محمود المسعدي :

نشأته

كاتب ومفكر تونسي. ولد سنة 1915 في قرية " تازركة " ولاية نابل بتونس. وبدأ تعليمه في كتّاب القرية حيث أتم حفظ القرآن قبل أن يبدأ مرحلة التعليم الابتدائي في العاصمة. ثم أتم الدراسة الثانوية في المعهد الصادقي عام 1933وفي العام نفسه، التحق بكلية الآداب بجامعة السوربون ليدرس اللغة العربية وآدابها، وتخرج منها عام 1936، وشرع في إعداد رسالته الأولى " مدرسة أبي نواس الشعرية "، ورسالته الثانية حول " الإيقاع في السجع العربي "، إلا أن الحرب العالمية الثانية قد حالت دون إتمامهما. ونشرت الثانية، لاحقاً، بالعربية والفرنسية. وقام المسعدي بالتدريس الجامعي في كل من تونس وفرنسا.

وإلى جانب التدريس الجامعي، انخرط المسعدي في السياسة، حيث تولى مسؤولية شؤون التعليم في حركة الإستقلال الوطني التي التحق بها مناضلا ضد الإستعمار الفرنسي، كما لعب دورا قياديا في العمل النقابي للمعلمين.

بعد الاستقلال عام 1956، تولى المسعدي وزارة التربية القومية، وحيث أسس الجامعة التونسية، وكان قد تمكن من إقرار مجانية التعليم لكل طفل تونسي وفي 1976، تولى المسعدي وزارة الشؤون الثقافية وبالإضافة إلى تلك المسئوليات، كان للكاتب نشاط وافر في منظمتي اليونسكو و مجمع اللغة العربية في الأردن. وكذلك أشرف على مجلة " المباحث " عام 1944، ثم على مجلة "الحياة الثقافية" عام 1975.

كتب المسعدي أعماله الهامة بين العامين 1939 و 1947وتكشف هذه الأعمال عن التأثير القرآن على تكوينه الفكري والعقائدي وعلى أسلوبه. كما تنم أعماله عن إحاطته بأعمال المفكرين المسلمين في مختلف العصور، وبالأدب العربي القديم التي بدأ اهتمامه بها منذ مرحلة دراسته الثانوية، بالإضافة إلى اطلاعه الواسع العميق على الآداب الفرنسية خاصة والغربية عامة.

انتُدب للتدريس بمركز الدراسات الإسلامية في باريس عام 1952م. تقلد عدة مسؤوليات في نطاق حركة التحرير الوطني. انضم إلى الحركة النقابية رئيسا للجامعة القومية لنقابات التعليم وأمينًا عامًا مساعدًا للاتحاد العام التونسي للشغل من سنة 1948م إلى 1954م. شارك في المفاوضات التونسية الفرنسية التي أفضت إلى الاستقلال الداخلي سنة 1955م. بعد الاستقلال انتخب عضوًا بالبرلمان من 1959م إلى 1981م، ثم رئيسًا له من 1981م إلى 1986م. عين وزيرًا للتربية القومية، ثم وزيرًا للثقافة في الفترة من 1973 إلى 1976م. كان له أنشطة مكثفة ومسؤوليات سامية في منظمتي اليونسكو منذ عام 1958م.

مؤلفات محمود المسعدي:

 يعد الراحل محمود المسعدي من أبرز أدباء تونس، وكان له تأثير عميق في تكوين أجيال عديدة، وقد جعلت منه أعماله الخالدة أحد أبرز الأدباء العرب، وله العديد من المؤلفات أهمها: السد مسرحية السد التي بدأ المسعدي كتابتها في عام 1940م وتمت طباعتها للمرة الأولى عام 1955م، وهي الأثر الأهم لمحمود المسعدي، وتكمن أهمية الكتاب من الموضوع وزمن الكتابة والاستدعاءات الكثيرة التي استعملها المسعدي في متنه، مثل: الميثولوجيا، والأفكار الوجودية، والتراث العربي الإسلامي، في توليفة عجيبة أخرجت السد من التناول المحلي إلى النظر الإنساني الواسع كان كتاب السد خلاصة رؤية المسعدي للوضع التونسي زمن الاستعمار الفرنسي والتشوق إلى الاستقلال، لكن لغته وأسلوبه وثقافة الكاتب حولته إلى أثر إنساني لا يموت.

