المحاضرة الخامسة، السادسة     
                الخصائص الفنية للشعر الجزائري المعاصر
(اللغة الشعرية، الموسيقى والصورة، معجم القصيدة الجزائرية المعاصرة)

01. اللغة الشعرية
أ.تمهيد:
  إ
ذا أراد أي شخص أنْ يعبّر عن موقف أو شعور أو رأي فلا مناص من توظيف أنسب المفردات والتعابير، والشاعر باعتباره إنسان مرهف الحسّ يختلف عن عامة الناس، لذا فهو حين يكون فنّانا يصبح مطالباً دون غيره أنْ يستعمل لغة حيّة تنبض بالإحساس وتكشف عن الواقع، فمن خلال لغته نعرف مدى تجاوب ذلك الشاعر مع ظروف عصره وقضاياه وآمال أمّته وآلامها. وعليه فاللغة الشعرية لغة تترفّع عن مستوى الكلام العادي وتخضع لمعايير وقوانين تجعلها في ذلك المستوى.
  عن التشكيل اللغوي يقول فيلسوف التأويلية المعاصرة "بول ريكور" :"الكلمة ليس لها معنى في ذاتها بل تستمدّ معناها من الوحدات المجاورة لها في السياق الذي ترد فيه." ومن هنا نكتشف تلك المسؤولية الملقاة على عاتق الأديب حتى يخرج نصا أدبيا يرقى إلى مصاف الأدبية.
ب. بنية التراكيب اللغوية:
  تتميّز الكلمة من خلال التركيب اللغوي فهو الذي يحدّد معنى الكلمات ويوضّح دلالتها.
  القارئ للشعر الجزائري المعاصر يكتشف نصوصا مثقلة بالشعرية تحمل لوحات تنبض بالحياة، وهذا نتاج ذلك الإتقان في التشكيل اللغوي والبناء التركيبي المحكم، فمثلا عندما نقرأ النص الآتي للشاعر الجزائري المعاصر "عاشور فني" نلمح دقّة الانتقاء، يقول في ديوان "زهرة الدنيا":
   - كنت أحفر ضدّ المدينة
   - حين رأيت القيامة تضرب أطنابها في
   - الشوارع
   - فاختلط الناس بالناس
   - واخترت أنْ أنتقي قدري بيدي
   - فباغتني برق عينيك في ظلمة العمر
   - هذا الذي لم يزل يترنّح بي
   - قلت هذا دمي
فمثلا حين قال الشاعر باغتني بدل فاجأني، برق بدل شعاع، دلالة على اختراق ضوء العينين كاختراق السهم للجسد في شدّة الغفلة
* تظهر دقة انتقاء الألفاظ كذلك في تعبير الشاعر "الأخضر فلوس" عن حنينه بألفاظ ثائرة تحمل دلالات الشوق والحنين بتوظيف الإيحاء:
  - وحنيني يفيض على الماء، والوطن
  - تساقط فوق رباها الحنين المذاب
  - فتأخذها هزّة
  - آه يا وطني...
  - أيها المغتني بسلاسله
  - وخلاخل حكامه
  - ها أنا ميّت عطشا وحنينا، فهل يا ترى سوف تضمن لي
  - كفني                (عراجين الحنين)
* مفردات هذا المقطع دليل على قوّة الحنين وشدّة الشوق، فقد اعتمد الشاعر على وحدات لغوية تكشف عن دلالة الحنين (يفيض، يتساقط، ميّت، عطشا)، تعبيرا من الشاعر عن مدى حنينه لوطنه الذي يصل إلى درجة الموت، وهي وحدات منتقاة بدقّة لتدلّ على الحالة الشعورية للشاعر
* نستطيع أنْ نقول أنّ اللغة الشعرية التي يوظّفها الشاعر الجزائري المعاصر تنقسم إلى لغة مثقلة بعناصر الشعرية من جهة وإلى لغة سهلة لا تحتاج إلى الكثير من التأويل، فهي بسيطة بساطة الشعب الجزائري العربي، ومثال هذا قول الشاعرة الجزائرية "حبيبة محمدي":
   - أنْ تكتب ما تعرف
   - هو نعناع يُزكّى
   - ما يشربه حبرك
   - من محبّة
   - لست حطبا لكن الذكريات تأكلني
   - يرحل الوقت
   - بينما القلب يبحث عن عُري
   - في الضوء
   - لولا الوقت لكانت جميع القلوب مقابر
   - الوقت يرمّم نبش السعاد.

