مفاهيم (النظرية، المدرسة، الاتجاه...)
من المعلوم أن المصطلحات مفاتيح العلوم، ولذلك يحسن استهلال مادة النظريات اللسانية المعاصرة بالتطرق لمفاهيم عامة متعلقة بمصطلحات متقاربة غير أنها ليست مترادفة، ومن ذلك مصطلحات النظرية، المدرسة، الحلقة، الاتجاه...إلخ. مع الإشارة إلى أنه كثيرا ما يوصف مصطلح ما كالبنيوية أو الوظيفية أو غيرهما بأنه مدرسة أحيانا ونظرية أو اتجاه أحيانا أخرى فيقال المدرسة الوظيفية كما يقال النظرية الوظيفية ويقال المدرسة التوليدية التحويلية كما يقال النظرية التوليدية التحويلية! ومن المعلوم أيضا أن لكل مصطلح دلالة لغوية سابقة وأخرى اصطلاحية لاحقة تم التعارف عليها بين أهلها في إطار علم أو فن معينَين
مفهوم النظرية: النظرية لغة من الجذر (ن، ظ، ر) قال ابن فارس:" النون والظاء والراء أصلٌ صحيح يرجع فروعُه إلى معنىً واحد وهو تأمُّلُ الشّيءِ ومعاينتُه، ثم يُستعار ويُتَّسَع فيه. فيقال: نظرت إلى الشّيءِ أنظُر إليه، إذا عاينْتَه." ( ابن فارس- المقاييس- تح: عبد السلام محمد هارون- اتحاد الكتاب العرب، 2002م، ج5 ص 329.)... أما اصطلاحا فهي كما عرفها عبد القادر الفاسي الفهري " بناء عقلي يتوق إلى ربط أكبر عدد من الظواهر الملاحظة بقوانين خاصة تكوّن مجموعة متّسقة يحكمها مبدأ عام هو مبدأ التفسير" ( عبد القادر الفاسي الفهري- اللسانيات واللغة العربية-ط1، منشورات عويدات، بيروت، 1986م، ص 13. نقلا عن: منزلة المعنى في نظرية النحو العربي- لطيفة ابراهيم النجار-ط1، دار العالم العربي للنشر والتوزيع، دبي، 2003م، ص 174.)
ولا بد من الإشارة إلى أن لكل نظرية لسانية منطلقات فكرية وخلفيات فلسفية تستند إليها، فلا يمكن في الغالب الحديث عن نظرية منطلقة من فراغ على الرغم من كونها تكوينا افتراضيا يمكّن الباحثَ من تفسير بعض الظواهر المعينة أو عرض بعض الحوادث التي هو مهتم بها.
ومن شروط النظرية اللغوية المقترحة التي تسعى الى فرض نفسها ان تتجاوز بقيةَ النظريات اللسانية الكائنة - قديمها وحديثها- وذلك باستيعابها صواب النظريات والنماذج السابقة، وتصويبها هفواتها المعرفية، وسدِها ثغراتها المنهجية، ومن ثم وجب أن تتوفر فيها القدرة على حل ازمة فكرية متجذرة في حقل الدراسات اللغوية. كما ان من شروطها ايضا ان يُشكل وجود النظرية المستحدثة نظرةً جديدة الى اللغة اذا طورت هذه النظرية معرفتنا باللغات البشرية، ويفترض عندئذ ان تحدث ثورة علمية في حقل الدراسات اللغوية، اذا حصرت الانماط اللغوية ووفرت مت يلزم من النماذج النحوية. ( محمد الأوراغي- نظريات اللسانيات النسبية، دواعي النشأة ، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2010م، ص 10، 11.)
