عوامل ظهورها
من المعاني العديدة للفلسفة "حب الحكمة"، وهي في الأصل نشاطٌ يسعى الناس من خلالهِ إلى فهم الحقيقة من عدة جوانب؛ تتمثل بحقيقة أنفسهم، وحقيقة العالم الذي يعيشون به، وحقيقة علاقتهم بالعالم، وحقيقة علاقاتهم مع بعضهم البعض، ويتم هذا من خلال طرح أسئلة عن الحياة، والإجابة عنها إجاباتٍ مختلفة، ثم مناقشة هذه الإجابات، للتوصل في النهاية إلى الحقيقة المُقنعة،وقد ساهمت عدة عوامل في ظهور الفكر الفلسفي في اليونان، والتي كانت حاضنة للفلسفة والفلاسفة والمفكرين، ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

العوامل التاريخية
مرت الحضارة الإغريقية بثلاث مراحل كبرى: العصر الهلنستي ابتداء من 300 ق.م مرورا بالعصر الكلاسيكي الذي يعد أزهى العصور اليونانية في عهد الحاكم الديمقراطي بركليس، ويمتد هذا العصر من القرن 500 إلى 350 ق.م ليعقبه العصر الأرخي وهو عصر الطغاة والمستبدين الذين حكموا أثينا بالاستبداد ناهيك عن الحكم الإسبرطي العسكري الذي سن سياسة التوسع والهيمنة على جميع مناطق اليونان، كما مد سلطة نفوذه المطلق على أثينا .وإذا كانت إسبرطة دولة عسكرية منغلقة على نفسها تهتم بتطوير قدرات جيشها على القتال والاستعداد الدائم لخوض المعارك والحروب ، فإن أثينا كانت هي المعجزة الإغريقية تهتم بالجوانب الفكرية والثقافية والاقتصادية. وستعرف أثينا في عهد بريكليس نظاما ديمقراطيا مهما أساسه احترام الدستور وحقوق المواطن اليوناني. وتتميز المدن اليونانية بأنها دول مستقلة لها أنظمتها السياسية والاقتصادية وقوانينها الخاصة في التدبير والتسيير والتنظيم، ومن أهم هذه المدن ( الدول ) أثينا وإسبرطة،وقد أطلق على اليونانيين تسمية الإغريق من قبل الرومان، لأنهم كانو يتكلمون الإغريقية، أما هم فقد كانوا يسمون أنفسهم بالآخيين أو ثم الهيلينيين (1)[1].
العوامل السياسية
لم تصل اليونان إلى حضارتها المزدهرة إلا في جو سياسي ملائم لانبثاق مقومات هذه الحضارة. فقد تخلصت الدولة المدينة وخاصة أثينا من النظام السياسي الأوليغارشي القائم على حكم الأقلية من نبلاء ورؤساء وشيوخ القبائل والعشائر الذين كانوا يملكون الأراضي الواسعة التي كان يشتغل فيها العبيد الأجانب. و ثار الأغنياء اليونانيون الجدد على الأنظمة السياسية المستبدة كالنظام الوراثي والحكم القائم على الحق الإلهي أو الحق الأسري .ومع انفتاح اليونان على شعوب البحر الأبيض المتوسط وازدهار التجارة البحرية ونمو الفلاحة والصناعة والحرف ظهرت طبقات جديدة كأرباب الصناعات والتجار الكبار والحرفيين وساهموا في ظهور النظام الديمقراطي وخاصة في عهد بريكليس وكليستين ، ذلك النظام الحر الذي يستند إلى الدستور وحرية التعبير والتمثيل والمشاركة في الانتخابات على أساس المساواة الاجتماعية ، بل كانت تخصص أجرة عمومية لكل من يتولى شؤون البلاد ويسهر على حل مشاكل المجتمع.
العوامل الفكرية
مع ازدهار الاقتصاد ودمقرطة الحكم السياسي وانفتاح الدولة على شعوب البحر الأبيض المتوسط وانصهار الثقافات، انتعشت اليونان ثقافيا وفكريا وتطورت الآداب والفنون والعلوم (2)[2]. كما ساهم انتشار الثقافة والمعرفة الطريق أمام ظهور الفلسفة اليونانية ومدارسها، وكان من أبرز مظاهر هذا الانتشار عدم اقتصار التعليم على مجموعة معينة من المجتمع وبالتالي الحق في التعليم لجميع المواطنين، وهذا ما أدى إلى فقدان الأساطير أهميتها مقابل صعود دور العقل.
