شــعـــر الــتــفــعــــيـــلـــة

تمهيد:

   شعر الشعراء بضرورة ايجاد شكل جديد ومذهب جديد في الكتابة الشعرية يستجيب لرهانات العصر، وكذا التطورات التي يشهدها الإنسان عبر الزمن في مختلف ميادين حياته، وهذا قد أتى بعد أفول نجم الرومانسية، حيث خفتت في ظل مجريات العصر، بعدما كانت المذهب الطاغي على الشعر العربي، وهذا ما تطلب ضرورة إيجاد شكل جديد ومذهب جديد في الكتابة يستجيب لمتطلبات العصر ويواكبه فظهر فن جديد أطاقوا عليه شعر التفعيلة ومسميات أخرى كثيرة.

مفهوم الشعر الحر:

الشعر الحر هو نوع من الشعر العربي الحديث الذي يتميز بعدم التقيّد بالقافية الواحدة أو بالبحر الشعري التقليدي، وهو يختلف عن الشعر العمودي الذي يعتمد على نظام التفعيلة الثابتة والقافية الموحدة في كل بيت.

تقول نازك الملائكة ماهيته تعريفه هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت و إنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر و يكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه... فأساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة و المعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر تشترط بدءا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه، فينظم الشاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة أشطرا تجري على هذا النسق:

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن

مسميات الشعر الحر:

لقد اتخذ الشعر الحر قبل البدايات الفعلية له في الخمسينيات مسميات و أنماطا مختلفة كانت مدار بحث من قبل النقاد و الباحثين ، فقد أطلقوا عليه في إرهاصاته الأولى منذ الثلاثينيات اسم " الشعر المرسل " و " النظم المرسل المنطلق " و " الشعر الجديد " و " شعر التفعيلة " أما بعد الخمسينيات فقد أطلق عليه مسمى " الشعر الحر " و من أغرب المسميات التي اقترحها بعض النقاد ما اقترحه الدكتور إحسان عباس بان يسمي " بالغصن " مستوحيا هذه التسمية من عالم الطبيعة و ليس من عالم الفن ، ألن هذا الشعر يحوي في حد ذاته تفاوتا في الطول طبيعيا كما هي الحال في أغصان الشجرة و أن للشجرة دورا هاما في الرموز و الطقوس و المواقف الإنسانية و المشابهة الفنية

نشأة شعر التفعيلة:

ظهرت أولى الكتابات الشعرية في الشعر الجديد، وهو ما يتمثّل في قصيدتي (هل كان حبا) لبدر شاكر السياب والتي ألفها سنة 1946، وقصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة والتي ألفتها سنة 1947، وهما القصيدتين اللتين انطلقت من خلالهما الحركة النقدية الجديدة، والتي اهتمت بالنص الشعري الجديد، والتي قادها الشعراء الرواد في الكتابة الشعرية الجديدة، باعتبار أن النص الشعري الجديد يمتلك معطيات فنية جديدة ويترجم معاناة الشاعر وروحه القومية.

إلا أنه لنازك الملائكة رأي آخر حيث تقول: " كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947 في العراق، و من العراق، بل من بغداد نفسها، و زحفت هذه الحركة و امتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ، و كادت بسبب الذين استجابوا لها ، تجرف أساليب شعرنا الأخرى جميعا ، و كانت أولى قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة " الكوليرا " ، ثم قصيدة " هل كان حبا " لبدر شاكر السياب من ديوانه أزهار ذابلة و كال القصيدتين نشرتا في عام 1947

ثم تعترف في نفس الكتاب بأن بدايات الشعر الحر كانت قبل سنة 1947 قائلة: " ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932 ، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين، لأني لم أقرأ بعد تلك القصائد من مصادرها، وإذا بأسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم على أحمد باكثير، ومحمد فريد أبي حديد، ومحمود حسن إسماعيل، وعرار شاعر الأردن ، ولويس عوض وسواهم.

