مدخل تاريخي إلى الشعر العربي المعاصر

 

     عرف الأدب هو مرآة المجتمع، يعبر عن المشاعر الجماعية والأخلاق والنزعات الجمالية الفردية للناس الذين يعيشون فيه مؤثرين ومتأثرين، والمقصود بالأدب هو الكتابات الإبداعية والتي تكمن قيمتها في جمال الشكل كما تكمن قيمتها في تأثيرها العاطفي والفكري.

     إن النزعات التجديدية في الفترة المعاصرة لم تظهر بشكل عفوي، وإن كانت أحيانا تبدو كذلك، فقد وجدت جذور التجديد منذ عصر النهضة، فحركة الإحياء الثقافي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر ونتج عنها ظهور النخبة المثقفة العربية التي كانت تصر على إصلاح المجتمع وعلى التأكيد على الهوية العربية، والثقافة العربية.

    كان الأدب الوسيلة الأولية لانعکاس هذه النهضة، وكان دور المسيحيين في لبنان وسوريا دورا بارزا جدا خاصة في بداية النهضة. وفيما بعد أخذ الأدب العربي يخطو تدريجيا خطوات جريئة في تجريب أشكال جديدة وإبداع أعمال أصيلة ذات مستوى عال. وقد أنتج عدد من الكتاب والشعراء المتحررين والمحدثين أعمالا غنية متنوعة في الرواية والمسرح والمقال وفي أدب السيرة وأدب الرحالة، مما جعل العالم العربي أقرب للظهور على خارطة الأدب في العالم.

     شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية عملية متسارعة للتغيرات الأساسية في البنية والشكل والمضمون، بسبب الدخول في أساليب وتقنيات جديدة بعيدة عن الأسلوب التقليدي، فقضية مثل قضية الشعر الحر يمكنها أن تكون مبررة الاعتبار هذه الفترة وحدة ثقافية منفصلة عن الفترة السابقة على الرغم من أنها امتداد لها في نواح كثيرة.

    إن خسارة حرب فلسطين وخسارة فلسطين نفسها والصدمة التي خلفتها دفعت الجيل اللاحق للبحث عن طرق جديدة للفعل وللتعبير أيضا، ومهما كانت الخطوات التي قام بها جيل العشرينيات والثلاثينيات في سبيل التحديث، فإن جيل الخمسينيات والستينيات أراد الانغماس أكثر فأكثر في الأفكار والأشكال الجديدة إلى الحد الذي جعلها موضع اهتمام كبير وخطير.

    مهما يكن فإن نزعة التجديد الصاعدة بسرعة أنتجت الكثير من التشنج جنبا إلى جنب مع الأعمال الإبداعية. وبعض تلك الأعمال قد تبنی بسرعة ودون تبصر أفكار المدارس الأدبية الغربية وأشكالها، وهذه المدارس کالانطباعية والسريالية والرمزية قد تبناها العرب بعد وقت قصير من شيوعها في أوروبا. هذا وقد استطاعت الأجيال الشابة من الكتاب والشعراء خاصة في لبنان، أن تضاهي في إنتاجها ما أنتجته هذه المدارس في الغرب، وذلك بدون أن يكون لها أساس راسخ.  

  أحيانا كان النقد القاسي ينصب من التقليديين مما يرفع التوتر. فالتقليديون يعتقدون أن الأشكال والأساليب العربية بلغت مرتبة ممتازة لا يعلى عليها، ولذلك كانوا يرون أنه لا حاجة للخروج من هذه الأشكال الموروثة، والتي أثبتته قدرتها على البقاء. وأي تجديد يجب أن يتم ضمن إطار هذه الموروثات وليس خارجه.

     ذهبت تشعبات هذه النزعات في تأثيرها إلى أبعد من الشأن الأدبي، إن الأجيال الجديدة من الكتاب والشعراء بتبنيهم الأشكال الغربية الجديدة إنما التزموا بموقف التغيير الثوري، حيث أصبح ينظر إلى دور الأديب على أنه التزام بتغيير المجتمع بل وحتى السياسة، وقد كان المصلحون الجدد يؤكدون أن العالم العربي يواجه مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة. والكاتب أو الشاعر عند تمسكه بالتقاليد البالية إنما يتمسك بحالة الركود الراهنة، بدون أية إشارة إلى إمكانية مواجهة تحديات العصر الحديث، وتأكيد التقليديين على ضرورة التوازن بين الحاجات الأخروية. والأدب هو أفضل الوسائل للتعبير عن هذا التغيير الجوهري في النظر إلى الحياة والإنسان