 حدث أبو هريرة قال :

حدث أبوهريرة قال كتبت عام 1940م وطبع العمل كاملًا عام 1973م، وصدرت الترجمة الألمانية عام 2009م، ويعتبر هذا النص من أهم النصوص المؤسسة للسرد التونسي والعربي الحديث، وقد اختير كتاسع أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين، وتعد الرواية جماع أفكار المسعدي الوجودية، والفلسفية، والجمالية، إذ طرح فيها أفكاره من خلال شخصية أبي هريرة الذي خاض تجارب وجودية شتى بحثًا عن ذاته، واستلهم المسعدي نصه من التراث السردي العربي الإسلامي، واتخذ من الخبر أسلوبًا خاصًا في الكتابة نقل به مغامرات الأبطال. تأصيلا لكيان الذي جمع فيه شتات كتاباته الأدبية والفكرية طوال حياته،وهو مجموعة مقالات ومحاضرات في الأدب والفلسفة والثقافة، وهي: "صحائف كتبت على وجه الدهر مختلفات، تمحيصًا للرأي والتعبير، وحفاظًا لعهد الفكر جلاله، والقلم حريته والآباء حرمته، والجهاد آدابه، في فترات توالت وتباعدت في الزمن العديد، وتقاطعت متصلة في امتداد سؤال واحد لا يزال حتى اليوم ينشد جوابه، ومن أقدم القدم كان السؤال: "لزوم ما لا يلزم في كيان الإنسان"، كما جاء في تقديم محمود المسعدي نفسه لها.[٨] مولد النسيان رواية مولد النسيان نشرت للمرة الأولى عام 1945م، وترجمت إلى الفرنسية عام 1993م، والهولندية عام 1995م، والترجمة الألمانية صدرت في مارس 2008م.[٩] من أيام عمران نشر بوساطة رياض خليف في الشروق يوم 18/ 06/ 2005م،[١٠] وقام بتحقيقه وتقديمه الدكتور محمود طرشونة، وقرأه قراءة نقدية الناقد توفيق بكار، والذي صدر منذ أيام قليلة سيعيد الجدل الدائر حول كتاباته، لا سيّما أن آخر كتاب له صدر منذ أكثر من ربع قرن.[١١] لقد روى المسعدي قصة إنسان في مختلف مراحل حياته من النزول الى الموت في البحر وقد مر بتعرفه على امرأة والتعاطف بينه وبينها والخوض معها في جدل الحياة، فهذا الكتاب اتخذ موضوعًا لم تخرج عنه كتابات المسعدي وهو البحث في ماهية الإنسان وقضاياه الوجودية كما اتكأ على أسماء تراثية، فمثلما كان غيلان وميمونة من التراث كانت ريحانة وأبو هريرة وها هو عمران ودانية.[١٢] أشهر أقوال محمود المسعدي من أشهر أقوال الكاتب محمود المسعدي ما يأتي:[١٣] مقدار من الجنون لا بدّ منه من أجل مقدار من الحرية. الأرض طواعية للرجال الذين يملكون الأمل ويقدرون على تحدّي المستقبل. أعطوني زراعة أضمن لكم حضارة.

جوائز حاز عليها محمود المسعدي:

 من أبرز الجوائز التي حصل عليها الكاتب والمفكر محمود المسعدي ما يأتي: الصنف الأكبر من وسام الاستقلال، جوائز وطنية ودولية أخرى،وسام الاستحقاق الثقافي. الصنف الأكبر من وسام الجمهورية. جائزة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لسنة 1979م.

توفي الأديب الكبير محمود المسعدي فجر يوم الخميس الموافق السّادس عشر من شهر ديسمبر(كانون الأول) من عام 2004م، عن عمر يناهز أربع وستين عامًا، وكانت وفاته خسارة عظيمة للشعب التونسي فقد مثّل المسعدي مدرسة متفرّدة في الأدب العربي، إضافة إلى نشاطه الحكومي الواسع.

