أثر الفرق الكلامية في تأصيل البلاغة(المعتزلة نموذجا)
أثر الفرق الكلامية في تأصيل البلاغة(المجاز عند المعتزلة نموذجا)
- اسهامات علماء الكلام في تأسيس البلاغة العربية:
تأثرت البلاغة العربية بعلوم كثيرة، كالمنطق، وعلم التفسير والنحو، وعلم الكلام، وتأثرها بعلم الكلام يبدو واضحا من خلال الآثار التي ظهرت على البلاغة نفسها، وفرق الكلام هذه متعددة منها الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والصوفية، والمعتزلة، والأشاعرة، ومنذ ظهورهم احتدمت المناظرات بينهم في مدى نجاح المناظر أو الخطيب من خلال رصد عناصر الخطاب كالصوت وجهارته، وصفات المتكلم، والملائمة بين الكلام وحال المستمعين، ساهمت تلك الجهود في دراسة إعجاز القرآن.
وأدى تنوع المرجعيات التي أطرت الدرس البلاغي العربي القديم الى ظهور نزعتين؛ نزعة أدبية، ونزعة كلامية؛ الأدبية منها تعدت أشكال التذوق الفني لفنون القول، والأخرى في إطار عقلي فلسفي، يقول أحمد مطلوب في هذا الشأن: "ومع أن كتب البلاغة العربية يكاد يأخذ بعضها ببعض، وتكاد مناهج بحثها تتفق إلى حدّ ما، نرى اتجاهين واضحين في طريقة بحثها، فمن البلاغيين من سيطرت على كتبهم النزعة الأدبية، ومنهم من سيطرت على كتبهم النزعة الفلسفية العقلية، وكان نتيجة ذلك أن ظهرت مدرستان بلاغيتان هما المدرسة الأدبية، والمدرسة الكلامية، أو كما يسميها السيوطي طريقة العرب والبلغاء، وطريقة العجم وأهل الفلسفة " أحمد مطوب، دراسات بلاغية ونقدية،ص:13،14.
ارتبط نشاط المتكلمين في وضع قواعد البلاغة أثناء دفاعهم عن قضايا عقدية وشرعية، بفضل فرقة المعتزلة مثلا: تم بلورة مجموعة من المصطلحات والمفاهيم البلاغية؛ تعريفا، وتمثيلا، كمفهوم؛ المجاز، الاستعارة، والكناية وغيرها...، وقد تعهّد هذا التوجه كلّا من : الحاجظ، وبشر بن المعتمر، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، والرماني.
بذلك تكون الفرق الكلامية قد نصّبت نفسها مدافعة عن الإسلام في مقابل أصحاب الملل.
- فرقة المعتزلة:
المعتزلة فرقة كلامية ظهرت بداية القرن الثاني الهجري، أواخر العصر الأموي، لكن ازدهارها كان في العصر العباسي، بدأت أفكارها مع واصل بن عطاء،(هـ131)، ويقال أنها سميت هكذا لاعتزال واصل بن عطاء مجلس أستاذه الحسن البصري، بعد اختلافه معه في قضية فقهية، وهي مسألة المسلم الذي يرتكب الكبيرة، هل هو مسلم أم كافر؟ ولما اعتزل واصل، قال الحسن البصري: اعتزل عنا، ونسبت هذه التسمية لهذا التوجه الفكري.
- مبادئ الاعتزال:
1- تقديم العقل على النقل.
2- تبني الأصول الخمسة وهي: - التوحيد، -العدل، -المنزلة بين المنزلتين، -إنقاذ الوعيد(وعد الله المطيعين بالثواب)، -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- الأخذ بالمجاز في تأويل الكثير من الدلالات في القرآن الكريم.
- من علماء البلاغة المعتزلة:
1- بشر ابن المعتمر: هو أبو سهل الهلالي، صاحب الصحيفة الشهيرة في البلاغة العربية، والتي نقلها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، حملت هذه الصحيفة أهم أسس البلاغة العربية، ومن بين أهم ما جاءت به؛ مسألة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى وغيرها.
2- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر، تتلمذ على يدّ النظّام المعتزلي، له مؤلفات أشهرها: البيان والتبيين، الحيوان، البخلاء، ساهم الجاحظ في التأسيس للبلاغة العربية، من خلال آرائه البلاغية والنقدية المبثوثة في مؤلفاته،
3- الرماني: أبو الحسن علي بن عيسى، أسهم هو الآخر في توسيع المباحث البلاغية، فقسمها إلى طبقات أعلاها بلاغة القرآن الكريم، ثم مرتبة البلغاء من الناس.