    من الطبيعي أن بعض هذا التوتر قد حدث قبل ذلك، ففي عصر النهضة طرحت المشكلات نفسها، وإن كانت الاستجابة لها أقل تطرفا، وبقي مجال الاستجابة للتحديات الجديدة في إطار التقاليد تقريبا. فحركة الرومانسية مثال والتي طرحت خاصة من قبل أدب المهجر، ظلت ضمن الإطار التقليدي بالرغم من أنها نفثت روحا جديدة في الأدب الحديث، ومع نمو فن الرواية والمسرح، فإن مسألة استعمال اللغة الفصحى في مقابل العامية ازدادت حدة، وخاصة استعمال اللغة العامية كما هي الحال مع بعض الشعراء اللبنانيين، حيث أن هذه المسألة قد اتخذت طابعا سياسيا، وهو الرغبة في الانفصال من الجسم العربي الموحد.

     ولئلا نقع في خطر التبسيط الشديد، يمكن للمرء أن يقول إن الموضوعات الأساسية في هذه المطالعة، خاصة كما تظهر في فترة الخمسينيات والستينيات كانت بشكل جوهري، هي نفس الموضوعات الدائمة التي عزلت هؤلاء الذين يؤمنون بمقولة: "الفن للفن"، وأولئك الذين يؤمنون بالدور التعليمي والوعظي المؤثر للأدب.

    على كل حال فإن الخلاف بين التقليديين والمحدثين يحمل دلالة عميقة على أن موقف كل منهما يتعلق بمفهوم مختلف للمجتمع، كاختلافهم مثلا على ما هو نوع المجتمع ونوع الأفراد التي يجب أن يسعى إليهما العرب؟ هل هو المجتمع التقدمي أم التقليدي؟ وهل هو المجتمع العلماني أم الديني؟ لقد كان الأدباء والكتاب إلى حد كبير، أكثر تأثيرا من الفلاسفة في إرساء أهداف التغيير، و دعا رجال الأدب التقدميون إلى مجتمع أكثر فعالية ، وإلى البعث الذي قد يولد حياة جديدة في جفاف هذه الأرض، رغم غناها الطبيعي، ولقد تحدث الجيل الجديد من الأدباء والكتاب عن الدور الحضاري الذي حاولوا أن يلعبوه، كما أن التقليدية كانت بنظر أنصار التغيير هي السبب في الركود والخنوع النفسي الذي أصاب المجتمع، وذلك بتشديدها على القضايا والموضوعات والأشكال والأساليب الكلاسيكية، بينما المقومات المؤدية للحداثة تعني أن يكون لدى الفرد رؤية أقرب إلى العلمانية، كما أن يكون هناك اندفاع قوي ونزوع إلى تحرير المرأة والطبقات العاملة، ومن هذا الفهم للحداثة تشجعت نزعة الكتابة بأسلوب الواقعية الاجتماعية وارتقت ووصل معها " الأدب الملتزم، إلى وضع لم يسبق له الحدوث.  

    إن مفهوم الحداثة في حد ذاته كان مصدرا آخر للتوتر، فقد خشي التقليديون أن تذهب الأصالة ضحية على مذبح التحديث، وكان يؤخذ على الاتجاهات الجديدة بأنها لا تعكس خصائص الشخصية العربية، زيادة على ذلك أنه كان ينظر للحداثة على أنها شكل جديد للاستعمار، حتى أن بعض التقليديين المتطرفين رأوا أن أي انحراف عن الخط التقليدي هو زحف للاستعمار الثقافي الذي يهدف إلى السيطرة على العرب سياسيا من خلال السيطرة على عقولهم فكري وعلى قلوبهم فنيا. وقد نشأت أيضا موضوعات أخرى منها حرية التعبير وحماية حقوق المؤلفين، والعالقة بين الثورة والأدب، وبين الأدب والتكنولوجيا، كما نشأ أدب الأطفال، والأدب وقضية فلسطين، وأخيرا مكانة الأدب العربي في العالم.

 

 

 

المصادر والمراجع:

1 ـ دريد يحي الخواجة، إشكالية الواقع والتحولات الجديدة في الرواية العربية، دراسة وعي مجادلة الواقع ومتغيراته وتقنيات البنية، اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2000.

2 ـ محمد عبدو فلفل، فن التشكيل اللغوي للشعر مقاربات في النظرية والتطبيق، منشورات الهيئة السورية للكتاب، دمشق، سوريا، 2013.

3 ـ محمود الضبع، غواية التجريب حركة الشعرية العربية في مطلع الألفية الثالثة، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، مصر، ط1، 2014.

4 ـ ميشال خليل جحا، الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش، دار العودة، بيروت لبنان، 1999.


Last modified: Monday, 19 May 2025, 12:53 AM