 كتب المفكر والكاتب التونسي محمود المسعدي أهم أعماله ومؤلفاته في الفترة بين العامين 1939م و1947م، وتكشف هذه الأعمال والمؤلفات عن مدى تأثره بالقرآن الكريم ومدى انعكاس ذلك على أسلوبه الأدبي، وتكوينه الفكري والعقائدي.

محمود المسعدي.. مؤسس النظام التعليمي والأديب الإنساني

"الأدب مأساة أو لا يكون".. مقولة علقت بأذهان الكثيرين وكتبها ذات يوم الكاتب والمفكر والسياسي التونسي محمود المسعدي الذي خلّد اسمه في تاريخ تونس والعالم العربي كأديب ملتزم بقضايا بلاده وواقعها وآمن أن الأدب جدّ والتزام وإحدى أهم وسائل إثبات الذات وتأصيل الكيان.

كانت أغلب دروس محمود المسعدي محاضرات تحدث خلالها بغزارة عن رسالة الأدب وجوهره

ولد محمود المسعدي في منطقة تازركة بولاية نابل في 28 جانفي/ كانون الثاني 1911. بدأ تعليمه في كتاب القرية أين أتمّ حفظ القرآن ليزاول إثر ذلك تعليمه الابتدائي في قربة. وأنهى دراسته الثانوية في المعهد الصادقي سنة 1933. وفي العام ذاته التحق بجامعة السوربون بباريس ودرس اللغة العربية وآدابها ليتخرّج سنة 1936.

لم يتمكن المسعدي بسبب الحرب العالمية الثانية من إتمام رسالته الأولى التي حملت عنوان "مدرسة أبي نواس الشعرية" ورسالته الثانية التي كانت بعنوان "الإيقاع في السجع العربي" والتي نشرت لاحقًا باللغتين العربية والفرنسية.

قام محمود المسعدي بالتدريس الجامعي في كلّ من فرنسا وتونس وكان من أكثر المربين تميزًا. ودرّس في معهد كارنو والمعهد الصادقي قبل انتدابه للتدريس في مركز الدراسات الإسلامية في باريس عام 1952. وكانت أغلب دروسه محاضرات تحدث خلالها بغزارة عن رسالة الأدب وجوهره بطريقة تقوم على الجدّ والحزم والتخاطب بعيدًا عن الابتذال وترك بصمة عميقة في نفوس تلاميذه الذين كانوا أول من يقرأ مقالاته التي كان ينشرها في مجلّة المباحث.

مسيرة محمود المسعدي الأدبية المميّزة لفتت انتباه عميد الأدب العربي طه حسين ودفعته إلى الإقرار أنه احتاج أن يقرأه ثلاث مرات

وبالتزامن مع مسيرته كأستاذ، فرض المسعدي اسمه كأحد أهم الأدباء على الصعيد العربي من خلال عدد من الأعمال والمؤلفات التي لاقت رواجًا كبيرًا على غرار "حدث أبو هريرة قال" و"السد" و"مولد النسيان" وغيرها، والتي اهتم فيها بمعالجة المنزلة الإنسانية.

مسيرة محمود المسعدي الأدبية المميّزة لفتت انتباه عميد الأدب العربي طه حسين ودفعته إلى الإقرار أنه احتاج أن يقرأه ثلاث مرات إذ قال حسين في محاضرة ألقاها في تونس سنة 1957 إنه قرأ السد مرتين واحتاج إلى قراءة ثالثة.

ولكن الكتابة والتعليم لم يبعدا محمود المسعدي عن اهتمامه والتزامه بالقضايا الوطنية إذ التحق بالنضال النقابي إلى جانب الزعيم فرحات حشاد فكان سنده الثقافي في المعركة النقابية والتحررية. تقلّد عدة مسؤوليات في نطاق حركة التحرّر الوطني وتولى رئاسة الجامعة القومية لنقابات التعليم. كما كان أمينًا عامًا مساعدًا للاتحاد العام التونسي للشغل من سنة 1948 إلى غاية 1954.

