المحاضرة الثالثة: أصول النحو التأليف و الرواد: ابن جني، ابن الأنباري، السيوطي. 

تتمثّل أهميّة عِلم أصول النّحو في في كونه الأساس الذي بُني عليه عِلم النّحو، فالنّحو منذ بداية نشأته كان قد وُضع بناءً على قواعد وأسس اعتمدها العُلماء بعد دراستها وتحليلها، ثمّ ساروا عليها وألزموا من بعدهم بها، فالعالِم بأصول النّحو المُتمثّل بأدلّته التّفصيليّة سيكون عالِماً بالضّرورة بالأحكام النّحويّة الفرعيّة، وما كان عِلم أصول النّحو موجوداً إلّا ليقوم بتهذيب عِلم النّحو وفروعه وأصوله، والحُكم على صحّة ما يجوز من الأحكام الفرعيّة بالاستعانة بمرجع أصليّ أساسيّ.

-أبو بكر بن السّراج(316هـ):

      وهو أول من استعمل مصطلح "الأصول" وهذا من خلال كتابه" الأصول في النحو" غير أنه كان يعني بالأصول "القواعد الأساسية للنحو"، وهذا هو مضمون الكتاب. جاءت فيه مسائل النحو وقضاياه مرتبة كترتيب أبواب كتاب سيبويه.

2-أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ):

    على يده بلغ علم أصول النحو مرحلة متقدمة حيث صار يَعني البحث في أدلة النحو المختلفة، فقد تناول في كتابه "الخصائص" الكثير من القضايا الأصولية التي تهم النحو والصرف، من هذه القضايا: السماع، القياس، العلة... واستطاع من خلال عرضها أن ينتفع بما استنبطه الأصوليون من الفقهاء.

3-أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (577هـ):

        وعلى يد هذا العالم الفذ استوى علم أصول النحو وأورق ثم أثمر، فهو الذي جعل علم أصول النحو علماً مستقلاً بذاته، من خلال رسالته "لمع الأدلة في أصول النحو" التي جمع فيها شتات هذا العلم من كتب المصنفين السابقين مع إضافات أخرى لم يسبق إليها، كعنايته بالتعريفات والتقسيمات ثم التطبيقات العملية لهذه الأصول. كما أنه فصَل بين "أصول النّحو" و "الجدل النحوي" عندما أفرد للجدل رسالة خاصة سمّاها "الإغراب في جدل الإعراب". أمّا الجانب التّطبيقي لهذه الأصول فيظهر في كتابيه:" أسرار العربية"، والإنصاف في مسائل الخلاف".

4-جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911هـ):

         ألّف في علم أصول النحو كتابيه: "الاقتراح في علم أصول النحو" و" الأشباه والنظائر".

فأما الأول فجمع فيه زبدة أقوال العلماء في هذا العلم، وعلى وجه الخصوص ما أورده ابن جني في الخصائص، فنجد في كتاب السيوطي حديثا مفصّلاً عن السماع والإجماع والقياس والاستصحاب والتعارض والترجيح بين البصريين والكوفيين.

أما الثاني (الأشباه والنظائر) فقد ألّفه على نمط علم الأصول عند الفقهاء، كما صرّح بذلك، فاشتمل الكتاب على فنون منها: فن القواعد والأصول، وفن الضوابط والاستثناءات وفن بناء المسائل...

هذا وقد تضمن كتاب له ثالث أبوابا عدة في أصل النحو يضاف إليها مصنفات كثيرة أخرى تتالت عبر الزمن، منها: "ارتقاء السيادة في علم أصول النحو" لأبي زكريا الجزائري(1096هـ) و" في أصول النحو" لسعيد الأفغاني و"أصول النحو العربي" لمحمد خير الحلواني و "أصول النحو العربي" لمحمود أحمد نحلة، وغيرهم.

مصدر القاعدة النحويَّة إلى مصدَرَيْن:

أوَّلاً السَّماع: ويقصد به النُّحاة مجموع ما سُمِعَ ونُقِل إلينا من الكلام العربيّ الفصيح. وهو أقسام:

1.    القرآن الكريم: ويُستدلّ به كلّه دون استثناء، وكذلك يُستدلّ بكلّ قراءاته المُتواترة منها والشَّاذَّة. لاتفاق العرب جميعًا أنَّه النموذج الأعلى للفصاحة والسلامة والبلاغة. فأجمع العرب -مُسلمهم وغير مُسلمهم- على أنَّه المِقياس الذي عليه يُقاس الكلام على سبيل التركيب وعلى سبيل الكلام المُفرد.

2.    الأحاديث النبويَّة: وهنا سنرى موقفَيْن للنُّحاة؛ غالبهم رفض أخذ اللغة من أحاديث النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقلَّة قليلة ارتضتْ ذلك -ومنهم ابن مالك صاحب الألفيَّة الشهيرة-. وهذا الموقف يبيِّن مدى جدِّيَّة ونزاهة النُّحاة؛ لأنَّ المِقياس هو صدور الكلام عن العربيّ الفصيح الخالص، وقد رفضوا الحديث النبويّ لأنَّ غالب الحديث رُوي بالمعنى لا باللفظ. وهذا أمر يختلف عن الرأي العامّ في علم الحديث ومنظومته فمعروف أنَّ الأحاديث كانت تُدقَّق إلى أقصى حدّ مُمكن بألفاظها لأنَّها مصدر التشريع واللفظ فيها حاكم ومُنشئ للحُكم الشرعيّ.