02. الموسيقى الشعرية:
  يعدّ العنصر الموسيقي عنصرا أساسا من عناصر الشعر، فالجانب الصوتي يساهم في التأثير في المتلقي وأسره بسحر أداء الكلمة، ممّا جعل القدماء يتفطّنون لأهمية هذا العنصر ويجعلونه من أهمّ مميّزات الشعر، بدءاً بفلاسفة اليونان وفي مقدّمتهم "أرسطو" في كتاب "فنّ الشعر"، إذْ يرى أنّ غريزة الموسيقى أو الإحساس بالنغم هي أحد الدافعين للشعر(إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر، ص 14).
  كما أولى النقاد العرب القدامى الجانب الصوتي اهتمامهم (الشعر نشأ نشيدا يستدعي غريزة السماع)، فالمتتبّع لمسار الشعرية العربية يلاحظ كيف بدأ الشعر إنشادا يستوجب سامعا يتقبّل النشيد، وهذا لا يتأتّى إلاّ بالنغم الجميل، واللغة العربية تعتمد على الميراث السمعي وعلى التنغيم.
-  يلاحظ المتتبّع لمسار التحوّلات الإيقاعية في القصيدة الجزائرية بطء سير العملية ومحدوديتها، فقد عرفت القصيدة الجزائرية في المرحلة المواكبة للاستقلال حميمية البناء العمودي (الشكل التقليدي)، نظرا لتشبّث الشعراء بتراثهم وتمسّكهم بالمفاهيم التقليدية (وحدة الوزن ورتابة القافية)، وإنْ عُرفت –كما أشرنا من قبل- بعض المحاولات القريبة من شعر التفعيلة في مراحل مبكّرة من تاريخ الحركة الأدبية في الجزائر بدءاً برمضان حمود وأبي القاسم سعد الله.
  المتفحّص للحركة الشعرية الجزائرية تاريخيا يلاحظ ذلك الانحراف عن قيود البناء التقليدي في القصيدة في مرحلة السبعينات مع شعراء تلك الفترة وعلى رأسهم "عبد العالي رزاقي" و"عمر آزراج" وغيرهما ثمّ مرحلة الثمانينات مع "عز الدين ميهوبي" و"عثمان لوصيف"... نحو شعر التفعيلة، لتصبح قصيدة التفعيلة ظاهرة عامة لا تخلو منها تجربة شعرية.
  في مرحلة السبعينات نجد أكثر شعراء المرحلة جرأة على التجريب في مستواه الإيقاعي والفنّي "عبد العالي رزاقي" (الحبّ في درجة الصفر) إذْ تخلّص في بعض قصائده من النبرة الخطابية المباشرة واعتماده على الصور الفنية القائمة على الإيحاء والرمز.
*الحضور الإيقاعي للأوزان الشعرية:
  كانت أكثر الأوزان الشعرية حضورا في القصيدة المعاصرة الأوزان البسيطة والبحور الصافية مثل بحر الكامل الذي أصبح يحتلّ الصدارة في اهتمام الشعراء ثمّ بحر الرمل الذي نهض في العصر الحديث، والمتقارب بسلاسته وخفّة تفعيلاته، والرجز باضطراب أوزانه وتلاحق أنغامه، والمتدارك المعروف بخفّته أصبح من أكثر الأوزان شيوعا وسيطرة على إيقاع القصيدة الحديثة، إذْ تناسب موسيقاه الواثبة سرعة الإيقاع في هذا العصر. وفي الحقيقة هذه ظاهرة عامة في الشعر العربي المعاصر.
  ظاهرة جديدة عُرفت في الشعرى المعاصر هي ظاهرة المزاوجة الموسيقية كالجمع بين الشعر الحرّ والشعر العمودي في القصيدة الواحدة أو الجمع بين الشعر والنثر وبين بحر وآخر وهي الظاهرة الأكثر شيوعا لدى شعرائنا، ومن أمثلة ذلك الشاعر "عز الدين ميهوبي" في ديوانه "في البدء كان أوراس" في قصيدة "شموخ"، ومن أمثلة المزاوجة بين الحرّ والعمودي نلمس ما كتبه الشاعر والناقد "مصطفى الغماري"، فعلى الرغم من حرصه على النمط التقليدي إلاّ أنّه لم يتوان عن مجاراة جديد الساحة الشعرية العربية في ديوانه "أسرار الغربة" (27 قصيدة عمودية، و5 حرّة)، وكذلك الشاعر "عيسى لحيلح" في ديوانه "وشم على زند قرشي" (08 عمودية، 03 حرّة).
  من الظواهر الملاحظة في الشعر الجزائري المعاصر سعيه إلى التخلّص من النبرة الخطابية القوية وجنوحه نحو اللغة الهادئة مع بروز ظواهر إيقاعية كثيرة كظاهرة التداخل الإيقاعي (الشكل الهجين) وظاهرة التدوير استجابة لتطوّرات القصيدة العربية المعاصرة، فهي موجّهة إلى القراءة المتأنّية المتأمّلة والمساهمة في إنتاج دلالاتها (فالمتلقي المعاصر أصبح عنصرا فعّالا في إنتاج الدلالة).

