المحاضرة الثانية: أصول النحو النشأة و المرجعيات
المحاضرة الثانية: أصول النحو النشأة و المرجعيات:
1ـ دور الأصول في بناء النحو العربي وترسيخ منهجه :
العلوم عند المسلمين مستفادة من الحواس ومن العقول وهو ما عرف في تاريخنا الثقافي باسم السماع ، والقياس، وقد كان علم أصول الدين فيما يبدو أول العلوم التي اتخذت من السماع والقياس وما حمل عليها منطلقات منهجية في البحث و التنظير، ثم لما نشأ علم النحو- وكان من العلوم القرآنية – قلد النحاة علماء أصول الدين فاستعاروا منهم هيكل علم أصول الفقه ليكون أساساً لهيكل نظري لعلم النحو خاصة السماع والقياس وما تعلق بهما .
والسماع والقياس أصلان منهجيان عامان في العلوم الإسلامية العربية كلها تقريباً ، وهما بذلك غير قادرين على التعبير عن خصوصية أي علم باستثناء علم الفقه الذي تطور فيه هذان الأصلان وما تبعهما من أصول ، إذ وضعت لمنهج الأصول في الفقه أسس ، وضوابط ، وقواعد ، أصولية توضح كل أصل وتضبط شروطه ، بل إن الفقهاء الأصوليين كتبوا فيها دراسات مختلفة بحثت جوانبها المنهجية ومنطلقاتها التأسيسية بحيث لم يتركوا مجالاً لمتزيد مع توفر قدر كبير من الموضوعية وقدر تام من العلمية .
أما النحو فما كتب في علم أصوله، فقليل واتكأ أصحابه فيه على ما وجدوه في علم أصول الفقه ومن لم يكتبوا في علم أصول النحو ساروا على الطريقة المنهجية القائمة على السماع والقياس والاستصحاب والإجماع وغيرها من الأصول.
إذن وظف النحاة ما وجدوه من أصول عند الفقهاء وتأثروا بطرقهم في الاستنباط ، والقياس، والحمل ، وتعدية الحكم في استخراج قواعد النحو ، وتقعيدها وطردها وتنزيل الأمثلة والتطبيقات والتمارين عليها ، فكان النحو عندهم – وما زال – قائما على ركنين أساسيين هما :
أ- القواعد: وهي كليات أو شبه كليات مطردة استخرجت بالاستقراء من المادة اللغوية الموثوقة التي جمعها الرواة والنقلة من الأعراب والبوادي وممن يوثق بعربيته وفق شروط السماع وطرق النقل بها في مجال الحديث والقواعد وسائل لتوجيه الصواب في التعبير تكلماً وكتابة ، وأحكامها تعليمية تستند إلى اللغة باعتبارها نقلاً يحافظ على استمرار اللغة حية متداولة بين أبنائها . وهي جزء لا يتجزأ من نسيج اللغة ، وهو الضابط لخواصها المرشد إلى كيفيات توظيفها . هذه القواعد تسري في جسم اللغة ولا تنفك عنها وهي التي تستحق اسم علم النحو .
ب- التقعيد :وهو منهجية النحو وقاعدته القائمة على أصوله كالسماع والقياس ، والاستصحاب ، والإجماع ، والاستحسان ، وغيرها . فأصول النحو في التقعيد تجسد نظرية النحو ومناهجه العلمية التي تعد وسائل لإنتاج القواعد باستقراء المادة الموثوقة المسموعة مثلا :من قواعد الفاعل : أنه مرفوع وأنه يتأخر عن فعله ، وأنه اسم وما كان في حكم الاسم فهذه القواعد استخدمت باستقراء المادة اللغوية المسموعة التي جمعت بوثاقة ثم بعد ذلك، كل بحث يدور حول هذه القواعد بالتعليل والتفسير أو التعدية يعد من التقعيد وهو العمل المنهجي الذي تنهض به الأصول كالقياس والاستصحاب وما إليها .
والتفريق بين القواعد والتقعيد يشير إلى وجود نوعين من المشتغلين بالنحو ، أحدهما ينتمي إلى القاعدة يحفظها ويقيس عليها ويعلمها وهذا يسمى معرب . والثاني نحوي يعرف قواعد النحو ويعرف أصول تقعيدها وله القدرة على التفريق بين القاعدة الكلية والقاعدة الجزئية . فالمعرب يعرف القواعد ويعلمها ويطبقها ، وهو في هذه الحال يشبه الفقيه .والنحوي يعرف القواعد ويفرق بين جزئيها وكليّها ويعرف أصول تقعيد تلك القواعد وهو في هذه الحال يشبه الأصولي الذي يعرف أصول الأحكام وأدلتها . وخلاصة القول في هذا المبحث هو أن الأصول قد انبنى عليها النحو العربي ، وفق الخطوات الآتية :
أولاً: استخدم اللغويون أصل السماع في جمع المادة وتوثيقها وفق شروط السماع والنقل المحدد عندهم ، ثم استقرأوا تلك المادة اللغوية الموثوقة فاستخرجوا منها القواعد الكلية التي يسري مفعول الواحدة منها في الباب كله مثل : كل فاعل مرفوع ، وكل مفعول منصوب وكل مضاف إليه مجرور . واستخرجوا أيضاً القواعد الجزئية أو الفرعية التفصيلية التي تختلف في شيء ما من صفاتها عن القاعدة الكلية ثم تعود إليها بضرب من ضروب التفسير الذي يعتمد على التعليل والتأويل والاستصحاب والتخريج .