شارك المسعدي كذلك في المفاوضات التونسية الفرنسية التي كان مآلها الاستقلال الداخلي سنة 1955. وبعد الاستقلال تمّ انتخابه عضوًا في البرلمان من عام 1959 إلى 1981 ليترأسه من 1981 و1986.

مسيرة المسعدي تواصلت وتمّ تعيينه وزيرًا للتربية القومية ثمّ وزيرًا للثقافة من 1973 إلى 1976. ولعلّ بصمته تجلّت بشكل خاص وواضح وخلّفت أثرًا كبيرًا في المرحلة الأولى من بناء الدولة وتأسيس جيل متميّز في المرحلة الأولى لتونس بعد الاستقلال.

كان لمحمود المسعدي باع كبير في ما سمي بـ"العصر الذهبي" للتعليم في تونس

فقد كان لمحمود المسعدي باع كبير في ما سمي بـ"العصر الذهبي" للتعليم في تونس. فقد ساهم في إرساء نظام تربوي أفضى إلى خلق جيل متميّز ظهرت بعده رجالات ساهمت في قيادة البلاد وإطارات إداية قادت دفتها. وقام في هذا الإطار بعديد الإصلاحات فأصبح التعليم مجانيًا وإجباريًا. وتمّ التخلي عن التعليم التقليدي المتمثل في التعليم الزيتوني أساسًا والتوجه نحو تعليم عصري بات مصعدًا اجتماعيًا مكّن أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة من تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

تجربة المسعدي في إصلاح المنظومة التربوية لاقت نجاحًا باهرًا قبل أن يقع تغييرها مع بداية حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهي تجربة اعتبر وزير التربية السابق ناجي جلول في أحد حواراته أنها "كانت مرحلة تأسيس للنظام التعليمي ومرحلة كفاح ضد الأمية ونشر المدارس وأنها قد كلّلت بالنجاح".

محمود المسعدي، الذي غادرنا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2004، هو إذًا علم من الأعلام التونسية التي كانت لها بصمة في أكثر من مجال، فكان مساهمًا في خلق رجالات دولة وأستاذًا تشبّع على يديه مئات الطلبة بالأدب وجوهره ومدى التزامه بالإنسان وأديبًا ذات صيت كبير في العالم العربي. ولعّلنا اليوم بأمس الحاجة للاستئناس بتجربة المسعدي في الإصلاح التربوي حتى تنهض البلاد مجددًا من مستنقع الفقر والأمية الذي بدأت تغرق فيه من جديد.

مسرحية السد لمحمود المسعدي و التفكير الوجودي :مسرحية السد، التي بدأ المسعدي كتابتها في العام 1940، وطبعت للمرة الأولى عام 1955، هي الأثر الأهم للمسعدي. أهمية الكتاب تنبع من الموضوع وزمن الكتابة والاستدعاءات الكثيرة التي استعملها المسعدي في متنه: الميثولوجيا والتراث العربي الإسلامي والأفكار الوجودية، في توليفة عجيبة أخرجت السد من التناول المحلي إلى النظر الإنساني الواسع.
محمود المسعدي لم يكن فقط أديبا أو كاتبا أو مفكرا، كان سياسيا ونقابيا وفاعلا أساسيا في الشأن التونسي العام في مفصلين مهمين: مرحلة مقاومة الاستعمار ومرحلة بناء الدولة الوطنية. انخرط في العمل السياسي والنقابي قبل الاستقلال، توازيا مع جهده الأكاديمي والتدريسي، ثم تقلد منصب وزارة التعليم بعد الاستقلال، في زمن بورقيبة، وكان مشرفا على تنفيذ أفكار الدولة الوطنية من قبيل التعليم المجاني والإجباري. تقلد أيضا مناصب مهمة في منظمتي اليونسكو والألكسو ومجمع اللغة العربية في الأردن، قبل أن ينهي حياته السياسية رئيسا (مستقلا) لمجلس النواب في تونس بين 1981 و1987.
كان كتاب السد خلاصة رؤية المسعدي للوضع التونسي زمن الاستعمار الفرنسي والتوق إلى الاستقلال، لكن لغته ومرجعياته وثقافة الكاتب حولته إلى أثر إنساني لا يموت.

