العشق الإلهي

1- الحب الإلهي عند الشعراء الصوفيين :

لم يبتكر الصوفيون الحب إنما استقوه من آيات القرآن الكريم قال الله تعالى : ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ المائدة 54 ، وقوله أيضا : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ أل عمران 31 ،  وكما استقوه من الأحاديث النبوية ، وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب الله فليحبّني ، ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ، ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإنها أبنية أذِن الله تعالى برفعها وتطهيرها وبارك فيها فهي ميمونة ميمون أهلها ، فهم في صلاتهم والله تعالى في حوائجهم ، وهم في مساجدهم والله تعالى في نُجْح مقاصدهم».

ولكن هذا الحب تغلب عليه الصفة النفعية ، فالمؤمن يحب الله أي يطيعه ، ليدخل الجنة ويسلم من النار  وقد رأى الصوفية أن يجردوا الحب من الصفة النفعية فيجعلوه خالصا لذات الله ، بغضّ النظر عن رجاء الثواب والخوف من العقاب ، وهذا السموّ الروحاني عاد على الأدب بأجزل النفع ، فقد رُوِيَتْ عن المحبين أبيات وفَقَرات على جانب عظيم من الجمال.

ومن اصطلاحات الصوفيين : الهوى ، الشوق والحب ، والعشق ، الوجد ، الفناء ، البقاء ، وأما الحب الإلهي تصوفا فقد أشار إليه ذو النون بقوله :« هو سقوط المحبة عن القلب والجوارح حتى لا يكون فيها المحبة وتكون الأشياء بالله والله » ، وقد تكلم الصوفية كثيرا في الحب والعشق وكلّ يعبر بمقاله عن حاله وقد كانت السيدة رابعة العدوية (ت 185ه) أول من كتب شعرا في الحب الإلهي ولها الفضل في إشاعة لفظ الحب عند من جاءوا بعدها من الصوفية ، وهي تعبر عن ذلك بعد تجربة ومعاناة مباشرة ، وكانت أول من دعا إلى حب الله لذاته لا لرغبة في الجنة ولا خوف من النار  ، ومن شعرها :

إني جعلتك في الفؤاد محدثي      وأبحت جسمي لمن أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس      وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وتقول أيضا :

كلهم يعبدون من خوف نار     ويرون النجاة حظا جزيلا

 أو بأن يسكنوا الجنان والنار حظ     بقصور ويشربوا سلسبيلا

ليس لي في الجنان حظ      أنا لا أبتغي بحبي بديلا

اتخذ الحب الإلهي شكلا خاصا عند رابعة العدوية حيث تكلمت وعبرت عن حبها للذات الإلهية دون مقابل وبذلك بلغ الحب ذروته عندها حيث تقول :

أحبك حبَّين حبّ الهوى   وحبّاً لأنك أهلٌ لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى   فشغلي بذكرك عمّن سواكا

وأما الذي أنت أهلُ له    فكشفك للحُجُب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي   ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

استطاعت رابعة العدوية أن تعبر عن حبها دون تجسيم فالذي حققته هذه القطعة قد تجاوزه غيرها من بعد ، ولكنها ببعدها عن التجسيم بقيت مثلا لمن جاءوا بعدها ، كان هذا الخطاب موجها إلى الله تعالى ذلك أنها لن تستطيع أن تتحدث عن حبها لله إلا إذا صدر ذلك عن تجربة حية عانتها ، وتلك كانت تجربتها العنيفة الحية فَقَلَبَ موضوعها من المحسوس الإنساني إلى الكائن الأعلى الإلهي ، لقد بدأت تستشعر الحب لله ؛ وإنه لينمو وتواكبه مشاعر مختلفة ، لعل من بينها ومن أقواها الشعور بأنها نذرت نفسها لهذا المحب الأسمى.

ومن أشهر من تكلموا في الحب سَمْنُون الذي يلقبونه بسَمْنُون المحب(ت 297) ، والذي حدّثوا أن الطير كانت تسقط عن الشجر حين تسمع كلامه في الحب ، فقد كان سَمْنون ينسج غزلياته وينظم محبته لله فقال بلسان العاشق :

وليس لي في سواك حظ ُّ  فكيفما شئت فامتحنيّ

إن كان يرجو سواك قلبي   لا نلت سُؤْلي ولا التمنِّي

نجد علاقة بين المحبة والابتلاء فقد كان يدعو كن خلال أبياته إلى المزيد من الابتلاءات ( ضَاعِفْ عليَّ بجهدك البلوي ) ،والبلاء في المحبة الصوفية أمر مطلوب فبه ترفع الدرجات ويقترب الصوفي من مقامات أهل الكمال ، ومن هنا قال سمنون :

فإذا بلغت الجهد فيّ فلم    تترك لنفسك غاية قصوى

فانظر ، فهل حالٌ بيَ انتقلت   عما تحبُّ بحالةٍ أخرى؟

ويقول أيضا :

بكيت ودمع العين للنفس راحة    ولكن دمع َ  الشوقِ يُنكى به القلبُ

وذكري لما ألقاه ليس بنافعي             ولكنه شيء يهيجُ به الكربُ

فلو قيل ما أنت ؟ لقلت مُعَذَّبٌ          بنار مواجيدٍ يُضرِّمها العَتَبُ

بليتُ بمن لا أستطيع عتابه               ويعتبُني حتى يقال لي الذنبُ

معظم أشعار سمنون ترانيم عشق قصار تقتصر على المحبة وحدها ، فهو في الغالب لا يتطرق إلى الموضوعات الصوفية الأخرى ، إن المحبة الصوفية بعلاقاتها المختلفة كانت الغرض الأول الذي دارت حوله أفلاك الشعر الصوفي في مرحلته المبكرة ، وقد تنوعت تنوعاً لا حدَّ له ويرجع ذلك في المقام الأول ؛ إلى ثراء التجربة الصوفية ، واتساع المعرفة الذوقية ، وارتباط التصوف بالفلسفة وعلوم أخرى ، فكان أن تفتحت أفاق جديدة للتصوف فجاء الشعر ليعبِّر عنها.

نجد أن الشعر الصوفي عبر عن الحب أعظم تعبير واتخذه مذهبا في الحياة ودعا إليه ، وحرض عليه ، وقد اتخذ الصوفيون الحب شعارهم في الحياة ومذهبا إنسانيا يقبلون عليه ، ويذهبون إليه ، وانتهى بهم الحب إلى الحب الإلهي ، فاحترقوا بناره ، ثم وحدة الوجود فتاهوا في مسالكها يقول ابن الفارض (ت 632) :

وعن مذهبي في الحب مالي مذهب    وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي

ولو خطرت لي في سواك إرادة       على خاطري سهوا قضيت بردتي

لك الحكم فما شئت فاصنعي    فلم تك إلا فيك ، لا عنك ، رغبتي

ابن الفارض مَدين بخلود شعره إلى نزعته الصوفية ، فكانت عنايته بالشعر فاتحة جديدة في وزن المعاني ، فيعد فحل من الفحول  من حيث انتقاء المعاني ، لأنه جمع بين الحقيقة والخيال ، والحقيقة عنده هي الصورة الروحية ، أما الخيال فهو الصورة الحسية التي رمز بها إلى المعنويات ، والحب الحسي عند ابن الفارض هو أساس الحب الروحي ، وقد هدتنا التجارب إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية  ، والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام بالجمال الحسي.

 

Last modified: Wednesday, 22 November 2023, 8:54 PM