 

03. الصورة الشعرية:

أ. تمهيد: مصطلح الصورة الشعرية من المصطلحات التي ركّز عليها نقاد الحداثة الشعرية، فهي ليست تلك الصورة البلاغية التقليدية فحسب، وإنّما هي تشكيل متماسك الأجزاء يدخل في تركيبه الصورة البلاغية والرمز والأسطورة والإيحاء وكلّ ما من شأنه أنْ يثير الوجدان ويحرّك الخيط الشعوري.
ب. الصورة البلاغية:
   تحتلّ اللغة في الخطاب الشعري المكانة المرموقة لتأتي الموسيقى وتكسبه إيقاعا متميّزا، فالصورة الشعرية هي التي تخلق العالم الخاص للشاعر، فهي جوهر الشعر من شأنها أنْ تحقّق المفارقة وتجمع بين شيئين متباعدين.
  من عناصر الصورة الشعرية الصورة البلاغية، هذه الأخيرة التي تعتمد على التصوير الخيالي القائم على التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، وهي أدوات التزمها الشاعر الجزائري لتقريب الدلالة من ذهن القارئ، وعليه فقد كثرت هذه الأدوات في المدوّنة الشعرية الجزائرية المعاصرة، مثلا تقول الشاعرة "نادية نواصر":
- لأنّني أومن أنّ الشعر فينا ثورة.
- والحبّ فينا ثورة
- الشعر ملح الدنيا
- خبز الذاكرة
- الشعر دم الأمّة المهدور في الأنهار
- والشعر صوت الوطن المذبوح خارج أسوار...
- لأنّني لست امرأة كسائر النساء
- لأنّني مواطنة من أجل حبّ وطني
- مواطنة غريبة الأطوار
- الشعر عقدي والحروف خاتمي

- قصيدتي السوار
- وعطري المفضّل
- وسحري المبجّل   (من ديوان نادية نواصر)
* ما نلمحه من صور هنا: تشبيه الشعر بملح الدنيا، فهو يغذي الذاكرة مثل الخبز.
* يصوّر الشاعر لخضر فلوس حنينه إلى وطنه، فيقول:
- أيا سيّد الروح
- يا شمعة تتوهّج قرب نوافذ منزلي الساحلي
- إليك الرؤى
- وعراجين من عبق وحنين.
(تشبيه الوطن بسّيد الروح والشمعة المتوهّجة التي تحترق شوقا)
( عراجين من عبق وحنين) كناية عن شدّة الشوق
* تقول "حبيبة محمدي" :
- تتلوّن الذاكرة بمن عبروا
- تفاح أسود من خشب
- قلب يتشكّل كبخور على نار
(جعلت الذاكرة تتلوّن: تشخيص، تشبيه القلب بالبخور...)
ج. الصورة الرمزية:
 تعمل الصورة الرمزية على الإيحاء من خلال الرمز الذي يكشف بخصوصياته عن الكائن المرموز له، فالرمز يعمل على توضيح الدلالة بطريقة إيحائية تتصف بالجمالية كونها تعمل على التعبير بطريقة غير مباشرة.
  تشكّل الصورة الرمزية ملاذا للشاعر إذْ يتّخذها بمثابة القناع الذي يتستّر خلفه وهو يمرّر رسائله، فتكسبه حرية الإبداع وثراء في الدلالة التي تتطلّب حضور عنصر التأويل قصد تعرية المعنى وتقريب الدلالة، ومن أمثلة توظيف الرمز في الشعر الجزائري المعاصر:

"لخضر فلوس" حين يقول:
- رقية
- يا مرتقى الروح نحو معارجها
- ذا الشتاء الذي يتدلّى على صفحة الحجر المتثاقل
- من أين يدخل عشاقك المتعبون
- رقية
- يا وجع الناس، يا غيمة تتوضّأ في أوّل الأرض.
(رقية دلالة الارتقاء والحرية والمنزلة الرفيعة هي رمز من رموز معاني الوطن والثورة.)
* يقول نفس الشاعر في موضع آخر:
- ومرّت على ألسنة السحب الوطنية دون رذاذ
- ولم تطلع الشمس
- وابتدأ الآن عرس القبائل بالبوق والدربكة
- بلغ الجيش سنّ التقاعد
- مات الذي مات تحت النياشين
- لكنّه لم ير المعركة
(الشمس رمز الحرية)
* يقول "عاشور فني":
- إلى أشلاء من صلبوا شوقا
- على عتبات الحبّ
- أو قتلوا
- وكفّني كلّ مقتول
- بصاحبه
- وكلّ قيس بليلاه
(اتخاذ الرمز التاريخي قيس وليلى دلالة على الحبّ العفيف الطاهر، وهو دلالة على الشوق والحنين إلى الوطن.
* تقول "حبيبة محمدي":
- على كتفي همّ لا يحمله
- سوى أبو الهول
- لكنّهم خذلونا حينما اكتشفوا سرّ الحجر.
(الرمز أبو الهول وهو رمز القوّة ويدلّ هنا على مدى عمق همّها).

