قصيدة النثر

قصيدة النثر، هي: " قطعة نثر موجزة من غير إخلال، موحدة ومضغوطة كقطعة من البلور، تتراءى فيها الانعكاسات المختلفة. إنها خلق حر، ليس له من ضرورة أخرى غير رغبة المؤلف في البناء، خارجا عن كل تحديد، وشيء مضطرب إيحاءاته لا نهائية"

ينبغي على قصيدة النثر أن تتوفر على الشروط الجمالية الآتية:

1 ـ أن تكون وحدة عضوية مستقلة، تفترض إرادة واعية للانتظام في قصيدة، بحيث تقدم عالما مكتملا يتمثل في تنسيق جمالي متميز، يختلف عن الأشكال النثرية الأخرى مهما بلغت شعريتها.

2 ـ يتعين أن تكون وظيفتها الأساسية شعرية، وهذا يتطلب أن تكون بنيتها مجانية، بمعنى أنها تعتمد على فكرة اللازمنية، بحيث لا تتطور نحو هدف، ولا تعرض سلسلة أفعال أو أفكار منتظمة، مهما استخدمت من وسائل سردية أو وصفية.

3 ـ على قصيدة النثر أن تتميز بالتركيز والتكثيف، وتتلافى الاستطراد والتفصيلات التفسيرية، لأن قوتها الشعرية لا تتأتى من رقى موزونة، ولكن من تركيب مضيء مثل قطعة البلور، فالاقتصاد أهم خواصها ومنبع شعريتها.

وهي المبادئ نفسها التي اعتمدها شعراء قصيدة النثر كأنسي الحاج، الذي اشترط من أجل أن " تكون قصيدة النثر قصيدة حقا لا قطعة نثرية محملة بالشعر، شروطا ثلاثة: الإيجاز، التوهج، المجانية"، وهو ما دفعه إلى الاهتمام بالطابع الحركي للصورة استنادا إلى الفعل المضارع، التضاد، المفارقة، والرمز، كذلك التركيز على تقنية تفكيك اللغة من خلال تكسير العبارة وبعثرة عناصرها نحويا، كحذف الكثير من الحروف الرابطة بين الكلمات، وتعدية الفعل اللازم مباشرة على الضمير، أو بصريا كتفتيت الكلمات، وبعثرتها على كامل الورقة، أو ما يسمى بالاشتغال على الفضاء الكتابي، فضلا عن السرد والبناء الدرامي، كالديالوج والمونولوج، مما يفضي إلى فوضوية اللغة التي تبرر عنف نزوعه إلى التوحد بالآخر، أو الوصول إليه على الأقل ، كما نلمسه في قصيدته (رجولة):

لا تديري ظهرك وتسري، فتسير على أعقابك لهفتي:

ابقي واقفة أمامي، أو اقعدي هنا على ركبتي إذا وليت وجهك

عني، أحسك تندثرين رويدا

رويدا كما في الهواء والجو يضمحل الباز-وهكذا أبكي.

وأنا لا أود أن أمزج دمعي بغيري بوجهك.

هل تريدينني أن أشرب من اختفائك نوري كما يفعل القمر

- بالشمس ويبتهج؟

بينما بحث عبد الحميد شكيل عن نظام يخص قصيدته، كالإيقاع الصوتي الذي ينبثق عبر: المجانسة، التكرار، الروي، الصيغ الصرفية، والمحارفة التي تنهض بوضع الحرف على الحرف، أو تكرار حرف أو أكثر في بداية كلمتين متجاورتين، أو سطرين متتاليين، بحيث تضفي على القصيدة توترا محموما، لا يرتد بها نحو الغنائية، بقدر ما يجعلها ثورة على الشعر بالشعر، وهذا مثال من قصيدة عبد الحميد شكيل:

لـلريح أغنيات كثيرة،

ولـلمساء همسات كثيرة،

ولـلأعشاب رقصات كثيرة،

ولـلفقراء،

       الـغرباء مطلب واحد

       الـعودة لأحضان الطفولـة،

وفي مقابل الإيقاع البصري الذي يتأتى إثر الاستثمار المكثف لعلامات الترقيم، ومبدأ الحركة والسكون المنبثق من درامية البياض والسواد، والتشذير أو التجذير، وهو تفتيت الكلمة إلى أحرف لكسر التلاحم بين أصواتها، مما يظهره بوصفه نوعا من اللعب البصري، يقوم بإعادة ترسيم أحرف القصيدة، من أجل إبقائها مفتوحة على أشكال هندسية متناغمة، فيصبح التشظي بديلا عن الالتحام. وهو أنواع منها:

- التشذير الخطي،وهو تفتيت الكلمة دون عزلها عن سياقات الجملة، فيظهر التشذير في هذه الحالة بوصفه محوا، يحافظ على كيان العنصر اللغوي فيما يعزله، ويقطع علاقته بغيره من العناصر، تحقيقا لأقصى فاعلية وظيفية لتقنية الفجوة ، وهذا مثال عن ذلك:

ولما بلغ الفيض مداه،

     و  ا  نـ  فـ  ـر ط  العقد،

     وشرد المريد،

    لملمت شمل هذه الفاجعة،

- التشذير المائل، وهو تفتيت الكلمة إلى أحرف، وبعثرتها في فضاء الورقة، ليتضافر البياض والسواد في تشكيل منظومة تعبير صورية إيقاعية خاصة بأسلوب التقطيع الذي يماهي ويقابل النص بما يتعرض له الجسد من تقطيع في الأوصال، تحجيم لطاقة الفعل فيه ، أو كما نتمثله في المقطع الآتي: 

أيها الكائن اللغوي،

العابث في أسبلة الذين تدربوا:

على خنق البجعات، [...]

