المحاضرة الثانية عشر: الملكية الفكرية والمرجعية في الادب الرقمي
Section outline
-
إن ظهور الكتابة الرقمية التفاعلية فرض على الممارسات النقدية استحداث مفاهيم نقدية تتواءم مع هذا النمط الكتابي المستحدث من بينها: الكتابة الجماعية التي يقصد بها تعدد المبدع، ويمكن أن يعد هذا المفهوم واحدا من جملة المفاهيم التي أثمرتها علاقة الأدب بالتكنولوجيا والذي يقابل مصطلح collaborative writing في اللغة الإنجليزية، ويقصد به ذلك النمط من الكتابة الأدبية التي يتعاون في إنتاجها عدد من الأشخاص في توجه نحو الجمعية في مقابل الفردية التي سادت في الفترة السابقة[1]
ومع أن أسلوب الكتابة الجماعية أو إمكانية تعدد المبدعين للنص الأدبي الواحد أمر غير طارئ على الأدب إذ توجد محاولات وتجارب سابقة إبان العصر الورقي للنصوص الأدبية لعل مثالها البارز في أدبنا العربي الحديث رواية عالم بلا خرائط للروائيين عبد الرحمان منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، ولكن تلك التجارب ظلت تعاني من بعض المعوقات التي حالت دون انتشار هذا النوع من الكتابة الأدبية في أوساط الأدباء والمثقفين منها: أنها ظلت محاولات محدودة ومعدودة ومنها أنها كانت شبه مرفوضة لليقين الراسخ في أعماقنا حول التجربة الإبداعية وما يلفها من خصوصية وما يجب أن تتسم به من فردية مما يجعلها تتعارض مع فكرة التعددية أو الجماعية في الكتابة والتأليف[2].
كما أنها صعبة على مستوى التنفيذ إذ تحتاج إلى مبدعين متجانسين ثقافيا وفكريا ونفسيا حتى يتمكنوا من الاندماج والتلاحم مع النص على مستوى البنية والفكرة ليأتي النص في النهاية كأنه نسيج مبدع واحد لا عدة مبدعين[3]
وفي الطور الإلكتروني للأدب يبدو أن مفهوم الكتابة الجماعية بدأ يشق له طريقا بين المفاهيم السائدة على مستوى التنظير وعلى مستوى التطبيق، فالنصوص الأدبية الإلكترونية التي تعتمد على غير مبدع أكثر من أن تحصى وهذا يعني أنها تخلصت من المعوق الأول وكونها بدأت في الانتشار في الأوساط التكنو- أدبية يشير إلى أنها تخلصت من المعوق الثاني وهو الرفض الذي كانت تعاني منه نتيجة عدم قدرة المتلقي على استساغة نص أدبي يشترك في إنتاجه أكثر من مبدع[4] ، فمع دخول النص الأدبي مجال التكنولوجيا "لم يبق الأمر على حاله، تغيرت جذريا آليات تشكيل النص وتلقيه، فالكاتب ليس الوحيد الآمر الناهي الذي يشكل امتداد النص كيفما يشاء إنما هناك من يشاركه المهمة على قدم المساواة، بل ربما في أحيان تتجاوز صلاحيات هذا الأخير صلاحيات الأول، لذلك ظهرت الآن ما يعرف في أبجديات الكتابة الإلكترونية التفاعلية مصطلحات مثل: كاتب مشارك، والكتابة الجماعية، والتلقي التفاعلي إلى غيرها من المصطلحات التي بدأت دائرتها تتسع يوما بعد يوم"[5]
أما المعوق الثالث وهو صعوبة تنفيذ هذه الفكرة فقد كانت الصعوبة تتمثل في جانب واحد عندما كان الأدب ورقيا، ولكنها الآن تتمثل في أكثر من جانب بعدما أصبح الأدب إلكترونيا ويمكن على سبيل المثال أن تضاف إلى الصعوبة التي سبق ذكرها صعوبة أخرى هي ضرورة أن يمتلك المبدع خبرة تامة في مهارات الحاسوب ويستحسن في بعض لغات البرمجة أيضا.[6]
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الكتابة الجماعية بحر لجي لا يستطيع ركوبه إلا من توافرت فيه عدة صفات تعينه على ذلك، ويشترط توافر هذه الصفات في جميع أفراد فريق العمل المنوط به كتابة نص أدبي جماعي، ومنها[7]:
ü التمكن من الفن أو الجنس الأدبي الذي يكتب فيه بصورة فردية، قبل أن ينبري للكتابة الجماعية، فإذا كان أسلوب الكتابة التقليدي القائم على الفردية يجعله وحده مسؤولا عن مستوى النص الناتج، فإن أسلوب الكتابة الجماعية يوزع مسؤولية النص على الفريق كاملا، وبذلك قد يتسبب الإخفاق في اختيار فرد واحد إلى الاخفاق في النص كاملا، حتى وإن كان مستوى بقية أفراده عاليا جدا.
