أدب الرحلة في الأندلس والمغرب
أدب الرحلة في الأندلس والمغرب.
عرف ابن جبير مستوقفا على رحلاته وخصائصها وأهميتها.
رحلة ابن جبير الأندلسي:
قام ابن جبير في الواقع بثلاث رحلات إلى الشرق العربي، واستغرقت أولاها عامين وثلاثة أشهر ونصف شهر، ومن ثالث فبراير 1182م إلى الخامس والعشرين من شهر أبريل 1185م ثم قام برحلته ثانية عند ما تم فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي.
وقام برحلة أخرى ثالثة من (سبتة) بعد وفاة زوجه عاتكة، وجاور في هذه الرحلة طويلا بمكة، ثم انتقل إلى البيت المقدس، وحط رحله أخيرا في الإسكندرية حيث أقام يعلم الناس، ويأخذ عنه الحديث والتصوف إلى أن مات سنة 614 هجرية ،1217م
وتذكر بعض المراجع أنه دون مشاهداته في هذه الرحلات الثلاث كلها في كتابه المعروف، ولكن الواقع كما يبدو من قراءة رحلته، وأنه إنما دون بها مشاهداته في رحلته الأولى، أو ترك المذكرات عنها، جمعها بعده بعض تلامذته ورتبها، كما تذكر ذلك أيضا المراجع.
وابن جبير أندلسي الأصل، عاش فترة من حياته بفاس مدرسا للحديث وملقنا للتصوف، وهو كل من هذه الأحوال يشعر كمغربي، ويتحدث كمغربي أيضا، فقد كانت الأندلس إذ ذاك مجرد جزء من الإمبراطورية الموحدية المغربية، كما إن كلمة (المغرب) على إطلاقها، كان يفهم منها ما يفهم اليوم من (المغرب العربي) (أو) (شمال إفريقيا) (وكان يدخل في هذا المفهوم أيضا: الأندلس، سواء في عهود انفصالها عن المغرب سياسيا، أو في عهود انضمامها إليه.
ورحلة ابن جبير تعد وثيقة تاريخية ذات أهمية خاصة، يجد فيها المعنى بدراسة التاريخ الإسلامي عنصرا أساسيا مهما نفتقده في معظم كتب التاريخ أو كلها فلا نجده، ذلك هو صف المجتمعات الإسلامية على اختلافيها، ومستوى معيشتها، وطرق تفكيرها وحظها من الرقي أو الانحطاط، فقد عنيت كتب التاريخ فقط، بأخبار الفتوحات والحروب، وتاريخ الملوك والقادة والزعماء، وأهملت إهمالا شنيعا الحديث عن الشعوب والمجتمعات، كأنها غير موجودة، أو كأن التاريخ لا يمكن له أن يتنزل من عليائه للحديث عنها.
ولعل رحلة ابن جبير لم يقصد بها أن تكون كتاب تاريخ، وهي في الواقع لا تعدو أن تكون مجرد مذكرات، كان صاحبها يدون فيها مشاهداته وارتساماته، ويستلهم العبرة من كل ما تقع عينه عليه ولست أدري هل كان ابن جبير يقدر وهو يدون هذه المشاهدات والارتسامات، أنه سيكون لها كل هذا الشأن، وأنها ستحظى بكل هذه العناية، وأنه سيأتي عليها زمان يجند فيه قوم من العلماء خبرتهم وعبقريتهم للبحث عن النسخ المخطوطة الباقية منها، الموزعة في أطراف العالم، لتصحيحها ومقابلتها ببعضها، ثم دفعها إلى المطبعة، لتصل عن طريقها إلى أيدي الناس.
مهما يكن، فقد حظيت رحلة ابن جبير بعناية كبيرة من المستشرقين، وطبعت عدة مرات، كان آخرها ـ فيما نعلم ـ طبعة صدرت في مصر في سنة 1955 بتحقيق الدكتور حسين نصار، مع تعليقات الهامش، وإشارات إلى ما بين النسخ من الاختلاف.