بالعموم على اعتقاد النُّحاة أو تخوُّفهم من مسألة الرواية بالمعنى رفضَ غالبُهُم الاستناد إلى الأحاديث النبويَّة في مسألة الأخذ اللُّغويّ. ولمْ يكُن هذا إلا تخوُّفًا. أمَّا النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيُسلِّم الجميع أنَّه بليغ فصيح لا شَوبَ في ذلك إطلاقًا، وقد قال هو نفسه “أنا أفصح العرب”. وهذا الأمر كما سلف يدلُّ على وضوح المعيار والمِقياس في العمل العلميّ النحويّ حتى مع وجود مؤثِّر وهو نسبة الحديث – ألفاظًا وتراكيبَ- إلى النبيّ.

3.    كلام العرب المنقول: شعرًا ونثرًا وأقوالاً عاديَّة. ويشترطون للمَنقول عنهم أنْ يكونوا فُصحاء خُلَّصًا -أيْ عربًا أصِيْلِيْنَ لا هُجنة فيهم-. وقد حدَّدوا حيِّزًا مكانيًّا للنقل منه هو قلب الجزيرة العربيَّة، ومنعوا الأخذ عن العرب المُتطرِّفين -أيْ الذين على أطراف الجزيرة العربيَّة- لاختلاطهم بغيرهم من الأُمم، ومَخافة تأثير هذا الاختلاط على ألسنتهم. وقد حدَّدوا حيِّزًا زمنيًّا معيَّنًا سَمَّوْه “عصر الاستشهاد” أيْ الذي يُقبل منه اللغة ويحقُّ الاستشهاد به. أنهوه بشاعر يُدعى “إبراهيم بن هَرْمَة” تُوفِّي 176هـ (أيْ في الخلافة العباسيَّة).

وقد اشترطوا صحَّة النقل والنسبة إلى الشُّعراء الذين يتمُّ أخذ اللغة عنهم. وللعلم فغالب تراث المُسلمين والعرب منقول بالإسناد دواوين الشِّعر والكُتُب والرسائل والوصايا والخُطَب…. على خلاف الفكرة السائدة من ربط الإسناد بالأحاديث فقط. فكانوا يشترطون صحَّة الإسناد عن الشاعر فيما قال كما يفعل المُحدِّثون مع الحديث النبويّ.

     ثانيًا الإجماع: والمقصود به إجماع النُّحاة فإنَّ إجماع النُّحاة على قاعدة أو حُكم مصدر لهذا الحُكم. وقد ضممتُه إلى قسم المصدريَّة لأنَّه ليس آليَّةً من الآليَّات، كما أنَّه حُجَّة وحدَه لا يحتاج إلى العودة إلى اللغة التي أُخذ عنها -وهناك اتجاه قليل لا يعتمد الإجماع دليلاً-. وينقل السيوطيّ أنَّ المُراد بالنُّحاة نُحاةُ البَصرة والكُوفة. لكنَّ حالات إجماع النُّحاة نادرة. وينقسم الإجماع إلى إجماع تصريحيّ: أيْ يُصرِّح به النُّحاة، وإجماع سُكُوتيّ: أيْ أنَّ النُّحاة سكتوا عن أمر فدلَّ سكوتهم على حُكم فيه بالجواز أو المنع.

هي آليَّات كثيرة ومناهج عدَّة سأكتفي بأهمِّها:

1.    الاستقراء: وهو جمع اللغة المنقولة من السماع وفحصها فحصًا جيِّدًا بغرض استخلاص القواعد منها. والاستقراء هو أوَّل مناهج النُّحاة العلميَّة. ومنه عرفنا أنَّ الفاعل مرفوع وأنَّ المبتدأ وخبره كذلك، ومنه عرفنا تراكيب الجمل الأساسيَّة، وكلّ القواعد الرئيسة التي نعرفها جميعًا.

2.    القياس: وهو أكبر الآليَّات والمناهج النَّحويَّة بعد حصر اللغة والنظر فيها. ويكون بقياس التركيب على التركيب والصيغة على الصيغة. وله أربعة أركان: المَقيس عليه وهو المنقول إلينا عن العرب، والمَقيس وهو الذي نريد قياسه على الأصل المنقول إلينا، والعلَّة وهي الرابط بين الاثنين الذي به سنُتبع الآخر بالأوَّل، والحُكم وهو الذي نريد إثباته للفرع من الأصل لهذه العلَّة.

3.    الاستصحاب: وهو الإبقاء على حالة الأصل. مثل أنَّ الأصل في الألفاظ المُفرد وليس المُثنى ولا الجمع، ومثل أنَّ الأصل في الأسماء الإعراب (أيْ تغيُّر أواخرها) وأنَّ الأصل في الحروف والأفعال البناء (أيْ ثبات أواخرها.

الخصائص لابن جني
لمع الأدلة للأنباري
الإغراب في جدل الإعراب
الاقتراح في أصول النحو
الإنصاف في مسائل الخلاف
المزهر للسيوطي.
الأشباه والنظائر للسيوطي.
الإيضاح في علل النحو للزجاجي

Last modified: Tuesday, 28 January 2025, 9:31 AM