نشأة علم البلاغة:

                كانت البلاغة قديما عبارة عن معارف متناثرة، لاتعدوا أن تكون مجرد وسيلة تساعد المتكلم على إيصال الرسالة إلى السامع، فكانت أمرا فطريا  تعودت ألسنتهم عليه وألفته آذانهم،  ومع انتشار الإسلام وبداية اهتمام العرب بلغتهم من خلال دراسة القرآن وتفسيره، انطلق المسلمون بجمع اللغة المشتتة بين القبائل العربية،

وكان الحديث عن البلاغة العربية منذ زمن بعيد وكانت متفرقة في كتب اللغة والأدب والنقد، فقد ذكر سبويه في كتابه بعض إرهاصات البلاغة، وفي كتاب معاني القرآن للفراء، فقد سبق بعض النحويين الذين ذكرناهم البلاغيين إلى ذكر اللغة الفصحى، والفصاحة، ومجاز القرآن لأبي عبيدة...إلخ.

أ‌-        البلاغة في العصر الجاهلي:

لم تبدأ البلاغة في نشأتها الأولى بالصورة التي هي عليها اليوم، بوصفها علما بقواعد وقوانين مكتملة، بل كانت عبارة عن ممارسات قولية، فقد عرف العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان، ولذلك جاءت معجزة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من جنس ما حذقوا فيه وتباهوا به، ورغبة الرقي بأدبهم-ولاسيما الشعر- كانت لهم نواد ومهرجانات ثلاثة في السنة، أشهرها وأكثرها ذكرا: "عكاظ"، تعرض فيها أشعار الشعراء كل عام لدى حكام يحكمون بالأحسن شعرية فيما يعرض عليهم، مبينين سبب التفضيل بينهم، وأبرز هؤلاء الحكام النابغة الذبياني، وقد وجدت نماذج كثيرة لمقاييس الجمال الأدبي عند العرب من انتقاء لفظ، وحسن معنى؛ فوجدت ملاحظات روعيت أثناء المحاكمات والموازنات البلاغية، مما يذكر في ذلك: قول المتلمس الضبعي:

                                     وقد أتناسى الهــمّ عند احتضاره               بنـــــاجٍّ علـــــيه الصيــــعريّة مـــــكـــــدم

والصيعرية: سمة توسم بها النوق دون الجمال، فقال طرفة ابن العبد استنوق الجمل، فضحك الناس منه وسارت مثلا؛ فالمتلمس استعار صفة النوق للجمل، فلم يرها طرفة مقبولة، وهذه الاستعارة هي الاستعارة السيئة غير المفيدة التي ذكرها البلاغيون فيما بعد، وذكروا أيضا أن النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فدخل إليه حسان وعنده الأعشى، وقد أنشده شعره وأنشدته الخنساء إحدى مراثيها:

                                             قذىً بعينك أم بالعين عوارُ                   أم ذَرَفَت إذ خلت من أهلها الدار

فقال النابغة: لولا أن أبا بصير (الأعشى) أنشدني آنفا  لقلت أنك أشعر الجنّ والإنس، فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك، فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:

                                       فإنّك كالليل الذي هو مدركي                     وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

ثم قال حسان:

                                       لنا الجفنات الغرّ  يلمعن بالضحى           وأسيافنا يقطرن من نجدة دما      

                                      ولدنا بني العنقاء وابني   محرق                 فأكرم بنا خالا وأكرم بنا اِبنما 

فقال النابغة: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، قللت من جفانك، فلو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت يلمعن في الضحى، ولو قلت يبرقن في الدجى  لكان أبلغ، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت يقطرن من نجدة دما؛ فدللت على قلة القتلى، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم.

هكذا كانت هذه الأحكام بين متنافسي الشعر مستهلا للفكر البلاغي العربي.

ب‌-   البلاغة في صدر الإسلام:

بمجيء الإسلام ودخول كل القبائل العربية فيه أصبح القرآن مفخرة للعرب، لأنه جاء بلغتهم العربية، وقد بهروا بجمال لفظه ولطف معناه ومتانة نظمه، وهم أهل الخطابة والبيان، وكان قد شهد فيه من هو عالم بالشعر والخطابة، وهو الوليد بن المغيرة، فقال حين سمع القرآن: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ماتحته، وإنه ليعلو، وما يعلى عليه. وهذه شهادة أهل البلاغة واللّسن الذين يمتلكون قدرات التفريق بين البليغ والأبلغ، وقريش بالذات كانت قبيلة مشهود لها بذلك، "فالعرب كانت تعرض أشعارها على قريش فما قبلوه منها كان مقبولا، وماردوه منها كان مردودا".