كما يجب أن تخضع كل نظرية للتجريب والمساءلة ومحاولة تكذيبها أيضا، فمن خلال ذلك يتم تقويمها فيشتد عودها وتثبت صحتها، لأن " الفكر لا تكتمل له قدرة الإبداع إلا حين يعي نفسه، ويلتف على حضوره بما يجعل منه فاعلا للمساءلة وموضوعا لها" ( جابر عصفور- نظريات معاصرة ، مكتبة الاسرة، مصر، 1998م، ص 16.) وكذلك الأمر بالنسبة للفكر اللساني الذي يسعى لأن يصنع لنفسه مكانةً بين العلوم بما يطرحه من نظريات علمية متكاملة الأركان، ف " اللسانيات مثلها في ذلك مثل سائر العلوم لا تختص فقط بمجرد تجميع الحقائق بل تختص أيضا ببناء نسق من المفاهيم المجردة مما يعتبر تفسيرا أو تعليلا كافيا للخواص التي تبرزها اللغات" ( راث كيمبسون- نظرية علم الدلالة (السيمونطيقا)، تر: عبد القادر قنيني -ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، 2009، ص 3، 4.)
ولأن النظريات تشكل أساسا متينا في بناء المعرفة وجب عدم الخلط بينها وبين مصطلحات أخرى كوجهة النظر، والرأي، والاتجاه...إلخ، لكون النظرية أكثر صدقا ودقة وعلمية مقارنةً بالاتجاهات والآراء ووجهات النظر.
مفهوم المدرسة:
المدرسة اسم مكان لما يتم فيه الدرسُ والنظر العلمي العميق، وهو لغة من الجذر(د، ر، س) وقد جاء في اللسان " ودُرِسَ الطعامُ يُدْرسُ دِراساً إِذا دِيسَ... ودَرَسُوا الحِنْطَة دِراساً أَي داسُوها... ودَرَسَ الناقة يَدْرُسُها دَرْساً راضها... ودَرَسَ الكتابَ يَدْرُسُه دَرْساً ودِراسَةً ودارَسَه من ذلك كأَنه عانده حتى انقاد لحفظه... ودَرَسْتُ الكتاب أَدْرُسُه دَرْساً أَي ذللته بكثرة القراءة حتى خَفَّ حفظه عليَّ " ( ابن منظور- لسان العرب- تح: اليازجي وآخرون- دار صادر، بيروت- ط1، 2002م، ج6 ص 79.)... أما اصطلاحا فلا يرتبط مفهوم المدرسة بالمكان بقدر ما يرتبط بالمذهب ووجهة النظر، وقد جاء في المعجم الوسيط:" المدرسة جماعة من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين تعتنق مذهبا معينا أو تقول برأي مشترك، ويقال هو من مدرسة فلان على رأيه ومذهبه." ( المعجم الوسيط / إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار تح: مجمع اللغة العربية دار الدعوة ج 1 ص 280)
وهي عند محمد حسين آل ياسين " لفظ يطلق على جماعة من الدارسين تشترك في وجهة النظر، ويكون لها منهج خاص يؤلف منها جبهة علمية، ويرتبط أفرادها برباط الرأي الموحد." ( الدراسات اللغوية عند العرب إلى نهاية القرن الثالث/ محمد حسين آل ياسين منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان ط 1 1980م ص 392)
وللمدرسة شروط بغض النظر عن كونها مدرسة لسانية أو نحوية أو أدبية أو نقدية أو غيرها، وقد عرف أحمد مختار عمر المدرسة ممثلا بالمدرسة النحوية بقوله:" إن هذا المصطلح يعني في نظرنا وجود جماعة من النحاة، يصل بينهم رباط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو. ولابد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج، والتابعون أو المريدون الذين يقتفون خطاه ويتبنون منهجه، ويعملون على تطويره والدفاع عنه. فاستمرار النظرية، أو المنهج، ودوامها عبر السنين شرط أساسي لتكون المدرسة التي لا يمكن أن تستحق هذا الاسم، أو يعترف بوجودها بمجرد مولد النظرية أو خلقها، حتى تعيش ويكتب لها البقاء لبعض الوقت بين المريدين." ( البحث اللغوي عند العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر / أحمد مختار عمر عالم الكتب القاهرة مصر ط 6 1988م ص 128)