ثانياً:استخدام القياس في طرد القواعد الكلية وتعديتها إلى الأمثلة والاحتجاج لها بالشاهد المنتزع من المادة المسموعة كآي القرآن الكريم ، ونصوص الحديث الشريف ، وشعر العرب الذين يعتد بعربيتهم ، وكذلك نثرهم ، واستخدموه في حمل لفظ على لفظ وتعدية حكم أصل إلى فرع ، كما استخدموا التعليل في تفسير الأحكام وتقعيدها .
ثالثاً: تقديم القواعد ثم تعريفها وتحديدها بحد جامع مانع . ويلي ذلك شرحها وتحليلها وإيراد أمثلة وشواهد وتعليلات بغرض تفهيمها ثم تطبيقها بغرض الحفاظ على سلامة اللغة .
نشأة عِلم أصول النّحو: بدأ عِلم أصول النّحو على هيئة غير مُنفصلة عن علوم الّلغة العربيّة الأخرى، فلم يكن هُناك تمييز بينه وبين علوم النّحو، أو البلاغة، أو التّصريف، أو العروض، وغيرها من العلوم، ومع تطوّر عمليات التّأليف لاحقاً بدأتْ العُلوم تُفصّل وتُميّز بشكل مُستقلّ، أمّا بخصوص عِلم أصول النّحو فقد فصّل أبو بكر بن السّرّاج مسائله ومحّص الدّقائق الواردة فيه، وهذا ما جعل لكِتابه (أصول النّحو) دوراً كبيراً في هذا العِلم، بالإضافة إلى إشارته فيه إلى أقسام العِلل النّحويّة، والضّرورة الشِّعريّة، كما أضاف كِتاب (الإيضاح في عِلل النّحو) للزّجاجيّ الكثير لهذا العلم، إذ حوى تفصيلاً للعِلل النّحويّة، كما قَدِم بعدهما أبو الفتح ابن جنّيّ صاحب كِتاب (الخصائص)، والذي يُعتبر أوّل المُشيرين إلى هذا العِلم، والحاثيين على تحريره فبحث فيه وطوّره، وقال في كتابه الخصائص حول هذا: "وذلك أنّا لم نجد أحداً من عُلماء البَلدَين تعرض لعِلم أصول النّحو"، وقصد بالبلدين مدينتيّ البصرة والكوفة، واسترسل مُبدياً رأيهُ في كتاب ابن السّراج قائلاً: "فأمّا كِتاب أبي بكر بن السّرّاج، فلم يُلملِم فيه بما نحن عليه إلّا حرفاً أو حرفيْن في أولّه"، ويجب التّنويه أنّ ابن الجنّيّ كان قد أورد العديد من الأدلّة النّحويّة في أصول النّحو، مِثل القياس، والسّماع، والإجماع، والتّعليل. تلاحَق العُلماء بعد ابن السرّاج وابن جنّي، فكان منهم الأنباريّ الذي ألّف كِتابيْ (لمع الأدلّة)، و(الإغراب في جدل الإعراب)، ثمّ تلاه بعد عدّة قرون الإمام السّيوطيّ الذي ألّف كِتاب (الاقتراح)، والذي يُعدّ كتاباً جامعاً لأصول النّحو، إذ لم يقتصر الكِتاب على المادّة العِلميّة الخاصّة بأصول النّحو فقط إنّما أضاف إليه العديد من المباحث الدّقيقة التي قام بتحليلها ودراستها، وتجب الإشارة إلى أنّ أصول النّحو بدأت بالظّهور بالتّزامُن مع ظهور النّحو، ويقول فاضل السّمرائيّ بهذا الخصوص أنّ عِلم أصول النّحو قديم حاله حال عِلم النّحو، ويُعلِّل علاقة وجودهما معاً بأنّ القبول، والتّرجيح، والرّفض والقياس للقواعد الخاصّة بالنّحو، كان لا بُدّ لها من أصول مكتوبة، أو أن تكون معلومة لدى عُلماء النّحو، كما ذكر أنّ كِتاب سيبويه المُسمّى (الكتاب)، مليء بالأصول النّحويّة، ويُذكر أنّ الكاتبة خديجة الحديثيّ أشادتْ بالكتاب فقالت أنّه "من أوائل كُتب النّحو تأليفاً، قد بُنيتْ قواعده على هذه الأصول المنهجيّة".