العوامل الجغرافية
كانت اليونان في القديم من أهم دول البحر الأبيض المتوسط لكونها مهد المدنية والحضارة والحكمة ومرتع العقل والمنطق الإنساني. وإذا استعدنا جغرافيا اليونان إبان ازدهارها فهي تطل جنوبا على جزيرة كريت العظيمة، ويحيطها شرقا بحر إيجة وآسيا الوسطى التي كانت تمد اليونان بمعالمها الحضارية وثقافات الشرق ، وفي الغرب عبر أيونيا تقع إيطاليا وصقلية وإسبانيا، وفي الشمال تقع مقدونيا وهي عبارة عن شعوب غير متحضرة. وتتشكل اليونان على مستوى التضاريس من جبال شاهقة وهضاب مرتفعة وسواحل متقطعة ووديان متقعرة. وقد قسمت هذه التضاريس بلاد اليونان إلى أجزاء منعزلة وقطع مستقلة ساهمت في تبلور المدن التي كانت لها أنظمة خاصة في الحكم وأساليب معينة في التدبير الإداري والتسيير السياسي.
وتحولت المدينة اليونانية إلى مدينة الدولة في إطار مجتمع متجانس وموحد ومتعاون. وكانت أثينا مهد الفلسفة اليونانية وتقع في شرق إسبارطة ، وموقعها متميز واستراتيجي؛ لأنها الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى، وعبر هذه المدن كانت تنقل حضارة الشرق إلى بلاد اليونان. ومن أهم ركائز أثينا اعتمادها على مينائها وأسطولها البحري.
العوامل الاقتصادية
عرفت اليونان نهضة كبرى في المجال الاقتصادي لكونها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وكان لأثينا أسطول تجاري بحري يساعدها على الانفتاح والتبادل التجاري بين شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط.، وامتاز الاقتصاد اليوناني بازدهاره في مختلف المجالات بما فيها التجارة والصناعة والزراعة، وكل هذا ساهم في نشأة طبقات لم تكن موجودة من قبل في المجتمع اليوناني مثل طبقة التجار وأصحاب الحرف.
بالإضافة إلى هذه العوامل المختلفة، هنالك أسباب أخرى مهَّدت الطريق؛ لظهور الفلسفة اليونانيّة، وتطوُّرها، وأهمّ هذه الأسباب: التطوُّر الكبير الذي أنجزَته الحضارات التي سَبَقت حضارة اليونان، ومنها: حضارة الرافدين، وحضارة مصر، والحضارة الفينيقيّة؛ حيث ساهمَ تطوُّر هذه الحضارات بمختلف مجالاتها في ظهور الفلسفة اليونانيّة في مراكز قريبة من هذه الحضارات.
إلا أن فرديرك كوبلسون يقول: إن"الفلسفة اليونانية هي في الواقع ثمرة انجاز اليونان الخاص وثمرة قوة ذهنهم ونضارته ،تماما مثل إنجازهم الخاص في الأدب والفن" ،لقد كانت بداية الفلسفة مع اليونان لأنهم أول من حاول أن يجيب على سؤال ما أصل الكون بأسلوب علمي قائم على الملاحظة والتجربة ،وذلك مع الفلاسفة الطبيعيين الأوائل في القرن السادس قبل الميلاد الذين تجاوزوا التفسيرات الغامضة وحاولوا البحث عن أصل الكون بالنظر في مكوناته،أي فسروا الطبيعة بالطبيعة نفسها.
إضافة إلى اهتمام اليونان بالمسائل الكوسمولوجية، هتموا كذلك بالنظر في الألوهية التي بلغت أوج نضجها مع أفلاطون وأرسطو ،وكان أول من لفت الانتباه إليها الشاعر اليوناني "أكزينوفان" الذي خلُص "إلى الاعتقاد بإله واحد وصفه بأنه لا يشبه الإنسان لا في صورته ولا في فكره ،وأنه يرى ككل ويفكر ككل ويسمع ككل ،فوعي الإله ليس معتمدا لديه على أعضاء حسية أو على أي شيء يضاهيها".
كما أن أصحاب هذا الموقف أكدوا أن الحضارات الشرقية كانت متطورة في مجال الفلك والفن لكنها لم تنتج الفلسفة، ومثل هذا الموقف ولتر ستيس حيث يقول:"لقد كانت هناك حضارات عظمى في مصر والصين وآشور وهكذا، ولقد أنتجت هذه الحضارات الفن والدين ولكن ما من فلسفة يمكن الحديث عنها.
إن الفكر مع اليونان توجه نحو التجريد، وإن كانت الأجوبة التي قدموها حول أصل الكون كانت من طبيعة مادية ،فان العقل هو الذي صاغها.
اعتماد اليونان على الأسطورة في فلسفتهم لم يكن لغاية تفسير العالم برموز وصياغات غيبية ؛بل إن الأسطورة امتزجت بالتفسيرات العقلية ونتج عن ذلك نظريات فلسفية كبرى كنظرية المثل عند أفلاطون ،وهو ما يشير إلى أن الأسطورة هي من دعائم الفكر الفلسفي، وهي كذلك باقية في الوجود البشري بقاء الإنسان.