فمصطلح المدرسة مصطلح حديث في البيئة العربية ينم عن تأثر بالغربيين الذين شاع عندهم هذا المصطلح خاصة في الدراسات الأدبية كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومنسية والمدرسة الواقعية والمدرسة الرمزية، وكذلك الدراسات اللسانية كمدرسة جنيف والمدرسة التوزيعية والمدرسة السياقية... وتعود بدايات استخدام هذا المصطلح في البيئة العربية إلى المستشرق كوتولد فايل G.Weil في مقدمة كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) لأبي البركات الأنباري، وقد تبعه كارل بروكلمان في كتاب (تاريخ الأدب العربي). أما من أوائل العرب استخداما لهذا المصطلح في الدراسات اللغوية فنذكر الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو)، ثم شوقي ضيف من خلال كتابه (المدارس النحوية) وعبد الرحمن السيد من خلال كتابه (مدرسة البصرة النحوية ). (ينظر: المدارس النحوية / خديجة الحديثي دار الأمل إربد الأردن ط 3 2001م ص 13)
مفهوم الاتجاه: الاتجاه لغة من الجذر(و، ج، ه)، جاء في المقاييس " الواو والجيم والهاء: أصلٌ واحد يدلُّ على مقابلةٍ لشيء... والوِجهة: كلُّ موضعٍ استقبلتَه. قال الله تعالى:{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } [البقرة 148]. ووجَّهت الشَّيءَ: جعلتُه على جهة(1). وأصل جِهَتهِ وِجْهَته." ( ابن فارس- المقاييس- تح: عبد السلام محمد هارون- اتحاد الكتاب العرب، 2002م، ج6 ص 66، 67.)، وقد جاء في اللسان في شرحه مادة ( وجه) ما يدور حول الطريق والمقصد والميل، ومن ذلك قوله:" واتَّجَهَ له رأْيٌ أَي سَنَحَ... ووَجْهُ الكلام السبيلُ الذي تقصده به... والجِهَةُ والوِجْهَةُ جميعاً الموضعُ الذي تَتَوَجَّهُ إليه وتقصده وضَلَّ وِجْهَةَ أَمْرهِ أَي قَصْدَهُ... والجهة النحو تقول كذا على جهة كذا... وتوَجَّه إليه ذهب... واتَّجَهَ له رأْيٌ أَي سَنَحَ وهو افْتَعَل... والوُجاهُ والتُّجاهُ الوجْهُ الذي تقصده." ( لسان العرب - ابن منظور دار صادر – بيروت، لبنان ط 1 ج 13 ص 555) فلفظ الاتجاه كما يبدو من خلال المفهوم اللغوي شبيه بدلالة لفظ المذهب أو المدرسة ذات الاتجاه أو الفكر المعين الذي يختلف عن فكر مدرسة أخرى، إلا أن الاتجاه قد يكون أخص من المذهب والمدرسة وأقل شأنا منهما، كأنْ يكون في المدرسة الواحدة اتجاهات مختلفة تضمها تلك المدرسة، أو أن يكون خاصا بشخص واحد، كالاتجاه الخاص بأندري مارتيني داخل المدرسة الوظيفية، والاتجاه الخاص بالبراغيين داخل المدرسة نفسها، فلا يرقى الاتجاه إلى وسمِه بالمدرسة غالبا، لأن هذه الأخيرة تتشكل من مجموعة من الآراء والنظريات وحتى الاتجاهات، ولعل ما نستأنس به في هذا التفريق عناوينَ كتب ومؤلفات جاء فيها لفظُ الاتجاه دون أن يحمل ما يحمله لفظُ المدرسة من دلالة، ككتاب اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري لمحمد مصطفى هدارة، وكتاب اتجاهات الهجاء في القرن الثالث الهجري لقحطان رشيد التميمي، وكتاب اتجاهات الشعر العربي المعاصر لإحسان عباس، وكتاب اتّجاهات البحث اللغوي في العالم العربي للدكتور رياض زكي قاسم، وكتاب اتجاهات معاصرة في صناعة المعجمات العامة للدكتور محمود فهمي حجازي. فكل تلك الاتجاهات المذكورة في تلك المؤلفات المختلفة لا ترقي لأن تكون مدارس مستقلة قائمة بذاتها.