وليس هناك شك في أن هذه العناية التي حظيت بها رحلة ابن حبير، إنما تعود في الواقع إلى أهميتها الخاصة ـ التي تقدمت الإشارة إليها ـ كوثيقة تاريخية يكتبها شاهد عيان ، ويعني فيها على الخصوص بوصف المجتمعات والعادات والمستوى الفكري وأسلوب المعيشة كما يعني بوصف الآثار والمعالم التاريخية في بلد مر به، وقد ترك لنا ابن جبير في رحلته صورة حية واضحة من كل ذلك في مصر والحجاز ووالعراق والشام وصلية، كما ترك لنا صورة أخرى ـ وإن كانت أقل وضوحا ـ عن نوع العلاقات التجارية والاجتماعية بين المسلمين من جهة، والمسحيين الزاحفين على العالم الإسلامي في الحروب الصليبية من جهة أخرى، وعن مدى التأثير المتبادل بينهما في مختلف الميادين.
وتظهر قيمة رحلة ابن جبير بصورة أوضح، إذا قدرنا الظروف التاريخية التي كتبت فيها، فقد كان العالم العربي الإسلامي آنذاك هدفا لحرب توسعية استعمارية شنها الغرب المسيحي باسم الدين على العالم الإسلامي، تلك هي الحروب المعروفة في التاريخ باسم الحروب الصليبية، وقد كان العالم الإسلامي موزعا ضعيفا مختلفا مختلا، ولولا الدولة الموحدية في المغرب والدولة الأيوبية الفنية في مصر والشام، لما كان من الصعب على الغرب المسيحي، أن يبتلع الشرق المسلم وأن ينتقم منه شر انتقام، وإذا ذهبنا إلى الحملات الصليبية كانت حملات انتقامية كما يفهمها بعض المتأخرين من المؤرخين.
ويظهر من بعض المقارنات التي يعقدها ابن جبير أن الحالة في المغرب العربي والأندلس في ظل الدولة الموحدية، كانت تتسم بطابع الاستقرار والأمن والنظام والطاعة، وأن الدولة الأيوبية في عهد صلاح الدين الأيوبي، كانت مشغولة بالحروب المتوالية والمعارك المتسلسلة، على أن تفرغ لشأن المجتمعات لتنظيم أحوالها، وتحملها على الطاعة واحترام النظام، ومن ثم كانت الأمور في غاية من الفوضى والاختلال والارتباك وكانت أيدي الولاة والمسؤولين المحليين وأعوانهم مطلقة في أموال الناس، وكانت المعاملات تقوم على الاحتكار والغش والاستهتار والسرقة، وكان ابن جبير يضج من كل ذلك، يتحقق ما سمع الناس يتهامسون به مصر والحجاز وغيرهما من التنبؤ يقرب الخلاص على يد الموحدين، وإنهم يجدون ذلك مكتوبا عندهم في بعض كتب (الجفر) وقد تحققت بعض علاماته ، ولم يبق إلا أن يصبح واقعا ، مصداقا لما تحدثت به كتب (الجفر) وما أشارت إليه العلامات والإشارات.
وابن جبير هنا مجرد ناقل ومدون لما يسمع، ولعلنا نستطيع أن نستشف من هذه الأسطورة التي سمع الناس يتناقلونها في مصر والحجاز مدى ما كانت تتمتع به الدولة الموحدية آنذاك في العالم الإسلامي من الإعجاب، ونحن نعلم أن الأسطورة لا تتدخل، إلا عندما يبلغ الإعجاب حدا يصبح من الصعب معه على الجماهير أن تعبر عنه بغيرها
ويتحدث ابن جبير في كل مناسبة، وبحرارة كبيرة أحيانا، عن اختلال الأحوال في البلاد الإسلامية التي مر بها، ويذكر الشيء الكثير عن عسف الولاة وظلمهم وجشعهم، ولا يخص بثنائه إلا شخصا واحدا هو صلاح الدين الأيوبي.
