المحاضرة الثانية:

1-      نشأة العلّة النحوية في القرنين الأول والثاني للهجرة

            إنّ الحديث عن نشأة العلّة النّحوية يعني الحديث عن نشأة قواعد اللّغة العربية، فقد أجمع الرّواة والباحثون على أنّ العلّة النّحوية رافقت نشأة النحو وولدت مع ولادته، ومن ثمّ رأيناهم لا يفصلون بينهما ويعدّونهما منطلقا واحدا، وإن أكبر شاهد على هذا كتاب سيبويه وهو أوّل كتاب في النّحو وصل إلينا، فجميع ما أُلِّف قبله في هذا الفنّ لم يلق رعاية ولم يصادف اهتماما فضاع واندثر، وقد جمع هذا الكتاب بين دفّتيه ما تفرّق من أقوال المتقدّمين من علماء ق2ه،  الذين اعتمدوا في بناء آرائهم على مشافهة العرب الخلّص في البوادي، من بينهم (أبو الأسود الدّؤلي) الذي ينسب إليه وضع الأبواب الأساسية في علم النّحو، والتكلّم في مسائل التّعليل والقياس، والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي قال عنه أبو بكر الزّبيدي في كتابه طبقات النحويين:" هو الذي بسط النحو ومدّ أطنابه وسبّب علله".

إنّ العلّة النّحوية كانت فطرية في نفس العربي شأنها في ذلك شأن لغته التي كان يتكلّم بها بالسليقة من غير تكلّف، ولا أدلّ على ذلك من أنّ أعرابيا كان إذا سئل عن العلّة أجاب، يقول ابن جني:" وأما ما رُوي لنا فكثير، منه ما حُكي عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب أي أحمق، جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أي قال له أبو عمرو جاءته كتابي؟ قال: نعم أليس بصحيفة؟

فقال ابن جني معلّقا: أفتُراك تريد من أبي عمرو وطبقته وقد نظروا وتدرّبوا  وقاسوا وتصرّفوا أن يسمعوا أعرابيّا جافيا غفلا يعلّل هذا الموضوع بهذه العلّة ويحتجّ لتأنيث المذكّر بما ذكره، يعني بالحمل على المعنى....."

2-     نشأة العلّة النحوية في القرنين الثالث والرابع للهجرة:

مع بداية القرن الثالث الهجري ظهرت عند بعض النحويين فكرة تخصيص العلّة النحوية بمؤلّفات خاصة بها، مقصورة عليها، فألّف تلميذ سيبويه أبو علي محمد بن المستنير الذي لقبه سيبويه ب قطرب كتاب المدارس النحوية، كما ألّف المازني أبو عثمان على الراجع كتابا في علل النحو، ثم ظهر من وجّه عناية فائقة بالتعليل وكان من أعمدة المدرسة البصرية وهو محمد بن يزيد المعروف ب المبرّد والذي قال عنه ابن جني:" يعدّ جبلا في العلم وإليه أفضت مقالات أصحابنا أي، البصريين وهو الذي نقلها وقرّرها وأجرى الفروع والمقاييس عليها".

وقال عنه الأزهري في مقدّمة تهذيب الّلغة: "كان أعلم الناس بمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه"

ومن تعليلاته التي حفل بها كتابه (المقتضب):

·       باب إعراب الأفعال المضارعة وكيف صار فيها الإعراب دون سائر الأفعال، ويعلّل لإعراب الفعل المضارع  فيذكر أنّ الأفعال إنّما دخلها الإعراب لمضارعتها الأسماء ولولا ذلك لم يجب أن يعرب منها شيء، وذلك أن الأسماء هي المعربة، وإنّما دار على الأسماء من الأفعال ما دخلت عليه زائدة من الزوائد الأربع، يريد من بدىء بحرف من أحرف المضارعة الأربعة، ويصلح لوقتين يعني للحال والاستقبال، ويعلّل للمضارعة بقوله: وإنما قيل لها مضارعة تقع مواقع الاسماء في المعنى...".

العلّة في القرن 4ه:

يقول د. مازن المبارك في كتابه النحو العربي: "وأما العلة في ق4ه فلا بدّ قبل الخوض فيها الحديث عنها من وقفة قصيرة نتناول الحديث فيها عن المنطق والفقه والكلام وصلتها بالنحو العربي، وذلك لأن العلة في القرن الرابع وما بعده كانت خاضعة لتأثير تلك العلوم منطبعة بالكثير من خصائصها."

وقد تجلّى تأثير هذه العلوم وفي مقدّمتها علم المنطق في إحداث مزيد من العناية والاهتمام بأمر العلّة النحوية في القرن الرابع الهجري، فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللّسان وملكته، كما قال ابن خلدون، وظهرت في مصنّفات النحويين العناية الشّديدة بالحدود النّحوية وغرائب القياس، واستحداث وسائل جديدة للنّظر والتعليل، ويرى المازني في كتابه الرّماني النحوي أن إغراق الرّماني في المنطق جعل النحاة يعرضون عن نحوه ويصدّون عنه"

-       ويرى بعض الباحثين أنّ المنطق قد أساء للنحو العربي وحوّله إلى فلسفة لغوية غامضة بعيدة عن حقيقة النحو، وجعله أكثر تعقيدا وأشدّ بعدا عم الفطرة.

يقول المازني أيضا: "كانت العناية بأمر العلة والاهتمام بها تزداد كلّما تقدّم الزمن بالنحويين، فبعد أن رأينا التعليل يلقى به موجزا عقب الحكم النحوي، رأيناه يفرد بالتّاليف ويخًص بالكتب، ونراه في القرن الرابع ينال عناية أوفر، ويستنفذ جهدا أكبر فتكثر فيه المؤلّفات، ويدخله كثيرا من التطوّر"

ثم يذكر المازني بعض المؤلفات في ق4ه مرتبة حسب وفيات مؤلّفيها:

-       كتاب علل النحو وكتبا نقد علل النحو للحسن بن عبد الله المعروف ب لُكْذة  ت 311ه

-       كتاب العلل في النحو لهارون بن الحائك الضرير النحوي

-       كتاب المختار في علل النحو لمحمد بن أحمد بن كيسان ت 320ه

-       كتاب الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي ت 377ه

-       كتاب النحو المجموع على العلل لمحمد بن علي العسكري ت 345ه

-       كتاب علل النحو لأبي الحسن محمد بن عبد الله (ابن الوراق) ت 381ه

ويواصل د.مازن المبارك في حديثه عن العلل في ق4ه ذاكرا أنه لم يأت بعد هذا القرن من زاد في العربية شيئا، وأن ما ظهر بعد ذلك من كتب ومؤلّفات لا يعدو أن يكون شرحا أو تفصيلا لها، أو اختصارا وتهذيبا واستدراكا وتعليقا عليها.

 

Modifié le: jeudi 30 janvier 2025, 11:18