغزوات حتى بدأ الشعراء يلقون الشعر بين يديه ، ومن أشهر الشعراء بلا ريب حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وكعب بن زهير ، فظهرت تلك الشاعرية في شعر الفتوح وتمجيد البطولة وذكر البلاء في الحرب والإشادة بالإسلام وما يتصل بذلك من مدح للرسول صلوات الله عليه والمهاجرين والأنصار ، والنزعة الإسلامية ظاهرة في القصائد ، وكانت المدائح تتضمن في كل عصر آراء قائليها في رسول الإسلام ، واتخذت أشكالا متنوعة على مر العصور ، فممن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم النابغة الجعدي ، فقد قال في قصيدة طويلة تبلغ مائتي بيت :
أَتَيتُ رَسُولَ اللَهِ إِذْ جاءَ بالهُدى ** وَيَتلُـــــــــــــو كِـتابــاً كالمـجــرَّةِ نَــــيِّـِرَا
أُقِيْمُ عَلَى التَّقْوَى وأَرْضَى بفِعْلِهَا ** وَكُنْتُ مِنَ النَّارِ المَخُـوْفَةِ أَحْــذَرَا
بدأ الأدب العربي طورا جديدا وشققت له الدعوة الإسلامية مدارجه الجديدة ...ولكن دور يقظة الشعر الذي بدأ بحكم الأمويين لم يستمر بالشعر في الطريق الذي رسمه له الإسلام في الفترة السابقة ، فظهر شعر التدين الذي تطور بتطور الحياة الروحية التي ارتبط مصيره بها ...وأخذ في التردد على ألسنة المتعبدين في المناسبات المختلفة في حياة أولئك المتعبدين الذين انقطعوا للعبادة وانصرفوا عن متع الحياة ومخالطة الناس ، وقد قام هذا الفن على غرضين رئيسين هما : الوعظ والتذكير من ناحية ، والحكمة الدينية من ناحية أخرى.
أما الوعظ والتذكير فكان يتناول فكرة الموت على أنها الفكرة الرئيسية ؛ فكل إنسان نهايته معلومة وسوف يصير بعد هذه الحياة إلى حساب دقيق يلتقي فيه ما قدم ، ولم تلبث معالم الزهد الذي أخذ في الانتشار بين المتعبدين وأخذ يستجيب إلى الأفكار الجديدة التي طرأت على الحياة الروحية في الإسلام ، ويعبر عنها تعبيرا صادقا ، فظهر في شعر هذا القرن الدعوة الثاني الدعوة إلى ترك الدنيا ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى والانقطاع إليه ، والقناعة به ، والمجاهدة في سبيل مرضاته ، والتزام ألوان من العبادة لا يفرضها الدين.
من الطبيعي أن يطلق على شعر التدين في صورته الجديدة التي اكتسبها من التعبير عن حياة الزهد (شعر الزهد ) أو (الشعر الزهدي ) وهو هو طور جديد من أطوار شعر التدين يختلف عن طوره الأول في شدّة توغله في الروحانية ، واشتماله على المقومات الجديدة للحياة الروحية.
3- الشعر الغزلي :
الغزل بنوعيه العذري والصريح مصدر مهم من مصادر الأدب الصوفي ، إن الحب الإلهي في الشعر الصوفي فرع من فروع الغزل والنسيب ، لا يختلف من الغزل العادي في المعاني والألفاظ ولكن في التفسير والتأويل فقط ، لقد كانت المرأة موضوع الحب والغزل في القصائد العربية الغنائية التي أخذت شكلا تقليديا تميز بالاستقرار.
مثلت المرأة رمزا في الشعر الصوفي إذ هي رمز الذات الإلهية وقضية الحب الإلهي وهي محوره خاصة في شعر ابن الفارض وابن عربي ، حيث بدت فيه رمزا موحيا دالا على الحب الإلهي ، يعد الشعر الصوفي من هذه الوجهة شعرا غزليا تم للصوفية فيه التأليف بين الحب الإلهي والحب الإنساني ، والتعبير عن العشق في طابعه الروحي من خلال أساليب غزلية موروثة ، ومن بواكير تلك الأشعار الصوفية التي تلوح بالرمز الغزلي إلى عاطفة المحبة الإلهية قول أبي الحسن النوري ( 295ه/907م) :
لَعَمْري ما استودعتُ سرّيْ وسرَّه سِوانا حَذَاراً أن تشيعَ السرائـرُ
ولا لاحظَــتْه مُـقلـــتايَ بـنظــرةٍ فتشهدَ نـجوانا القلوبُ النواظـرٌ
ولكن جعلتُ الوهم بيني وبينها رسولاً فأدّى ما تُكِنُّ الضمائـِرُ
وقول أبي بكر الشبلي :
أَظَلَّت عَلَينا مِنكَ يَوماً غمامــةٌ أَضاءَت لَنا بَرقاً وَأَبْطى رَشاشُهـا
فَلا غَيمُها يجلو فَيَيأَسُ طامِـعٌ وَلا غَيثُـها يَأتي فَيـُروى عِطاشُهــا
وإننا لنتبين في هذه الأشعار ما يتسم به رمز المرأة بوصفها تلويحا إلى حب إلهي مستحوذ قاهر من ديالكتيك عاطفي يجمع بين الطبيعي والإلهي ، وبين التجلي الإلهي والصورة العينية المحسوسة ، وتثبت هذه الشواهد أن العرب كانوا أسبق تاريخيا من شعراء الفرس في تركيب بناء غزلي رمزي تمتزج فيه عواطف الحب الإنساني بمواجيد المحبة الإلهية ، وفي أشعار ابن الفارض نلاحظ الدلالة التلويحية في رموزه الشعرية التي أهاب فيها بالجوهر الأنثوي إذ وصف من العواطف الإنسانية والجمال الأرضي الزائل ، حبه الإلهي وتعشقه بالجمال في علوه واطلاقه ، مميزا هذا الوصف الشعري بين الجمال الحقيقي المتسم بالوحدة والشمول والأبدية ، والجمال المجازي بحسبانه مظاهر متنوعة للتجلي.