والحقيقة أن إعجاب ابن جبير بشخصية صلاح الدين حد الوصف، فهو لا يفتأ في كل مناسبة يتحدث عن تقواه، ويعدد أخلاقه من كرم وحلم وشجاعة وتواضع وغير ذلك، ويسوق قصصا يدلل بها على صحة ما يقوله، ويدعو له بإخلاص لا مزيد عليه ولا ينسى في بعض وقفاته عندما يذكر الدولة الموحدية ويثني عليها، أن يقرن ذلك بالثناء على صلاح الدين والدعاء له والتنويه به.
يقول ابن جبير في إحدى هذه الوقفات: "وليحقق المحقق، ويعتقد الصحيح الاعتقاد، أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات الشرقية، فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولاحق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان، وكل من سواهم من ملوك هذا الأوان، فعلى غير الطريقة، يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذلة نديهم، ويستجلبون أموالهم بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه، ولو كان له أعوان على الحق" ويطول بنا المقام جدا إذا حاولنا أن نتتبع ابن جبير في كل مراحل رحلته، فقد كانت رحلة طويلة مفصلة ،ابتدأها من غرناطة، واجتياز البوغاز الفاصل بين المغرب والأندلس، وركب البحر إلى الإسكندرية مارا ببلاد كثيرة، وانتقل إلى القاهرة واجتاز الصعيد المصري إلى أسوان ، ثم ركب البحر الأحمر إلى جدة، وحج، وزار المقامات المقدسة، وانتقل إلى العراق والشام، وركب البحر مرة أخرى من عكة قاصدا الأندلس، مارا في طريقه بصقلية وغيرها من الجزر، وكان في كل قطر حل به يزور مدنه وقراه، ويقف على كل معالمه وآثاره التاريخية، ويجول في الأسواق، ويختلف إلى حلقات الدراسة والوعظ، ويعنى بوصف أحوال الناس في معاملاتهم ولباسهم وسلوكهم اليومي وطريقتهم في التحية، ويصف النساء ،والأطفال (في محاضرهم) وتحدث عن طرق التعليم، بل لا ينسى أن يحاول تعليل جودة (الخطوط) في الشرق بصفة عامة والمغرب، إلى غير ذلك مما لا تتأتى هنا الإشارة إليه.
وبعض الصور التي يعرضها ابن جبير من رحلته صور فكاهة ممتعة، لا يقصد التنكيت بالناس، وإنما يعرضها كمشاهدات، ويحاول أن يستخرج منها العبرة.
نذكر من هذه الصور على سبيل المثال، ما تحدث به عن بعض القبائل اليمنية، وتدعى (السرو) كانت تحمل البضائع التجارية إلى مكة في موسم الحج، فتتاجر، وتؤدي الفريضة، وقد استلفتت أحوال هذه القبائل انتباه ابن جبير فوصفها وصفا دقيقا في كثير من تصرفاتها، وكان مما وصف من ذلك طريقتهم في الصلاة، يقول:" وأما صلاتهم فلم ير في مضحكات الأعراب أظرف منها، وذلك أنهم يستقبلون البيت الكريم، فيسجدون دون ركوع، وينقرون بالسجود نقرا، ومنهم من يسجد السجدة الواحدة، ومنهم من يسجد الثنتين والثلاث و الأربع، ثم يرفعون رؤوسهم من الأرض قليلا وأيديهم مبسوطة عليها، ويلتفتون يمينا وشمالا التفات المروع، ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد، وربما تكلموا في أثناء ذلك وربما رفع أحدهم رأسه من سجود إلى صاحبه وصاح به وأوصاه بما شاء، ثم عاد إلى سجوده، إلى غير ذلك من أحوالهم الغريبة".