فتقول نازك " ثم أن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه النقد الأدبي الحديث في العراق قصيدة من الشعر الحر عنوانها " بعد موتي " نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921 تحت عنوان "النظم المطلق" ، و في تلك السنة المبكرة من تاريخ الشعر الحر لم يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه  ثم تذكر نازك جزءا من القصيدة ، و تعقب قائلة : " و الظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر " ، ثم اثبتت الدراسات بأنه يوجد ما هو أقدم منه . إلا أن نازل الملائكة تنفي هذه البدايات للشعر الحر لأنها بدايات غير موفقة ألنها لم تنطبق عليها الشروط التي رسمتها لفاعلية تلك الأوليات، ومن هذه الشروط:

ـ أن يكون ناظم القصيدة واعيا إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا

. أن يقدم الشاعر قصيدته تلك أو قصائده مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة.

 ـ أن تستثير دعوته صدى بعيدا لدى النقاد والقراء.

 ـ أن يستجيب الشعراء للدعوة ويبدؤوا فورا باستعمال اللون الجديد

خصائص شعر التفعيلة.

تميز شعر التفعيلة بعدد من السمات والخصائص الفنية وأهمها:

من حيث الشكل:

ـ تعدد التفعيلات: ففي شعر التفعيلة يمكن للشاعر أن يجمع الأنواع المختلفة من التفعيلات لبحر شعري واحد في القصيدة الواحدة، كما يمكن للشاعر أن يُكرّر عددا من التفعيلات بالقدر الذي يحتاجه دون حد أو قيد.

ـ عدم التقيّد بوحدة القافية. التحرر من قيود القافية: ففي شعر التفعيلة تعد القوافي قيدًا يثقل اندفاع الشعر ويقيد انسياب العاطفة فيه، إلا أنّ ذلك لا يمنع الشاعر من اتخاذ قافية معينة لكل مقطع شعري، أو التنويع في القوافي لخلق الإيقاع الموسيقي.

ـ الجريان الشعري: وذلك يعني أن تتّصل الأسطر الشعرية مع بعضها البعض من حيث المعنى، فلا يكمل المعنى حتى يتم وصل السطر الشعري بما يليه، وهذه ميزة لشعر التفعيلة في حين أنها تعد عيبًا في الشعر العمودي.

ـ الوحدة العضوية: حيث تتميز قصائد الشعر الحر بالتّماسك العضوي من حيث الفكرة والمعنى والأسلوب وهو نتيجة للجريان الشعري، فالأسطر في القصيدة الحرة لا تنفصل بحال عن بعضها البعض كما هو الحال في الشعر العمودي.

ـ التدفق: وهي ميزة تمنحها طبيعة توظيف الأوزان العروضية في شعر التفعيلة، حيث يعتمد على تكرار وتوالي التفعيلات على نسق سلس حتى أنه يكاد يخلو من الوقفات التي تسببها النقلات الإيقاعية عند تغير التفعيلات.

ـ توظيف الرمز والأسطورة: إنّ الشعر الحر يعج بالرموز والإيحاءات الدلالية، وقد لجأ الكثير من الشعراء لتوظيف الرموز التاريخية والأسطورية في أشعارهم لكونها تستوعب الكم الأكبر من الدلالات

ـ توظيف صور شعريّة جديدة في قصيدة التفعيلة، والإكثار منها.

ـ توظيف لغة الحياة اليوميّة

من حيث المضمون:

ـ التعبير عن الواقع ومعاناته وقضاياه

ـ التجديد في الأغراض الشعري (الشعر التحرري، شعر المقاومة....)

ـ الوحدة الموضوعية.

موضوعات شعر التفعيلة:

 نظم شعراء التفعيلة في العديد من الموضوعات الشعرية وأهمها:

ـ الثورية الوطنية: لعل هذا الموضوع قد طغى على سائر الموضوعات الشعرية التي تناولها الشعر الحر، لما يتيحه هيكله البنيوي من سلاسة في العاطفة والدلالة، وقد استعان الكثير من الشعراء بالرمز في توظيف دلالاتهم وتعميقها.

ـ الغزل: هذا الموضوع الشعري يبدو أزليًا في استخدامات الأدب له شعرًا ونثرًا، فإنّ كثيرًا من الشعر العمودي قد نظم فيه وكذلك شعر التفعيلة أو الشعر الحر، ولعلّ خاصية التدفق كانت قد دعمت العاطفة فيه وجعلتها تمرّ دون كلفة أو تصنع.

ـ السياسة: إنّ الموضوعات السياسية لها حظ وافر في شعر التفعيلة، لا سيّما أنه كان قد ظهر في عهد الاستعمار، وكان الشعراء قد أولوا القضايا السياسية جل اهتمامهم في سبيل دعواتهم للإصلاح المجتمعي.

ـ الآفات المجتمعية: فقد كان شعراء التفعيلة يُحاولون تجسيد الكثير من الآفات المجتمعية التي طرأت في عصورهم ووصف الحالة التي مر بها الناس وقتذاك.

أبرز رواد شعر التفعيلة:

برز عدد كبير من الشعراء الذين نظموا قصائد في شعر التفعيلة ومنهم:

نازك الملائكة:

نازك صادق الملائكة شاعرة عراقية، من أسرة مثقفة ولدت عام 1923، وحصلت على شهادة دار المعلمين العالية عام 1944. مثلما حصلت على شهادة معهد الفنون الجميلة عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن في أميركا، وعينت أستاذة في جامعة بغداد، وجامعة البصرة، ثم جامعة الكويت.

تميزت نازك قبل بدئها بالشعر الحر كونها شاعرة رومانسية تكتب شعرا يعبر عن المشاعر بشكل مباشر، لتنتقل إلى شاعرة رمزية تختلج مشاعر الحزن أغلب قصائدها الحرة، ورغم أنها جددت في شكل القصيدة العربية إلا أنها وضعت قوانين لذلك فلم تكن القصيدة فوضوية أو دون قيود

من مجموعاتها الشعرية: عاشقة الليل وشظايا رماد وقرارة الموجة وشجر القمر ومأساة الحياة وأغنية الإنسان والصلاة والثورة وقصيده الشهيد وديوان نازك الملائكة (الأعمال الشعرية الكاملة)

تقول في قصيدة أنا:

الليلُ يسألُ من أنا

 أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرِّدُ

قنّعتُ كنهي بالسكونْ

 ولفقتُ قلبي بالظنونْ

وبقيتُ ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرونْ

 أنا من أكون؟

والريحُ تسأل من أنا

أنا روحُها الحيران

 أنكرني الزمانْ

أنا مثلها في لا مكان

 نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ

 ـ بدر شاكر السياب (1926. 1964) شاعر عراقي له العديد من الدواوين الشعرية نظم في شعر التفعيلة جل قصائده وكان من الرواد الأوائل لشعر التفعيلة، اتسمت أشعاره بالواقعية، أصيب بالمرض في سن مبكرة وقد انعكس ذلك في شعره حيث صارت ذاته محور شعره والتي كانت تتردد بين ما يحيط به من الأشياء والعلاقات، وسمي بشاعر الحرمان فقد كان شاعرا محروما ناقما على الناس أجمعين كما أنه قد انضم إلى الشيوعية لما وجد فيها من تفريغ لرغباته وطاقاته، وكان يميل لشرب الخمر والمجون في محاولة منه لنسيان واقعه.

ومن أبرز قصائده:

 لكَ الحَمدُ مَهما استطالَ البَلاءْ

 ومَهمَا استـدّ الألمْ

 لكَ الحمدُ إنّ الرّزايا عطاءْ

 وإنّ المَصيباتِ بَعضَ الكَرَمْ

ألم تُعطِني أنتَ هذا الظّلامْ

وأعْطَيتني أنتَ هذا السّحرْ؟

ـ أمل دنقل (1940 .1983) شاعر مصري له ديوانين شعريين، وكان أديبا مثقفا غير أنه أصيب بمرض السرطان وأدخل المستشفى وأجرى العديد من العمليات، وكان لهذه المرحلة الموجعة من حياته أثر كبير في وجهته الشعرية التي اكتست بثوب الحزن والتشاؤم، كما أصدر مجموعة شعرية بعنوان الغرفة 8، وهو رقم غرفته في المستشفى، وعلى الرغم من مرضه لم يتوان لحظة عن كتابة الشعر ولم يقصر في ذلك، وفي شعره وظف الرمز ودلالات الألوان والصور والتجسيد.