لن نجانب الصواب إن قلنا بأن هناك مؤلفات تؤثر في أصحابها حصرا، وأن هناك مصنفات تنسحب دائرة سطوتها الناعمة على جيل واحد من قرائها، وأن هناك كتبا بسطت نفوذها الاعتباري والرمزي على الجيل الذي اجترح النص خلاله ومن أجله وعلى الأجيال العاقبة له.

السدّ” للكاتب التونسي محمود المسعدي ينتمي إلى الصنف الثالث من ضروب المؤلفات، لا فقط لأنّه مدرج بيداغوجيا ضمن المقررات الرسمية لتلاميذ الباكالوريا آداب في التعليم التونسي الرسمي، بل لأن النص حامل لأوجه الفكر والفلسفة ضمن المدونة العربية والغربية، وجامع لصنوف التحبير والتعبير وحاضن لتجربة فلسفية وجودية استنبتها الكاتب المسعدي في تضاريس وتخوم العقل العربي الإسلامي.

النضال نحو الاستقلال

الكتاب على قلة صفحاته، أثار نقاشا مستفيضا بين المشتغلين في الأدب والمسرح من جهة، وبين العاملين في التحقيب المعرفي لتاريخ الأفكار والمنظومات الفلسفية من جهة ثانية

تضعنا المقاربة التاريخانية للحظة ولادة النص في أربعينات القرن الماضي حيث كان صاحب “السد” مرتحلا بين جامعات فرنسا، ومستقرئا لتجربة إنسانية قوامها الفلسفة الوجودية لجون بول سارتر بدايات اندلاع الحرب العالمية الثانية.

تجمع كافة الدراسات التاريخية على أن السد حبّر في الفترة الممتدة بين 1939 و1940، أي عسكريا واستراتيجيا في الأعوام البكر لسنوات الجمر الست على العالم برمته، وفلسفيا مع مخاض التأصيل لفلسفة قداسة التجربة الإنسانية وتقديس الحياة في مقابل براديغمات الدعاية للعرق الأفضل والجنس الأحسن، وعنصرية الهويات القاتلة في مقابل الإنسانية المقتولة.

وهي أيضا مرحلة التراكمية النضالية التونسية في وجه الاحتلال الفرنسي، مع تقاطع الفعل السياسي بالفعل النقابي وبالتأسيس الاجتهادي الديني مع مدونة فقهية جريئة للمصلح الطاهر الحداد، وهي مقدمات تلاقح روافد النضال السياسي مع الميثاقية النقابية مع الإصلاح الديني والمجتمعي، سرعان ما تجسّدت أفكارا وأسفارا في نص السد، بعد أن تجسمت تجارب معيشية خاضها محمود المسعدي مع الحزب الدستوري الحر ومع الاتحاد العام التونسي للشغل ومع تلاقيه التاريخي والمعرفي مع نخبة من الإصلاحيين الدينيين.

كما تضعنا المقاربة المعرفيّة -بمعنى تاريخ الأفكار- في مرحلة التقابس وفق مفهوم المفكر الإصلاحي التونسي محمد الطاهر بن عاشور حيث يكون التفاعل الاقتباسي من حيث المعنى والمبنى تأسيسا لمفهوم الحضارة في بعدها الإنساني.

هكذا سار محمود المسعدي بـ”السد” وبقارئيه أيضا بين ملحمة الأسطورة الإغريقية ومأساتها، وبين الوجودية واستحقاقاتها، وبين الأنثروبولوجيا العربية وملامحها اسما ورسما، وبين القلق النيتشوي تارة، وأحاديث الأنا والأنا الأعلى في المدونة الفرويدية تارة أخرى.

طرق المسعدي قبل أوان التأصيل العلمي بوابة “التناص”-من حيث تعدد روافد النصوص في المتن الواحد- لا “النصّ”، فيصعب قراءة أو استقراء السد بعين واحدة أو زاوية يتيمة أو منظومة معرفية محددة، في العمق هو تناص الفلسفات وتقاطع الأفكار واجتماع المعاني والمباني. وفي المحصلة أيضا هو التناص الذي يفرض على صاحبه عُدّة معرفية للقراءة ويفتح له آفاقا رحبة في التبصر والتمعن بعيد طي الغلاف.