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قريشيا فصيحا، بل كان أفصح العرب عليه الصلاة والسلام، فكان ينتقي من غير تكلف، الألفاظ المناسبة للمعاني المناسبة،  وقد وصفه الجاحظ: "لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا عدلا ووزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في  فحوى من كلامه"، صلى الله عليه وسلم، وقد شدّ على يدّ الشعراء وأشاد بشعرهم؛ من ذلك قوله لحسان بن ثابت: "قل وروح القدس معك"، وقوله عند سماع بيت من النابغة الجعدي وهو:

                                            بلغنا السماء مجدنا وجدودنا       وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا فُضَ فوك"،

استمر تجمع وفود العرب التي تتدارس الشعر والخطب، في عهد الخلفاء الراشدين، فجرت  المفاضلات  بين الشعراء والخطباء، والخلفاء الراشدين أهل فصاحة بدورهم، ومما يذكر من الملاحظات البلاغية في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنه حين عرض لرجل معه ثوب، فقال له: أتبيع الثوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله، فتأذى الصديق مما فهم من ظاهر القول، إذ ظن أنه يدعو عليه، فقال له لقد علمتم لو كنتم تعلمون قل: لا، وعافاك الله؛ وهذا ما عرف لاحقا لدى البلاغيين بالفصل والوصل.

ج-المرحلة الأموية:  في هذه المرحلة حاول العرب الحفاظ على تقدمهم في البلاغة،

سأل معاوية ابن أبي سفيان صحارا ابن عياش العبدي "ما تعدون البلاغة فيكم؟" قال: الإيجاز، قال: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن نجيب فلا نبطئ، ونقول فلا نخطئ. وفي هذه المرحلة عاد نشاط الأسواق الأدبية كسوق "المربد" بالبصرة، وسوق الكناسة في الكوفة. مما بروى من ذلك أن ذا الرمة كان ينشد بسوق الكناسة في الكوفة إحدى قصائده فلما وصل إلى قوله:

                                                  إذا غير النأي المحبين لم يكد       رسيس الهوى من حب مية يبرح

صاح به ابن شبرمة: أراه قد برح وكأنه لم يعجبه التعبير بقوله لم يكد، فكف ذو الرمة ناقته بزمامها وجعل يتأخر بها ويفكر ثم عاد فأنشد:                               النأي إذا غير المحبين لم أجد         رسيس الهوى من حب مية يبرح      

فكان تخير اللفظ والمعنى مظهرا  مهما في الأحكام البلاغية في هذا العصر،  من ذلك أيضا قول عبد الملك ابن مروان لعبيد الله بن قيس الرقيات، حيث عتب عليه في مدحه إياه: إنك قلت في مصعب بن الزبير:

                                                  إنما مصعب شهاب من الله             تجـــلـــت عن وجهه الـــظلمـــاء       

وقلت فيّ:

                                                         يأتلق التاج فوق مفرقه                    على جبين كأنـــــه الـــذهـــب  

فوجهُ عتب عبد الملك عتب عبد الله: إنما هو من أجل هذا المادح  عدل به عن الفضائل النفسية التي منها هي الشجاعة، ووصل إليه ما يليق بأوصاف الجسم في البهاء والزينة، فقال: أعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم وأعطيتني من المدح مالا فخر فيه وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة.

ومن يطّلع على أخبار الشعراء في هذا العصر يجد من الجماليات البلاغية ما يجعل هذا عصر وريث للبلاغة في الجاهلية ، فقد برع الفرزدق وجرير في فن الهجاء القديم، ومن نتائج ذلك شعر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل،

د-العصر العباسي:  

ازدهرت الملاحظات البلاغية  في العصر العباسي؛ حيث تطور النثر والشعر مع تطور الحياة والحضارة،  وقد نشأت طوائف من العلماء، منها ما عنيّ باللغة والشعر، وهي طائفة اللغوين والنحاة، ومنها ما عنيّ بالخطابة والمناظرة، وهي طائفة الأدباء، أدى هذا إلى نمو البحث البلاغي وازدهاره، فانتشرت الملاحظات البلاغية انطلاقا من سبويه، وصولا إلى عبد القاهر الجرجاني.

يمكن تلخيص نشأة البلاغة في ثلاث مراحل:

مرحلة النشـأة: وهي عبارة عن أفكار وملاحظات ممارسة في حياة العرب، وما وجد من ملاحظات وأفكار داخل مصنفات لعلوم أخرى نشأت قبل نشوء علم البلاغة كعلم مستقل.

مرحلة التكامل المشترك: توضحت الأفكار البلاغية ونضجت بشكل واضح، لكنها ظلت مختلطة بعلوم أخرى.

مرحلة الاستقرار والتفرد: فيها استقلت البلاغة، وصارت علما متكامل المعالم، أقسامه واضحة، له مؤلفاته الخاصة.



Last modified: Friday, 29 November 2024, 11:15 PM