4- ابن جني، أبو الفتح عثمان بن جني من أئمة اللغة العربية، تتلمذ على يد أبي علي الفارسي، له اسهامات أساسية في إثراء الدرس اللغوي، حيث أنتج مؤلفات أهمها الخصائص، وشرح ديوان المتنبي، وهو أكثر ما ينسب إلى مجال النحو والصرف، غير أن مؤلفاته احتوت إضافة إلى النحو والصرف مسائل بلاغية، فقد عرّف الحقيقة والمجاز، وهو مبحث أساسي في دراسات المعتزلة،
5- الزمخشري: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، من علماء النحو والتفسير، تتلمذ على يدّ النيسابوري، والأصبهاني، من مؤلفاته: أساس البلاغة، الكشاف، واعتمد في هذا الأخير على البلاغة في الكشف عن إعجاز القرآن.
- المجاز عند المعتزلة:
المجاز: هو "اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لمناسبة أو علاقة بينهما مع وجود قرينة تمنع المعنى الظاهر"، (من كتاب الإيضاح في علوم البلاغة، ص:243.)، ويعود الفضل الأول إلى المعتزلة في دراسة المجاز، وإن كان هناك من سبقهم في استعمال المجاز في تأويل القرآن، كأبي عبيد معمر ابن المثنى.
يذهب نصر حامد أبو زيد إلى أن أول من تبلور على يده مصطلح المجاز باعتباره قسيما للحقيقة ومقابلا لها، هو الجاحظ، وقد حدد ابن قتيبة -المتأثر بالجاحظ بشكل واضح- جوانب المجاز وجعلها تشمل: "الاستعارة، والتمثيل، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية... وهي كلها ظواهر أسلوبية تعني التغيير في الدلالة، والخروج بها عن دلالة المواضعة الشائعة.
وردت مادة "جوز" بمعنى القطع والعبور، وهذا المعنى ليس بعيدا عن مفهوم مصطلح "المجاز" على أساس أن المجاز هو تجاوز المعنى الحقيقي للعبارة إلى معنى آخر يتعلق به تعلقا تاما، وقد استعمل الفرّاء صيغة الفعل تجوّز حين تعرض لقوله تعالىفما ربحت تجارتهم). فاعتبر إسناد الربح إلى التجارة تجوزا في التعبير، يقول الفراء معلقا على هذه الآية: "قال القائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك"، وقد ذكر الفرّاء باقي أنواع المجاز، كالتشبيه في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا). وطائفة أخرى من الأمثلة عن هذا النوع من المجاز،
الجاحظ: هو من أوائل من تعرضوا لموضوع المجاز، من أشهر ما يذكر عنه في حديثه عن هذا الموضوع، قوله: "وإذ قالوا: أكله الأسد؛ فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذ قالوا: أكله الأسوَد، فإنما يعنون النهش واللدغ والعضّ فقط، وقد قال الله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا)، ويقولون في باب آخر فلان يأكل الناس، وإن لم يكن يأكل من طعامهم شيئا. وكذلك قول دهمان النهري:
سألتني عن أناس أكلوا....... شرب الدهر عليهم وأكل
وهذا كله مجاز، فالأكل في قوله: أكله الأسد حقيقي، أما في الأمثلة التي تلت فالأكل مجازي، بهذا تتقابل الحقيقة والمجاز عند الجاحظ، فالحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له أصلا، والمجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
تم نجد علي بن عيسى الرماني في مؤلفه النكت في إعجاز القرآن، والزمخشري في أساس البلاغة، حيث قدم توضيحات مهمة لأشكال المجاز في القرآن الكريم، حيث اهتم بعرض ما يؤديه اللفظ فيما وضع له على وجه الحقيقة، وما يؤديه حين يخرج عن أصل دلالته إلى دلالة أخرى، لوشيجة على نحو ما بين الدلالتين، يقول مثلا: من المجاز: قولك ثقل سمعي، وثقل عليّ كلامك، وأنت ثقيل على جلسائك، وما أنت إلا ثقيل الظلّ بارد النسيم... يضيف الزمخشري الكثير من الأمثلة المشابهة، كقوله أيضا: ومن المجاز سمعتهم يقولون السراج يريد أن ينطفئ، وينبغي أن يطفأ، كقوله تعالى: (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه).