الحداثة الشعرية
الـحـداثـة الـشـعـريـة
ماهية الحداثة
لغة: يعتبر مصطلح الحداثة من بين المصطلحات التي شابها الغموض والالتباس نظرا إلى اختلاف النقاد والدارسين حول مفهوم شامل لها، لذلك شكل هذا المصطلح قضية إشكالية، كثر فيها الجدل، وتداخلت فيها الإيديولوجيات، وما يزال الاختلاف في تحديده قائما
الحداثة من الفعل) حدث (، نقيض) قدُم (في المعنى، وكلمة حداثة هي مصدر الفعل، أما كلمة) حديث (فهي الصفة المشبهة المشتقة من الفعل) حدث (، والحديث هو المتصف بالحداثة.
وجدت لفظة الحداثة ضمن معاجم اللغة العربية مرادفة لمعنى الحديث إلا أنها لم تحض بأهمية في الدراسات النقدية العربية القديمة. واستعيض عنها ب "المحدث" و"المولد"، ولم تستعمل الحداثة كمصطلح إجرائي وظلت اللفظة) الحداثة (مرتبطة بأصلها وجذورها اللغوي والمعجمي "حدث" كما ظلت غريبة وغير متداولة حتى ظهرت مصطلحات تقترب منها دلالة بل تجاوزتها، واكتسبت مشروعيتها في الكتابات النقدية والإبداعية على السواء كالتجديد والتحديث والحديث والمعاصرة.
اصطلاحا:
تعتبر الحداثة مصطلحا إيديولوجيا نشأ تبعا ظروف وملابسات وسياق حضاري عاشه الغرب الأوروبي، وهو في الوقت نفسه مذهب أدبي وفكري، والبعد الفكري فيه جلي لأنه لا يستهدف الجانب الأدبي الإبداعي فحسب يل ينسحب أيضا على كل جوانب الواقع الإنساني، إنه دعوة للتمرد على هذا الواقع بكل أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
يقول عنها محمد هدارة نقلا عن بعض الباحثين الغربيين: زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارة بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة.
الحداثة نقيض القدم والكلاسيكية والتقليدية، هي ذلك الوعي الجديد بمتغيرات الحياة والمستجدات الحضارية، والانسلاخ من أغلال الماضي والانعتاق من هيمنة الأسلاف ومحاولة الخروج عن الأنماط التقليدية والأشكال العتيقة، وإبداع أشكال ومضامين جديدة وغريبة.
هي انزياح على السنن المعروفة والنهج المألوف، فينعكس ذلك في لغة وصور غير مألوفة، إنها تحرير التعبير كما ذكرت "خالدة سعيد" في كتابها) حركية الإبداع (.
يعتبر أدونيس رائد الحداثة الأول وتلمودها المقدس فهي حسب رأيه: "رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتياج، تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد" وبذلك فهو يقف من الأشكال القديمة موقف الرافض باعتبار أنه لكل فترة زمانية ظروفها ومميزاتها التي تختلف غن سابقاتها. ويرى من خلال أطروحته للدكتوراه من الجامعة الأمريكية في بيروت (الثابت والمتحول. بحث في الاتباع والإبداع عند العرب) أن الحداثة وجدت بداية من العصر الجاهلي عندما خرج الصعاليك عن القيم الاجتماعية السائدة في هذا العصر، ثم جاء العصر الإسلامي الذي تأثر فيه شعراؤه بالحركة الدينية التي تجاوبوا معها ودعوا إليها، وأحدثوا ثورة على التقاليد الجاهلية، ثم ظهر الخوارج الرافضين للقيم الاجتماعية المعيشة، ولما قدم القصر العباسي تجلت بشكل واضح من خلال الصراع بين القديم والمحدث ، ومن الذين مثلوا هذه الخروج عن السائد أبو نواس وأبو تمام وبشار بن برد، ثم جاءت حركة الموشحات الأندلسية وسجلت خروجها عن بعض قواعد الشعر القديم من حيث أوزانه وقوافيه.
ويقول أدونيس في في الكتاب نفسه: " لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي. " وهذه الدعوة الصريحة والخبيثة في حد ذاتها دعوة جاهرة للثورة على الدين الإسلامي، والقيم والأخلاق العربية الإسلامية، والتخلص منها، والقضاء عليها.
في العصر الحديث تجلت الحداثة بشكل واسع وأصبحت حديث العصر في كل القنوات المسموعة والمكتوبة وأصبح البعض يدعوا للتجديد ومسايرة العصر بكل أبعاده، واختلف مفهومها من منطقة لأخرى.
ذكر أدونيس أن العرب عرفوا الحداثة وكانت تعني عندهم "التغاير والخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق مغاير" منذ القرن الثامن أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون، وهي إذن ليست مستوردة ولا دخيلة، وإنما هي ظاهرة أصلية وعميقة في الشعر العربي، ونكاد نصادف نفس النظرة عند نازك الملائكة إذ ترى أن حركة الحداثة كانت) اندفاعة اجتماعية (، وأن حركة التجديد لها جذور عميقة في تراثنا.
من أبرز رواد الحداثة ومنظريها العرب بعد ادونيس يوسف الخال وخالدة سعيد، ونذير العظمة، وأنسي الحاج، وشوقي أبو شقرا، وأسعد رزوق، ومحمد الماغوط وخليل حاوي ولويس عوض وعبد الوهاب البياتي وتوفيق صايغ وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وغيره وكلهم ينتمون إما الى الطوائف الماركسية أو النصرانية أو الشيوعية.
انتقال الحداثة إلى الأدب العربي
يؤرخ الغالبية لانتقال الحداثة إلى الأدب العربي بنكسة 1967 التي أحدثت رجة عنيفة في نفوس أفراد المجتمع العربي ولاسيما النخبة التي استيقظت على كابوس الوهم الذي كان يصدره بعض قادة الأوطان العربية للشعوب، هذه الرجة أحدثت عند بعض أفراد النخبة العربية ولاسيما في المشرق شكا في كل معطيات الثقافة العربية وتاريخها وتراثها، أو قل بأن النكسة كانت مبررا أو مشجبا عند البعض للارتماء في أحضان الغرب الاستعماري من خلال ثقافته وأدبه ونقده وفلسفته، صاحب ذلك محاولة إحداث قطيعة مع كل ما يمت بصلة مع التراث العربي الإسلامي فكرا وتاريخا وثقافة وأدبا ونقدا..
حاول الحداثيون العرب منذ أوائل السبعينيات مباشرة، أي في السنوات التي تلت النكسة وسقوط الحلم العربي، تقديم نسخة عربية لحداثة تتعامل مع واقع الحضارة الغربية الذي يدعو إلى القطيعة مع الماضي والواقع بكل مكوناته.
القصيدة الحداثية تتمرد على السائد والمألوف، وتسعى جاهدة إلى التساؤل والبحث عن الجديد، وتستبدل "النموذج باللانموذج والشكل الثابت للقصيدة بالشكل المتحرك، فلكل قصيدة شكلها الخاص وتستبدل الزمن المطلق بالمنفتح المتغير والغنائية الفردية بالغنائية الكونیة، كما تستبدل تعريف الشعر القديم المحصور في إطار جزئي إلى تعريف جديد وهو أنه تجربة شاملة وموقف من الحیاة والعالم والإنسان في إطار متحول."
تحدث (جابر عصفور) عن لحظة الحداثة وهي لحظة تمرد الأنا المبدعة على طرائق الإدراك لتكشف عن الذات وعن الواقع المحيط بها "تنبثق الحداثة من اللحظة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلـة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك، سواء أكان إدراك نفسها، من حيث هي حضور متعين فاعل في الوجود، أو إدراك علا قتها بواقعها، من حيث هي حضور مستقل في الوجـود.
حاول عبد االله الغذامي تحديـد مفهـوم الحداثة انطلاقا من الإبداع ومن ثنائية (الثابت، المتغير واعتمادا على موروثنـا فالحداثـة "معادلة إبداعية بين الثابت والمتغير، أي بين الزماني والوقتي، فهي تـسعى دومـا إلى صـقل الموروث، لتفرز الجوهري منه فترفعه إلى الزماني، بعد أن تزيح كل ما هو وقتي، لأنه متغيـر ومرحلي، وهو ضرورة ظرفية تزول بزوال ظرفها، وتصبح طوراً يسهم في نمو الموروث، لكننه لا يكبل الموروث أو يقيده."
الحداثة في الأدب عند المسدي تفضي إلى حداثة في مضمون الأدب وحداثة في الصياغة، أما الأولى فتعني "سعي الأديب إلى معالجة الأغراض الفنية التي تحرره مـن تبعيـة التواتر المألوف،" وأما الثانية "فتتحدد بمدى قدرة الأديب على ابتكار أسلوبه الأدائي ممـا لا يتقيد بأنماط سائدة ولا معايير مطردة "
يرفض عبد الملك مرتاض تقليد المناهج النقدية الغربية تقليدا أعمى ولكـن لا ضـير في الاستفادة منها، لأنه من الصعب إرساء مناهج نقدية عربية في الوقت الراهن، وينتقد بـشدة بعض الكتاب العرب المروجين لمصطلحات غربية لا يفهمونها وحجتـه في ذلـك أن هـذه المصطلحات لم تستقر على مفهوم ثابت في بيئتها، وينطبق هذا الوضع على مصطلح الحداثـة الذي يصر على ربطه بالترا ث يقول "في اعتقادي أن على الواحد منا أن ينطلق مـن التـراث أساساً وينتهي إلى الحداثة، لا أن يقفز إلى الحداثة قفزاً دون أن يعود إلى التراث. حـتى كبـار النقاد الغربيين ينطلقون من نظرية أرسطو للشعر. ينطلقون من التراث لينتهوا إلى الحداثـة."
هذه أهم مفاهيم الحداثة عند بعض النقاد والشعراء العرب، وقد اختلفت من موقف إلى آخر، وتدرجت من رؤى بسيطة إلى رؤى موغلـة في التعقيد ومن مفهوم الحداثة الأدبية بشكل عام إلى الحداثة في الشعر أو الحداثة في النقد بوجـه خاص، وارتبط مفهوم الحداثة في أغلب الرؤى بالتراث لأهميته في تأسيس وصياغة أي مفهـوم حديث في الأدب عموما والشعر خاصة، ومن القواسم المشتركة نجد الإبداع والتمرد على السائد ومواكبة العصر، وعدم التقوقع على الذات ولكن دون تقليد الآخر تقليدا أعمى.
من زعماء الحداثة في العالم العربي الذين مهدوا لظهور الحداثة في العالم العربي ودعوا إليها نذكر:
1 ـ خليل مطران: يكاد يجمع الحداثيون على أن خليل مطران يمثل طليعة الحداثيين، واستاذ العصرانية، ومن كبار دعاة التحرر من الأساليب القديمة.
2 ـ جميل صدقي الزهاوي: تمرد على القيم الاجتماعية والسياسية والأدبية في العراق، فحارب الحجاب، ودعا إلى تحرير المرأة من الأحكام الشرعية، وشجع على نزع الحجاب والاختلاط، و اعترض على مشروعية تعدد الزوجات، وسعى لمحاربة القواعد الشعرية وإلغاء القوافي.
3 ـ جبران خليل جبران: والذي يعتبره أدونيس نبيا للحداثة، حيث اعتبر أن له وحيا يكشف له عن الغيب بواسطة الرؤيا الإشرافية التي تتجلى له.
نشأة الحداثة الغربية:
ـ التحول من الإقطاع إلى البرجوازية ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية، ومن التقدم الصناعي إلى التقدم التقني.
ـ من روايات بداياتها:
أ ـ عصر النهضة وحركات الإصلاح الديني والثورة الصناعية، وانفصال الدين عن الفن.
ب ـ عهد الثورة الصناعية الثانية وانطلاق أول قمر صناعي، والثورة الروسية 1917.
ـ نهاية الرومانسية، وبدايات الرمزية في الشعر الفرنسي، وبودلير أول من استعمل مصطلح الحداثة، من الناحية الفنية الأدبية، والذي نادى بالغموض في الأحاسيس والمشاعر، والفكر والأخلاق
من إرهاصات الحداثة العربية:
ـ بداية الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت.
ـ ظهور المدرسة الرومانسية التي قامت على أنقاض المدرة الكلاسيكية.
خروج القصيدة العربية من إطار البيت أو القافية الواحدة.
منطلقات الحداثة وخصائصها:
ـ الانفتاح على النظريات الجمالية والفنية.
ـ التحديث الموسيقي.
ـ دخول تقنيات السرد.
ـ رفض التجريد والمباشرة الخطابية.
ـ وعي الشاعر بروح عصره ومسايرته التجربة والرمز والأسطورة واللغة الموحية.
المصادر والمراجع:
1 ـ أدونيس، الثابت والمتحول
2 ـ زعربان علي رضا النحوي، تقويم نظرية الحداثة
3 ـ عبد العزيز النعماني، فن الشعر بين التراث والحداثة.
4 ـ محمد بنيس الشعر العربي الحديث بنياته ودلالته.
5 ـ نجوى على غريب، الحداثة بين دعاتها وخصومها.