الحقيقة المحمدية
الحقيقة المحمدية
تمهيد :
تعد الحقيقة المحمدية من أهم القضايا الأساسية التي تناولها المتصوفة وعبروا عنها في كتاباتهم الشعيرية والنثرية ، وقد دار حولها الجدل خاصة بعد انفتاح الخطاب الصوفي على الثقافات الأجنبية ، مما أدى إلى انتقال مفهوم المصطلح من الطرح الإسلامي المؤسس على نصوص الشريعة الإسلامية إلى الأقوال والأفكار التي فتحت بابا واسعا لظهور نظريات كانت لها تبعات مؤثرة في البنية الفكرية والمعرفية لهذا الخطاب ، وتعتبر أهم الأسس التي انبثقت عنها النظريات الفلسفية لدى أهل التصوف.
1- مفهوم الحقيقة المحمّديّة :
تعددت المصطلحات والتسميات وكلها لمسمى واحد وهو الحقيقة المحمدية حيث اطلق عليها تسمية : الكلمة المحمّديّة ، النور المحمدي ، نور محمد صلى الله عليه وسلم ، حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتعرّف الحقيقة المحمدية هي أكمل مُجَلَّى خلقي ظهر فيه الحق بل هي الإنسان الكامل بأخص معانيه ، وإن كان كل موجود هو مجلى خاصا لاسم إلهي فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد انفرد بأنه مجلى للاسم الجامع وهو الاسم الأعظم الله ، ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة.
وتعرّف أيضا : أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب ، هي حقيقة كونية يؤكد هذا أن الله تعالى رفع له ذكره بأن جعل اسمه صلى الله عليه وسلم مع اسمه سبحانه ، فلا يذكر إلا ويذكر معه " لا إله إلا الله محمد رسول الله" ، ومن ثم الشهادتان سبع كلمات مُتَضَمِّنات للحقيقة الكونية المتمثلة في تفرد الله تعالى بالألوهية وتفرد رسوله صلى الله عليه وسلم بتمام حقيقة العبودة لله عزوجل.
2- تجليات الحقيقة المحمدية في الأدب الصوفي :
إن الحقيقة المحمدية لم تبرز في في منجز أدبي صوفي كما برزت في المدائح النبوية ، حيث إن هذه الأخيرة توزعت حول محبته صلى الله عليه وسلم وذكر فضائله وهديه وسيرته ومعجزاته ، فالمدائح النبوية فن من فنون الشعر التي أذاعها التصوف ، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية ، وباب من الأدب الرفيع لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص ، وقد قال فيه الشعراء على مختلف العصور الكثير ، وأجادوا إجادة بارعة ، وأكثر المدائح النبوية قيل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يقال بعد الوفاة يسمى رثاء ولكنه في الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى مدحا كأنهم لحظوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم موصول الحياة وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء.
والمتأمل فيما كتبه الصوفية عن الحقيقة المحمدية يلمح ظاهرة ازدواجية في ذكر الذات المحمدية ، بين اعتباره ذاتا نبوية مرسلة ، وبين كونه حقيقة ونورا إلهيا ، ومن الشعراء الذين كتبوا عن الحقيقة المحمدية محي الدين ابن عربي حيث يقول :
ويكون هذا السَّيِّد العَلَمُ الذي جَرَّدْتَهُ من دَوْرَةِ الخُلَفَاءِ
وَجَعَلْتَهُ الأَصْلَ الكريمَ وآدم ما بين طِينَةِ خَلْقِهِ والـمَــــاءِ
وَنَقَلْتَه حتى استدار زمانه وَعَطَفْتَ آخره على الإبداء
وأقمته عبدا ذليلا خاضعا دهرا يناجيكم بغار حراء
حتى أتاه مبشِّرا من عندكم جبريل المخصوص بالإِنْبَاءِ
قال السلام عليك أنت محمد سِرُّ العِبَاد وخاتم النُّــبـاءِ
يا سيدي حقا أقول فقال لي صِدقاً نَطَقْتَ فأنت ظلُّ ردائي
أشار ابن عربي من خلال هذه الأبيات إلى خصائص ومميزات الحقيقة المحمدية وربطها بفلسفة وحدة الوجود ، ونجد ابن الفارض بين الحقيقة المحمدية والذات الإلهية حيث يقول :
فـبـي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها الــ محيط والقطب مركز نقطة
ولا قطبَ قبلي عن ثلاث خَلفْته وقطبية الأوتاد عن بديلة
ويقول أيضا :
وكل الورى أبناء آدم غير أني حزت صحو الجميع من بين إخوتي
فسمعي كليمي وقلبي مُنَبِّئُ بأحمد رؤيا مقلة أحمدية
ويقول أيضا :
وقد جاءني مني رسول عليه ما عَنِتٌّ عزيزٌ بي حريص
فحكمي من نفسي عليها قضيته ولما تولت أمرها ما تولت
نجد ابن الفارض يطلق لفظ القطب على الحقيقة المحمدية ويراد به الروح المحمدي ، ويتحدث من خلال هذه الأبيات عن حقيقة جامعة بلسان الجمع مع الحقيقة المحمدية أو بلسان الواصل إلى مقام صحو الجمع الذي اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من دون بقية الأنبياء فيظهر لنا وكأنه يتحدث عن نفسه ، والمتمعن في الخطاب الشعري عند ابن الفارض يهتدي إلى مقولة الحقيقة المحمدية التي جسدها من خلال الفعل المعرفي والتي تقضي بأزلية الروح المحمدي وقدمه وسبق وجوده كل الموجودات .