ü الخبرة في استخدام الحاسوب، وإتقان بعض لغات البرمجة
ü التحرر من النمط التقليدي في الكتابة الأدبية القائم على التمحور حول الفرد المبدع الواحد والإيمان بفكرة الكتابة الجماعية، وبإمكانية تعدد المبدع وبجدوى كل ذلك وبالفائدة التي سيعود بها مثل هذا المفهوم على العملية الإبداعية حيث "يتسم الأدب التفاعلي بكونه يقدم نصا مفتوحا بلا حدود، فلا يعترف بالمبدع الوحيد للنص صاحب السلطة المطلقة، بل يمنح المتلقي فرصة الإحساس بأنه مالك لكل ما يقدم هو أيضا، كما أن البدايات فيه غير محدودة والنهايات غير موحدة، تختلف من قراءة إلى أخرى ومن متلق إلى آخر، بالإضافة إلى أنه يمنح المتلقين فرصة لإثارة الحوار الحي ما يخلق تعددا للأصوات وتفاعلية عالية تزداد درجة تحققها فيه عن الأدب التقليدي(المطبوع)"[8]
ü تغييب الذاتية وتذويب الفردية في قالب الجماعية" فالأدب التفاعلي لا يعترف بالمبدع الوحيد للنص الذي عليه أن يتحرر من وهم النص المكتمل والذي لا ينتمي إلا إلى مؤلفه، وهذا مترتب على جعل جميع المتلقين والمستخدمين للنص التفاعلي مشاركين فيه، ومالكين لحق الإضافة والتعديل في النص الأصلي... ويجعل من المبدع متلقيا ومن المتلقي مبدعا، ليؤدي اتحاد هذين العنصرين إلى إنشاء نص جديد، ملك لجميع رواد الفضاء الافتراضي"[9]
ü امتلاك القدرة على التكيف مع نص يبدأه شخص آخر أو وضع فقرة لإكمال فكرة ما بدأها قبله شخص آخر، وليس هذا وفقط، ففي رواية على بعد ملمتر واحد لمحمد أستيتو على سبيل المثال لا الحصر لعب القراء دوران مهما، تلقي العمل من جهة والمساهمة في تأليفه من جهة أخرى حيث كان القراء يقترحون نهايات وأحداث مختلفة باختلاف القراء، وذلك بعد أن نزلها الكاتب على شكل فصول على صفحته الفيسبوكية.
ü امتلاك روح المنافسة العالية التي تدفع إلى الإبداع وتنمي حس الابتكار
ولا يقتصر مفهوم الكتابة الجماعية على فئة المبدعين من الأدباء والكتاب فقط، إنما يمتد ليشمل جميع من يرتبطون بالنص الأدبي الإلكتروني بسبب كالمبرمجين والمصممين وغيرهم فالمبدع الأدبي في العصر الرقمي لا يستطيع العمل بمفرده مهما كان مستوى تمكنه من التعامل مع جهاز الحاسوب ومهما كانت خبرته في البرمجة إذ يظل غالبا في حاجة إلى الاستعانة بالمبرمجين والفنيين كي يخرج عمله متقنا ودقيقا وبهذا لا يتعدد المبدع فقط في الفضاء الافتراضي إنما تتنوع طبيعته وتتعدد وظائفه أيضا[10].
فنظرية التلقي التي تعتمد على إزالة الحدود والحواجز بين المبدع والمتلقي والتي تجعل كل متلق مبدعا تنادي بتعدد القراءات وتعدد القراءات قد يعني في بعض حالاته تعدد المتلقين الذين يثري كل واحد منهم النص بطريقته الخاصة مما يحيل إلى فكرة تعدد المبدعين[11]
كما نجد أن خاصية تعدد الأصوات التي تميزت بها بعض النصوص الروائية الورقية قد تتخذ شكلا جديدا في ظل اتحاد الأدب بالتكنولوجيا وانفتاح المبدعين على آفاق الكتابة الجماعية وقبولهم بفكرة تعدد المبدع ففي حين كان المبدع سابقا هو من يضع الشخصيات ويرسم ملامحها ثم يدع كلا منها تتكلم بصوتها هي فإن المبدعين الآن غير مضطرين إلى القيام بذلك وما عليهم سوى أن يختار كل واحد منهم شخصيات مختلفة وبهذا يظهر التباين والاختلاف بين وجهات النظر بشكل طبيعي وتبدو كل شخصية أكثر تعبيرا عن ذاتها ورغباتها ودوافعها واتجاهاتها[12] .