ومع ذلك فان ابن جبير يثني على هؤلاء (السرو) ويذكر نجدتهم واعتقادهم الصحيح، وربما كان ذلك تفكيرا منه على ما لعله تبادر إليه من أنه ذكرهم بسوء.
وهذه
صورة أخرى من الصور الفكاهة في رحلة ابن جبير، تصور لنا دهشته من مبالغة الشرقيين
في المجاملة والتحية والاحترام والتعظيم، وهي صورة لا يزال المغربي حتى الآن يقف
مندهشا منها إذا ألم بالشرق، فقد تعود المغاربة في معاملاتهم وصلاتهم الاجتماعية
على نحو من الجد قد يبلغ إلى حدا الخشونة أحيانا، وتعود الشرقيون في ذلك على
المبالغة في المجاملة وإظهار التعظيم إلى حد يبلغ الميع أحيانا، يقول ابن جبيرومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد، وامتثال
الخدمة، وتعظيم الخضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلما يقول: جاء
المملوك أو الخادم يرسم الخدمة ،كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيا، والجد
عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين
رفع وخفض، وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط، وآخر يقوم،
وعمائمهم تهوى بينهم هويا ....فيا للعجب منهم إذا تعاملوا
بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم، فبماذا يخاطبون سلاطينهم
ويعاملونهم؟ لقد تساوت الأذناب عندهم والرؤوس، ولم يميز لديهم الرئيس من الرؤوس،
فسبحان خالق الخلق أطوار لا شريك له ولا معبود سواه.
ولا يلبث ابن جبير إلا قليلا بعد الاستمرار في وصف هذه الحالة، أن يحس بالحاجة إلى التفكير والاستغفار، فيقول، أستغفر الله منهم، فإن لهم من آداب (المصافحة) عوائد تجدد لهم الإيمان، وتستوهب لهم من الله الغفران ويمضي في تعداد محاسن فضيلة المصافحة، وأنت تحس في كل ذلك، أنه لا يقصد إلا البحث عن فضيلة يمعن في تحليلها، تفكيرا عما بدر منه التنكيت بأحوال القوم.
أما القضية الكبرى التي لم تطقها أعصاب ابن جبير، ولم يستطيع صبرا عليها، والتي تعرض لها في مكان مر به، خصوصا عند نزوله في الإسكندرية، وعند وصوله إلى (عيذاب) في أقصى الصعيد المصري، وعندما اجتاز البحر الأحمر إلى جدة، فهي قضية (المكوس) أو الرسوم الجمركية كما نسميها اليوم، أو ضريبة المرور التي كان على كل مسافر أن يؤديها في كل بلد حل به.
ويبدو من شدة ضيق ابن جبير بهذه (المكوس) وأنها لم تكن معروفة بالمغرب على عهده، أو أنها على الأقل لم تكن تستخلص من الناس بمثل العنف والقسوة والإمعان في الاستنطاق والاستحلاف والتفتيش، وما إلى ذلك مما عانى منه ابن جبير، وهو الذي لا يعترف إلا بالزكوات والأعشار، على الصفة التي هي في الشرع، من تمام النصاب ومرور الحول وما إلى ذلك، وهو يرى في استخلاص المكوس من المسلمين إذلالا لهم معاملة لهم كذميين.
ومع ذلك فقد عاد ابن جبير إلى الشرق العربي مرة أخرى، بمجرد أن سمع بفتح القدس. وعاد إليه مرة ثالثة بعد وفاة زوجه، واستقر أخيرا بالإسكندرية التي كان رحلته الأولى يضج بالشكوى مما لقيه من العذاب عند النزول بها.
إن الوطن العربي كل لا يتجزأ، وقد كان ابن جبير وأضرابه من الرحالين العرب، إحدى صلات الوصل بين أجزاء هذا الوطن العربي الكبير.