وكثيرا ما يعول في التعني بحبه الإلهي على ذكر الشعراء العذريين الذين هاموا بمعشوقاتهم وتغنوا بهن في قصائد رومانسية رقيقة ، يقول في تائيته الكبرى :
وصَرِّحْ بِإِطْلَاقِ الجمالِ ولَا تَقُلْ بتقييدهِ مَيْلاً لِـــزُخْــــرُفِ زِيــنَـــةِ
فكلّ مليح حسنُه من جمالـِـهـــا معار له بل حسن كٌلِّ مليحة
بها قيسُ لُبـــنىْ هام بل كل عاشقٍ كمجنونِ ليلى ، أو كُثَــيِـــّر عَــــــــزَّةِ
وتـَظْهَرُ للـعشّاق في كُـــلُّ مظــهـرٍ من اللَّبس في أشكال حُـسْنٍ بديعـة
ففي مرّة لنبي وأخرى بُثـَــيْنَــة وآونـــــــــــةٌ تدعى بعـَــــــــزّة عَــــــــــــزَّتِ
تنطوي هذه الدلالات من ناحية الرمز الصوفي على رفع التعينات الجزئية إلى مستوى التجلي الإلهي ، ورد الجمال الأنثوي إلى الجمال العالي المطلق الذي لا تعين له في نفسه.
4- شعر الخمرة :
إن الخمريات الصوفية لم تكن لتبدأ من فراغ خالص ، وإنّما استلهمت ذلك التراث من الشعر الخمري ، صوره وأخيلته وأساليبه ، ولم تستلهم ما حفل به من مجون وإباحية ، ونشوة الحب عند الصوفية تسمى سُكْراً ، وهي تشبه في آثارها إلى حد كبير السُكر الحسي وهذه الحالة علامة الصدق في الحب ، وقد أكثر الصوفية من التغني بالخمر لأنها الوسيلة الوحيدة التي تقرب فهم معانيهم للآخرين فإن من شأن الخمر « تنبيه القوى الصوفية في الطبيعة الإنسانية التي تستحق عادة بالحقائق الباردة والنقد الجاف في ساعة الصحوة ، إن الصحوة تصغر وتميز وتقول : لا ، ولكن السكر يكبر ويوحد ويقول : نعم ».
تحولت الخمر في الشعر الصوفي كما تحول الغزل العذري إلى رمز عرفاني على ما كان الصوفية ينازلون من وجد باطن ، فقد سار شعراء الصوفية في الخمر على آثاره وعرفوا من عبقريته وعبقرية أقرانه ، ذكر الغزالي في باب الوجد والسماع من كتاب أحياء علوم الدين : أن الصوفي إذا استغرق في ذكر الله حتى فني قلبه عن كل شيء إلاّ ذكر الله الحاضر فيه كانت حاله حال الإناء الذي يتلون بلون ...ويُعرب عن هذه الحقيقة .
5- الرمز الصوفي :
الرمز عند الصوفيين هو التلميح إلى ما يريدون قوله ، وهو طريقة من طرائق التعبير ، يحاول بواسطتها الصوفيون محاكاة رؤاهم ونقل تصوراتهم ، عن المجهول والكون والإنسان ، ووصف العلاقة بين الإنسان والله ، والعلاقة بين الكون والإنسان ، إن الحالة الوجدانية التي يرمي الصوفي إلى نقلها شعرا هي ذاتها حافلة بالغموض ،بحيث لا تقوى العبارة على الافصاح عنها ، فيميل الصوفي إلى استدعائها بطريق الرمز المجرد...وهذا تقرير واضح بأن الغموض الصوفي أمر لا مناص منه ، بحكم غموض التجربة التي ينقلها ، ولا أدل على ذاك من شطحات الصوفية ولجوئهم إلى أساليب شتى في التأويل لشرحها وكشف معانيها.
ويستخدم الصوفية مصطلحي الإشارة والرمز بمعنيين قريبين ، وأما الإشارة ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه ، وقال أبو علي الروذباري : علمنا هذا إشارة فإذا سار عبارة خفى ، والإيماء الإشارة بحركة جارحة ، وأما الرمز فهو معنى باطن تحت كلام ظاهر ، لا يُظفر به إلاّ أهله قال الفنّاد :
إذا نَطَقُوا أَعْجَزَكَ مَرْمَى رُموزهم وإنْ سَكَتُوا هَيْهَاتَ مِنْكَ اِتّصَالُــهُ.
ولا شك أن التجربة الصوفية القائمة على الكشف والذوق قد استدعت هذه اللغة الرمزية الإيحائية البعيدة عن البساطة والوضوح.
2/ قضايا الأدب الصوفي :
تميز الشعر الصوفي في الأدب الإسلامي بعدد من القضايا والأغراض استقل بها شعراء الصوفية وتميزوا فيها منها : ( وحدة الوجود ، الحلول والاتحاد ، الحب الإلهي ، الحقيقة المحمدية).