كتابات المسعدي، تجربة حياة للقارئ قبل البطل، تعيد كتابات المسعدي القارئ إلى شخصه وشخوصه فتحرك فيه الساكن من الأسئلة وتضرب عاليا ركام المسلمات الرابضة وراء استمراء أنصاف الإجابات على الاستفسارات العميقة عن الذات والوجود والماهية والفعل.

جدلية السد :

الكتاب على قلة صفحاته، أثار نقاشا مستفيضا بين المشتغلين في الأدب والمسرح من جهة، وبين العاملين في التحقيب المعرفي لتاريخ الأفكار والمنظومات الفلسفية من جهة ثانية.

فبالنسبة للأوائل، حرك السد جدالا عميقا حول طبيعة النص وتصنيفه، ذلك أنه يستل من فنون الرواية الكثير من الضروب والمحددات، ويستقي من محددات المسرحية العديد من الضوابط والأشكال، ودون دخول في ملابسات النقاش وطياته، إلا أنه أفضى في المحصلة إلى “تحرير التعريف والتصنيف” بين الرواية والمسرحية.

ولئن آل الكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم على نفسه تعريف نص “بنك القلق” بأنه “مسرواية”، بمعنى التآلف والتجميع بين الرواية والمسرح في متن واحد، فإن محمود المسعدي جعل من “السد” متنا جامعا بين مختلف صنوف الكتابة وخيطا ناظما للعديد من المقاربات الفلسفية ونقطة تقاطع بين جملة من السرديات وهو بهذا كما أسلفنا الذكر ينظر ويؤصل لـ”التناص” و”التفكرية” أكثر من عمله على وحدة النص والتفكير الواحد.

ما بين “غيلان” البطل الملحمي لـ”السد” الذي يكابد المخاطر والمحاذير من أجل بناء السد على أرض قاحلة بور، قصد استحصال الزرع واستنبات الحياة، وبين “ميمونة” صاحبته ونقطة ضعفه وصوته الذي يعذبه بألوان تذكيره بالقصور عن التغيير، وبين “صاهبّاء” آلهة القحط والجفاف والقيظ التي تتوعده بالويل والثبور إن هو كابد حلمه وكابر ضعفه، وبين “ميارى” القوة النقيضة لميمونة حيث الدفع إلى الفعل والتحريض على مقاومة صاهبّاء، من الصعب على القارئ أن يحدد مجال الزمان والمكان في سردية السد، فتقريبا لا وجود لمحددات مكان معين أو ضوابط زمان دقيق على طول المتن، فقد يكون المطلق من الأحياز هو المراد بالنص، ذلك أن إنسانية المقصد والرسالة وأنسنة الموضوع والمراوحة بين ميكانيزمات تفكير عديدة وكثيرة قد تكون دفعت المسعدي إلى اختيار أرض بلا جغرافيا وزمن بلا تاريخ.

على مدى فصول السد وضع المسعدي بطله غيلان وسط ملحمية إثبات الذات وتكريس الفعل في وجه إرادة الآلهة صاهبّاء، متبوعة بجمع من زبانيتها الذين لم يترددوا في وضع العراقيل والحواجز أمام غيلان وسده.

المفارقة أنه كلما ازدادت الأوضاع سوءا والآلهة غضبا والأتباع تمردا أو نفورا وميمونة تثبيطا، كان منسوب التحدي لدى غيلان يزيد باطراد وكان استحقاق المكاسرة والمحاربة يفيض من لسانه ويهيج به وجدانه كلما اقتربت لحظة المواجهة. فالأرض لا تتحمل إلهين اثنين، والسدّ لا يقبل فرضيتين متقابلتين، فإما أرض قاحلة بور يمتد السواد فيها بلا نهاية، وإما سد يحول الأرض إلى مجال فعل وبناء وتغيير.