تمتاز المدائح النبوية عامة بصدق العاطفة وحرارة الشعور وسعة التناول ، وقد تناولها الحلاج في كتابته الأدبية الشعرية منها والنثرية حيث يقول :
عَقْدُ النُبُوَّةِ مِصباحُ مِنَ النُورِ مُعَلَّقُ الوحي في مشكاة تأمور
بالله ينفخ نفخ الروح في جلدي لخاطري نفخ إسرافيل في الصور
إذا تجلّى لطوري أن يكلّمني رأيت في غيبتي موسى على الطور
عبر الحلاج من خلال هذه الأبيات عن الحقيقة المحمدية وأطلق عليها اسم النور المحمدي ، فهو يرى أنها تجلت في الأنبياء منذ القدم.
ولعل أشهر شعراء المديح النبوي ما كتبه الإمام شرف الدي البوصيري ( ت 695ه) ، وتعد قصيدة البردة أهم القصائد بين المدائح النبوية ، يقول في همزيته :
كيف ترق رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا ل سنا منك دونهم وسناء
وإنما مثلوا صفاتك للنا س كما مثل النجوم الماء
استهل قصيدته باستفهام ومعنى هذا أن الحقيقة المحمدية موجودة وأصل هذا الكون ، ولم يتساوى الناس والأنبياء في رقيك ورفعك وعلو شأنك وقد جئت للناس من أجل هدايتهم ، وشبهه بالمصباح فهو مصدر الضوء وعلامات النبوة بارزة فيه.
3- أهم المصطلحات الصوفية :
انفرد المتصوفة بمصطلحات وألفاظ تخصهم وتواطئوا عليها وذلك لتقريب الفهم بينهم وستر معانيها عمّن يعارض توجههم وخوفا أن تشيع أسرارهم في غير أهلها ، ولعل أهم المصطلحات التي اعتمدها المتصوفة في كتاباتهم الشعرية والنثرية نذكر :
1. الإخلاص : أن لا تطلب لعملك شاهدا غير الله
2. الإرادة: الإقبال على أوامر الله تعالى.
3. التجلي: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.
4. التخلي: اختيار الخلوة والامتناع عن كل ما يشغل عن الحق.
5. التقديس: تبعيد الرب عما لا يليق بالألوهية
6. التقوى: أن ترى في نفسك سوى الله، والاقتداء بالنبيّ فعلا وقولا.
7. التوحيد: معرفة الله تعالى بالربوبية والإقرار بوحدانيته ونفي الأنداد عنه.
8. الحال: المعنى الذي يقع في القلب من الحزن والفرح.
9. الزهد: الابتعاد عن ملذات الدنيا وشهواتها.
10. السرمدي: ما لا أول له ولا آخر
11. الشريعة والحقيقة: الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة.
12. الغيبة والحضور: الغيبة هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم يغيب إحساسه بنفسه وغيره، أما الحضور هو حضور القلب بالحق عند الغيبة.
13. الفناء والبقاء: الفناء هو عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على كل شيء، والبقاء هو رؤية العبد قيام الله على كل شيء، وورد في الرسالة القشيرية: الفناء سقوط الأوصاف الذميمة والبقاء بروز الأوصاف الحميدة.
14. المشاهدة: رؤية الأشياء بدلائل التوحيد.
15. المقام: ما يتوصل إليه بالطلب والتصرف والتحقيق، ومقام كل واحد موضع إقامته فيه.
16. الملكوت: عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس
17. الهداية: سلوك الطريق الموصلة إلى المطلوب.
18. الوجد: البروق التي تلمع في العين.
19. الوقت: الوقت عند أهل التحقيق "حادث متوهم علق حصوله على حادث متحقق"، نقول آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم ورأس الشهر حادث متحقق وهو وقت الإتيان، ويعنون بالوقت ما هو فيه من الزمان.
20. اليقين: رؤية العيان بقوة الإيمان.
21. القضاء: الحكم الإلهي الكلي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل و الأبد.
22. السكر: غيبة القلب عن مشاهدة الحق.
23. الصحو: رجوع القلب إلى ما هاب عن عيانه الصفاء اليقين.
24. الرضا: سرور القلب بمر القضاء
25. التوبة: الرجوع إلى الله في القيام بكل حقوقه
26. الصدق: قول الحق في مواطن الهلاك
27. التطوع: الشروع في زيادة الفروض والواجبات
28. الشوق: وهو نزاع القلب إلى لقاء المحبوب.
29. العبودية: الوفاء بالعهود وحفظ الحدود والرضى بالموجود والصبر على المفقود
ومن المصطلحات أيضا : المجاهدة ، الخلوة ، المناجاة ، الألوهية ، القطب ، الشطحات ، الأولياء ، الولاية ، النور الروح وغيرها من المصطلحات التي وظفها الصوفية في خطاباتهم والتي نجدها مثبوثة في ثنايا مؤلفاتهم الشعرية والنثرية التي لها دلالات يفهم من خلالها مذهبهم في الحياة