لماذا

س

    ف

        ح

           ت

              دم الوردة؟

- التشذير العمودي، وهو تفتيت الكلمة إلى أحرف، فيتمظهر خارجا عن السياق، مما يسم القصيدة بالتفكك والتهلهل، والحقيقة أنه يتبدى داخلا في السياق باعتباره نواة تغني، بل تولد السياق نفسه، فيقوى بنويا، عبر انسجامه التام مع مجموعة البناء الشكلي من جهة، والمضامين التي تنفتح عليها من جهة ثانية، وهو ما نوضحه في المثال الآتي:

عـ.. عين الوقت المتحفز

نـ.. نافذة المشتهى..

ا.. أنّة الوجد وهو يعلو في سماء البروج،

بـ.. بوصلة الروح إلى محظيات الشدو،

وهنّ يقطّرن بالوله،

عسل الأفاوية،

ة.. توشيحة القلب  [...] 

أما عز الدين المناصرة فحاول تحديد قصيدة النثر خاصته عبر تقنيات منها: تفصيح العامي، استحضار الأمثال، والعبارات الشعبية المحكية، وتكثيف استخدامه للصورة الشعرية بأنماطها: البصرية، السمعية، اللمسية، الشمية، الذوقية، وتراسل الحواس، بالإضافة إلى الرمز بأنواعه المختلفة: التراثي، الديني، والإنساني، كذلك محاولته تشويش بنية القصيدة عبر إدخال بعض البنيات الخارجة عن الجنس الشعري منها السردية، والدرامية، وتفنياتها كالحلم والاسترجاع، فضلا عن أسلوب المفارقة، خاصة اللفظية والموقف، والتناص الأدبي، الديني، والتاريخي، كذلك الإيقاع الرعوي، المقاوم، الباحث من خلال تغنيه بالخليل وجفرا عن أصوله الكنعانية، يتمظهر صوتيا إثر ترديد بعض الأصوات منها: القافية، المجانسة، والوقفة، والإيقاع البصري المتمثل في التكرار خاصة، وهذا مثال لقصيدته النثرية:

بيني وبين إيكار… مسافاتٌ ضوئية

ومع هذا، فنحن نلتقي

في نقطة واحدة من العالم

ليلا دون أن يرانا أحدْ

رغم أن الليل في بيروت مثلا

ليس شرطًا لستر الأسرارْ

هذا، وقد بلغت قصيدة النثر، في الآونة الأخيرة، منتهاها، خاصة مع أدونيس، بحيث دفع بها إلى مرحلة الكتابة، بما اجترحه من تقنيات تعبيرية عالية، مست بنية القصيدة، وطرائقها الجمالية، وأدواتها الفنية، من ذلك تذويب الأجناس الأدبية: التاريخ، التراث، الرمز، الأسطورة، السردية، الدرامية، بحيث وقف بقصيدة النثر على الأعراف، فوصفت بأنها نص شعري تهجيني مفتوح، عابر للأنواع، ومستقل ،  ليس لأنه قد حقق حضوره بأدوات يستعيرها من غيره، إنما لكونه مفارق لمفهومه، وأصوله، وطرائقه التعبيرية الجمالية على الدوام.    

 

 

المصادر والمراجع:

1 ـ أحمد بزون، قصيدة النثر العربية: الإطار النظري، دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، ط1، 1996.

2 ـ أنسي الحاج، "رجولة"، مجلة الشعر، س2، ع5، 1958.

3 ـ خالدة سعيد، حركية الإبداع، دراسات في الأدب العربي الحديث، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 1986.

4 ـ سوزان برنار، قصيدة النثر، تر: زهير مجيد مغامس، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مؤسسة الإسراء للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط2، 1999.

5 ـ صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط1، 1995.

6 ـ عبد الحميد شكيل، سنابل الحب. سنابل الرمل، منشورات وزارة الثقافة، موفم للنشر، الجزائر، 2008.

7 ـ عبد الحميد شكيل، شوق الينابيع إلى إناثها، منشورات وزارة الثقافة، موفم للنشر، الجزائر، 2008.

8 ـ عبد الحميد شكيل، كتاب الأسماء... كتاب الإشارات، منشورات وزارة الثقافة، موفم للنشر، الجزائر، 2009

9 ـ عبد الحميد شكيل، مرايا الماء: مقام بونة، منشورات وزارة الثقافة، الجزائر، ط1، 2005.

10 ـ عز الدين المناصرة، إشكالية قصيدة النثر، نص مفتوح عابر للأنواع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2002

11 ـ كمال خيربك، حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ترجمة جماعية، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط1، 1982.

12 ـ محمد صابر عبيد، الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر، الكتابة بالجسد وصراع العلامات، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2010.

13 ـ وليد منير، "التجريب في القصيدة العربية المعاصرة، أشكال التعبير عن التشظي والغياب في القصيدة العربية المعاصرة وكيفيات توظيفها"، فصول، مجلة النقد الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، مج 16، ع1، 1997.

 

 

 

 


Modifié le: lundi 19 mai 2025, 01:51