هكذا قال غيلان متوعدا الأرض وصاحبتها صاهبّاء “هذه الأرض المتجعّدة المغبارُ كالعجوز الفاجرة لأُحْبِلنّها ماء فأملأنَّ بطنها فأخرجنّ حياةً”، فهو المؤمن بأنّه “ليس في الحدود والعراقيل حد واحد ولا عقال واحد يعجز عن كسره العزمُ”.

على مدى فصول السد وضع المسعدي بطله غيلان وسط ملحمية تكريس الفعل في وجه إرادة الآلهة صاهباء، متبوعة بجمع من زبانيتها

أما وعيد صاهبّاء لغيلان فكان تكريسه في الفصل النهائي لكتاب السد، حيث تلبدت السماء بالغيوم واكفهرت سحب الغضب والانتقام، وارتفع غيلان من الأرض إلى عنان السماء.

هكذا أنهى المسعدي نصه، فإما حياة الملحميين في الأرض وإما ختام الخالدين في السماء، بقي سد غيلان مشروعا بلا نهاية عسى أن يجول في خاطر قارئ نص المسعدي أن هناك أكثر من سد على أراضينا لا تزال تنتظر أمثال غيلان لاستكمال المشروع. فمسار الاجتهاد الفكري والثقافي سد غير مكتمل البناء، ومسار السيادة الاقتصادية والاجتماعية سدّ ثان لم تجسر هوّته بعد، وما أكثر السدود غير المنتهية في أوطاننا.

عبر الأستاذ الجامعي محمود طرشونة عن نص “السد” بأنه “أدب المريد”، حيث يصبح الأدب مجالا لفعل الإرادة الإنسانية وتكريسا لرغبة الإنسان في التغيير والتأصيل وتحدي “آلهات” الجمود والتخلّف والركون، فيما أكد الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي الراحل توفيق بكار في مقدمته الشهيرة أن غيلان بنى سده بالحجارة والمسعد يبني “سده” بالعبارة، وبين قوة الحجارة وجزالة العبارة سطوة الملحمية الإنسانية حين تهفو إلى البناء والتأصيل.

من المحلي إلى الإنساني

عبارات المسعدي، هي في المحصلة أيضا قاطرة الارتحال من المحلي إلى الإنساني، فالنصّ قُدّ بأسلوب لغويّ أثيل أصيل متجذر في روافد النصوص الدينية الإسلامية، ليكون النص جامعا بين المبنى القرآني الجمالي والمعنى الملحمي الوجودي، وهو مفصل طريف وقفت عنده الكثير من الدراسات اللغوية والألسنية في الجامعة التونسية على رأسها دراسة الدكتورة ألفة يوسف حول تأثير النص القرآني في كتابات المسعدي، السد نموذجا.

وعلى أثر السد وآثاره أيضا، كتب المسعدي كتابه “حدّث أبو هريرة قال”، وهناك من يعتبر أنه كتابه الأول قبل السد، وفي كلتا الحالتين فإن الفترة ما بين المؤلفين لا تتجاوز الأشهر، و”تأصيلا لكيان” و”مولد النسيان” 1945، و”من أيام عمران” نشر في 2002، كلها مؤلفات تدور حول ماهية الذات وكينونة الإنسان والمطلب الوجودي.

صحيح أن كتابات محمود المسعدي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ولكن أثرها تجاوز الجيل الواحد والتراب الواحد أيضا، فمعظم كتاباته انتشرت في أوروبا وترجمت أعماله إلى الفرنسية والإسبانية والألمانية والهولندية وغيرها من الألسن.

ولئن نال الاستشراق من كتابات المسعدي النصيب الوفير، فإن كتابات المسعدي وعلى رأسها “السد” و”حدث أبو هريرة قال” لم تجد طريقا سلسا وسهلا إلى الجامعات العربية والخليجية على وجه التحديد، وعانت مؤلفاته في بعض الأقطار المنغلقة والمتحجرة من سطوة صورة نمطية سلبية ومن فاجعة عقال عقل عربي لم تتردد بنيته الارتكاسية يوما في إحراق كتب ابن رشد، الأمر الذي حال دون تفاعل مغربي مشرقي حقيقي حيال مدونة فكرية ومعرفية قل نظيرها مبنى ومعنى.