04. المعجم الشعري في الشعر الجزائري المعاصر:
  أ. تمهيد:
    للمعجم الشعري الفضل الكبير والمكانة المرموقة عند المتلقي فبه نغوص في دهاليز اللغة لإزالة الستار عن مخزونها، الشعر يقدّم نفسه إلى القارئ عبر أقنعة متعدّدة من خلال اللغة.
ب. بنية الوحدات المعجمية:
    للمعجم قدرة كبيرة على تحديد البنيات الدلالية الأساسية في النص، فدراسته تتيح الكشف عن الحقول الدلالية وتحديدها داخل النص كمفتاح لتحديد البنيات الأساسية لها.
من أهمّ أنواع المعجم الشعري للقصيدة الجزائرية المعاصرة ما يلي
 01. المعجم الثوري:
    تعتبر الثورة التحريرية الملهم الأكبر للشاعر الجزائري فهو وثيق الصلة بثورتنا المباركة، وهي تمثّل له المنبع الذي يغترف منه لإرواء ظمئه.
  تواترت في القصيدة الشعرية الجزائرية المعاصرة وحدات لغوية متشبّعة بدلالات الثورة متفجّرة غضبا (الرصاص، المدفع، الرشاش، البندقية، الطوفان، الدم، الثائر، السجين، التحدي...)، وهذا ما هو إلآ دليل على أنّ الشاعر الجزائري دائما يحمل الثورة بين أضلعه، ومثل هذا فعل "مفدي زكرياء" و"محمد بلقاسم خمار" و "الأخضر السائحي" و"محمد العيد آل خليفة"
* تقول نادية نواصر:
- من نشيد القصف والرعد
- وميض البرق
- عصف الريح، طوفان المطر....
02. المعجم الوطني:
  حبّ الوطن أسمى درجات الحبّ، والقارئ للقصيدة المعاصرة يصادف كثيرا مثل هذه الوحدات التي تتقاطر دلالة عن حبّ الوطن: (الأرض الطيبة، البلاد، الشوارع، الحقول، الصبا...)
03. المعجم الطبيعي:
   الشاعر الجزائري مشدود إلى طبيعة بلاده المتنوّعة، فهي تشكّل ملاذا له يطبّب بها جراحه، وعليه ما من قصيدة إلا ونجدها ملأى بوحدات الطبيعة (الشمس، الجبال، القمر، الصحراء، العشب، الماء...)، وتكرّر كثيرا هذا المعجم عند كلّ من الشاعر "عبد الحميد شكيل" (مرايا الماء مقام بونة)، والشاعرة "خيرة حمر العين" (لم نشته قمرا).
  المتصفّح للخطاب الشعري الجزائري يصادف فيضا من الوحدات الدالة على الطبيعة، مثيرة بذلك مسحة جمالية على شعرية النص، فقد شغلت هذه الوحدات الطبيعية الحيّز الأكبر في المدوّنة الشعرية الجزائرية.
04. المعجم الديني:
  هي ثنائية دائمة الحضور في القصيدة الشعرية الجزائرية: المعجم الطبيعي والمعجم الديني، فالشاعر الجزائري لا يمكنه التنصل لأصالته، فهو دائم الاعتزاز بها، لذا القصيدة الجزائرية تزخر بالمعجم الديني (الله، الصلاة، الإيمان، البرزخ، التقوى...) (مفدي زكرياء، محمد العيد آل خليفة، السائحي...)
05. المعجم الوجداني:
  المعجم الوجداني هو ذلك المعجم الذي يقوم على وحدات دلالية رقيقة عذبة تؤثّر في المتلقي وتزعزع كيانه (الحنين، الشوق، الفؤاد، الحلم، الصبابة، العذاب...)، نجد هذا المعجم مكرّرا بوحداته كثيرا عند أغلبية الشعراء الجزائريين، "لخضر فلوس" (عراجين الحنين)، "عاشور فني" (زهرة الدنيا)، "نادية نواصر" (صهوات الريح)، "حبيبة محمدي" (وقت في العراء)...
  توظيف المعجم الوجداني دلالة على أنّ الشاعر الجزائري التفت إلى ذاته، وصوّر مشاعره وأحاسيسه، فنقل بذلك الشعر من الأيديولوجيا والثورية والخطابية إلى القلب والذات في رقّتها وشوقها.
     

Modifié le: lundi 6 janvier 2025, 14:51