فمن المؤكد أن العقل الجمعي يختلف عن العقل الفردي في إيجاد مشتركات متلقية لخلق سرد متنامي مبدع مختلف عن الكلاسيكيات، لأن المتعامل معها تنتج حالة توليدية تفترض احتمالات نضوجه( النص ) أكبر من العملية الفردية فالزوايا الثقافية المتحركة تحاصر الثيمات بخلفيات تمتلك مواصفات متباينة في النوعية الثقافية المكتسبة لتخلق هجينا يقترب من الصورة المستوفية لشروط الإبداع، يضاف لها مزية المنح في إعطاء فرصة واحدة متكررة لأكثر من مبدع ليضع بصماته الواضحة على منجز متفرد في خصائصه الوظيفية[13]
إذن يتميز هذا النص أو هذه التقنية بقدر من المرونة تعطي للقارئ الفرصة للمشاركة في تشكيل النص الأدبي ويوفر مساحة من الحرية في اتباع الروابط دون تدخل من أحد، قد يحفز الهايبرتكست (النص المترابط) القارئ ويشجعه على الإبحار في القراءة إذا ما اختيرت الوسائط البصرية والسمعية(الوسائط المتعددة) بإبداع على ألا تكون هذه الوسائط على حساب تهميش دور النص اللغوي ولغة النص وإلا بَطُلَ وجوده كنص أدبي وبات نوعا من لقطات بصرية سمعية تراودها الكلمات بين الحين والآخر[14]
إن سؤال الملكية الفكرية للنص الرقمي لم يطرح فقط حول النصوص التي يشاركها المبدع الأول مع متلقيه الافتراضيين بل يعتبر من الأسئلة المحرجة التي تثار أيضا حول النصوص الورقية التي حولت إلى نصوص رقمية بعد الكثير من التعديلات والتغييرات مثال ذلك قصيدة لاعب النرد للشاعر الفلسطيني محمود درويش وقد أخذتها مخرجة الرّسوم المتحرّكة والمصمّمة الإعلاميّة المصريّة نسمة رشدي Nissmah Roshdy وحولتها إلى Animation Poetry[15]، حيث اختارت المخرجة مقاطع منها كما أقدمت على ترجمتها وتلخيصها لتجعلها أكثر طواعية للتصوير البصري وظفت فيه خلفية تحمل صورة ورق البردي القديم والحبر الأسود والخط العربي مع موسيقى العود، وقد قالت عنها الناقدة ريهام حسني "إنّ القصيدة بحلتها الرقمية الجديدة تتضمن مؤثرات سمعية وبصرية تؤثر على تلقي القصيدة وفهمها وتجعلها مختلفة كليًا عن القصيدة الأصل"[16] غير أننا أمام هذا العمل الجديد نتساءل من هو المالك الحقيقي لهذا العمل هل هو محمود درويش؟ أم نسمة رشدي؟ وهل فعلها هذا ويسقط حقوق الملكية الفكرية؟
حاول العديد من الدارسين الإجابة على هذه الأسئلة المتداولة من بينهم حسين دحو الذي يقول: "لن تعتبر عدول النص الأدبي وانحرافه عن شكله النمطي ظاهرة أسلوبية فريدة، بل نخاله مطلبا حيويا يجرد النص الأدبي العربي من مفهوم الملكية الخاصة التي يتنازعها الكاتب بحق إنتاجه النص، والقارئ بفرض سلطة بث الحياة في النص عبر قراءته المختلفة له، وتبقى النصانية بينهما وبين خواص النص ذاته في شد وتجاذب لم ينتهيا إلا بتحول النص الأدبي إلى نص إلكتروني، رقمي، تفاعلي وترابطي حسب اختلاف اصطلاحات التسمية، هذا التحول الذي ألغى صك ملكية النص مصيرا إياه ملكية جماعية تقصي مفهوم التفاضل بين أطراف العملية الأدبية الإبداعية وتدعو إلى تكاملها جميعا"[17]
[1] فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص 169.
[2] المرجع نفسه، ص 169
[3] فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص 169
[4] المرجع نفسه، ص 170.
[5] جمال قالم، النص الأدبي من الورقية إلى الرقمية(آليات التشكيل والتلقي)، ص94.
[6] فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص170
[7] فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص170/171.
[8] جمال قالم، النص الأدبي من الورقية إلى الرقمية(آليات التشكيل والتلقي)، ص93
[9]فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص51.
[10] فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص171.
[11] المرجع نفسه، ص171
[12] م نفسه، ص172
[13] صالح جبار محمد الخلفاوي، القصة التفاعلية الحوار المتمدن، ع 5504، نشر بتاريخ، 27/07/2017، www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=556680، اطلع عليه بتاريخ: 16/05/2023
[14] سوسن مروة، نقد الواقعية الرقمية، صحيفة الحوار المتمدن، ع1554، نشر بتاريخ: 18/05/2006، اطلع عليه بتاريخ: 12/07/2023، على الساعة 19:48، رابط. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=65070
[16] Voir, Reham Hosny (2016). E-Lit in Arabic Universities: Status Quo and Challenges, Hyperrhiz, https://doi.org/10.20415/hyp/016.e06
[17] حسين دحو، النص الرقمي في الأدب العربي من الورقية إلى الرقمنة (وجه آخر لما بعد الحداثة)، مجلة الأثر، ع29، 2017، ص105/106.
-
الملكية الفكرية، الكتابة الجماعية، تذويب الفردية، البرمجة، التصميم، التصوير البصري
-