ومن شعره:

 في غُرَفِ العمليات

 كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ

 لونُ المعاطفِ أبيَض

 تاجُ الحَكيماتِ أبيضَ، أَرديةُ الراهبات

 الملاءاتُ

 لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن

أدونيس (1930) شاعر سوري اسمه علي سعيد إسبر، له عدد كبير من الدوواين الشعرية والكتب النثرية الفكرية، ويعد بحق شاعر الحداثة، ثار على شتى القيود المجتمعية والدينية والسياسية والأدبية، سعى لتحقيق ذاته في شعره وقام بتوظيف الأسطورة واستدعاء الشخصيات التاريخية، وكان أدونيس شاعرا مثقفا ومطلعا على آداب العرب والغرب قديمها وحديثها، وقد تأثر بتلك الآداب أيما تأثر في شعره، وقيل إنه كان له فضل كبير في نقل الشعر العربي إلى العالمية، حيث ترجمت الكثير من إنجازاته إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية وحاز على العديد من الجوائز التقديرية.

 ومن شعره:

 يُحبّني الطّريقُ والبيتُ

 وجرّةٌ في البيتِ حمراءُ

 يعشقها الماءُ

 يحبني الجار

والحقلُ والبيدرُ والنارُ

 محمود درويش (1941. 2008) شاعر فلسطيني له خمسة وعشرون ديوانا، بالإضافة إلى عدد من الكتب النثرية والمقالات الأدبية المنشورة، نظم في شعر التفعيلة والشعر النثري، اتصلت مواضيعه الشعرية بالسياسة والحداثة، وشعره غني بالرمز والأساطير حتى قيل إنه قد أسهم في نقل الشعر العربي إلى الرمزية والسوريالية، وقد مر شعره بعدة مراحل تطور فيها ونضج، حيث كان شعره في المرحلة الأولى رومانسيا، وفي المرحلة الثانية أخذ يسود فيه الخطاب الأيدولوجي حتى بدا أيدولوجيا بحتا، وفي المرحلة الثالثة غاب الخطاب الأيدولجي عن شعره وأصبح يميل للذاتية المحضة.

 ومن شعره:

يَرنو إلى أَعْلى

فَيبصِرُ نجمةً

ترنو إليهْ!

يَرنو إلى الَوادِي

 فيُبصِرُ قبرَهُ

يَرنو إليهْ لقراءة

المصادر والمراجع:

1 ـ إحسان عباس، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، دار الثقافة، بيروت، ط5، لبنان،1983.

2 ـ إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

3 ـ أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، ط5، 1988.

4 ـ أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط3، 1983.

5 ـ بدر شاكر السياب: ديوان بدر شاكر ّ السياب، دار العودة، بيروت،1971.

6 ـ جلال الخياط: الشعر العراقي الحديث:" مرحلة وتطور". دار صادر، بيروت، لبنان، 1970.

7ـ الربعي بن سلامة: تطور البناء الفني في القصيدة العربية. دار الهدى، عين مليلة،2006 .

8 ـ شوقي ضيف: الأدب المعاصر في مصر. دار المعارف، ط3، القاھرة.

9 ـ عبد الكريم الزبيدي القصيدة الحرة عند شعراء العراق الرواد في الخطاب النقدي العراقي.

10 ـ عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره، الفنية والمعنوية. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ط1، القاهرة.

11 ـ محمد زكي العشماوي: أعلام الأدب العربي الحديث واتجاهاتهم الفنية، دار المعرفة الجامعية

12 ـ مصطفى حركات، الشعر الحر قواعده وأسسه، الدار الثقافية للنشر، 1900

13 ـ نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، دار منشورات نزار، بيروت،1979.

14 ـ نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، دار العودة، بيروت، 1997.

15 ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، .1962

15 ـ يوسف الصائغ، الشعر الحر في العراق، مؤسسة الثقافة الجامعية، 2011.

 




 





Modifié le: lundi 19 mai 2025, 01:46