يقول محمود المسعدي عن منع كتبه في مرحلة سابقة من دخول بعض المعارض العربية “أعرف أنهم يعرفون عما ننتج في تونس القليل، وأعرف أيضا أنهم يعرفون القليل عن القليل أيضا”، هكذا ربط المسعدي وهو محق في ذلك بين المنع وبين “قلة المعرفة”، وهكذا أيضا ربط بشكل عكسي مقابل بين “القبول والمعرفة” وبين “التنسيب والتفاعل”.

اليوم يفرض الواقع التونسي بمختلف حيثياته وملابساته استجلاب مصنف “السد”، لا فقط لأن الكثير من شباب تونس فقدوا معنى الجدوى والقيمة فرموا بأنفسهم فريسة لمياه البحر تحت عنوان “الجنة الموعودة والجثة الموءودة في المتوسط”، أو انخرطوا في الأعمال الإرهابية وباتوا بندقية للإيجار بين الأطراف المتقاتلة في أكثر من دولة عربية، ولكن أيضا لأن مشاريع البناء والإصلاح والتغيير تحتاج ملحمية المقاومة والمجابهة في وجه صاهبّاء الفساد والتهريب والبيروقراطية الرتيبة داخليا، وصاهبّاء صندوق النقد الدولي والاشتراطات المجحفة خارجيا.

تونس اليوم في حاجة إلى أمثال غيلان وميارى ذلك أنها مليئة بأمثال صاهبّاء وجواسيسها من الميليشيات والعصابات الإجرامية، والأهم من كل ما سبق أنّ تونس -على أهمية من فيها من الأدباء- في حاجة إلى نصوص من الأدب المريد للحياة تأصيلا لحياة مريدة للأدب.

المسار الأدبي:
بدأت علاقته بالأدب بتأثير من الأدباء العرب القدامى والمفكرين المسلمين الذين سنحت له فرصة التعرف على آثارهم خلال دراسته في المعهد الصادقي العريق في تونس وبعد دراسته في كلية الآداب بجامعة السوربون بباريس.

كتب أهم مؤلفاته الأدبية خلال عمله مدرسا في معهد كارنو والصادقي، ولم يمنعه إنتاجه الأدبي من الاهتمام بشؤون وطنه الرازح تحت استعمار فرنسا.

ورغم أنه توقف عن الكتابة تقريبا في الأربعينيات -خلال فترة تقلده لبعض المناصب والمسؤوليات- فإنه لم يفقد مكانته الرائدة في المشهد الأدبي العربي حتى وفاته.

يعتبر المسعدي من أهم أعلام الأدب العربي الحديث، وقد ركز أدبه على بعض قضايا الإنسان كالحياة والموت والإرادة والحرية والمسؤولية والخلق والفعل والإيمان وغيرها من المشاكل التي تحير وجود الإنسان وتحثه دوما على البحث عن ذاته وإمكاناتها وحدودها.

المؤلفات
من أعماله: "حدث أبو هريرة قال" 1938، و"السد" 1940 و"مولد النسيان"، و"السندباد والطهارة" و"من أيام عمران".

نشر عام 1982 بحثا بالفرنسية بعنوان "الإيقاع في السجع العربي"   ثم نشر مترجما سنة 1996، كما كتب افتتاحيات مجلة "المباحث" التي كان رئيس تحريرها، وألقى محاضرات جمعت في كتاب "تأصيلا لكيان" المنشور سنة 1979.

الجوائز والأوسمة
نال المسعدي الصنف الأكبر من وسام الاستقلال والصنف الأكبر من وسام الجمهورية وجائزة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لسنة 1979 ووسام الاستحقاق الثقافي وجائزة الألكسو وجوائز وطنية ودولية أخرى.

وقد كتب عنه ما يفوق 30 كتابا ورسالة جامعية فضلا عن عشرات المقالات والتسجيلات الإذاعية والتلفزية وترجمت آثاره إلى الفرنسية والإسبانية والهولندية وغيرها من اللغات.

 

 

 

 

 

 

 

Last modified: Saturday, 13 January 2024, 9:57 PM