في أحضان المنهج التاريخي الذي عُرف خلال القرن التاسع عشر تربى كثير من اللغويين، وعلى رأسهم دي سوسير Ferdinand De Saussure ( 1857- 1913م) قبل أن يتحول عنه إلى منهج آخر ارتبطت به اللسانيات الحديثة أكثر من غيره لكونه أكثر علمية، وهو المنهج الوصفي الذي طرحه دي سوسير بديلا عن التاريخي، فصار الرجل بذلك أبا للسانيات الحديثة دون منازع. وقد أجمعت كل تعريفات اللسانيات Linguistique على كونها دراسة اللغة دراسة علمية، ومن ثم يصلح تطبيق منهجها على كل لغات العالم دون تمييز، شأن اللغة في ذلك شأن كل الظواهر المقصودة بالدراسة العلمية، ولذلك عُرفت بتعريفات عديدة لكنها متفقة حول كونها: العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع، بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية.

وقد جاء في هذا التعريف مجموعة من الكلمات تمثل أركانا بُني عليها مفهوم اللسانيات وفق نظرية دي سوسير هي:

1- طبيعة اللسانيات: علم: حيث يعد هذا اللفظ ذا قيمة كبيرة في التعريف، إذ ليس كل بحث علما، ولذلك أراد أصحاب هذا الميدان الرقي بالبحث اللغوي إلى مصاف العلوم من خلال الالتزام بكل ما يقتضيه البحث العلمي عامة من شروط على رأسها الموضوعية، والاعتماد على منهج علمي قائم على الملاحظة الدقيقة للظاهرة المدروسة، والفرضية، والتجريب وصولا إلى صياغة القانون الخاص بها، والذي يضبط حقيقتها وعناصرها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ويصلح تعميمه على كل الظواهر المشابهة. وإذا أمكننا تطبيق ذلك على الظاهرة اللغوية أمكننا الجزم بأن البحوث من طائفة العلوم لا الفنون هي التي تنتمي إليها اللسانيات، وأنها بالضبط من فصيلة العلوم الاجتماعية.

2- موضوعها: اللغة الإنسانية: فكما أن لكل علم موضوعا يشتغل عليه، فكذلك للسانيات موضوع تهتم بدراسته دراسة علمية، وهو اللغة الإنسانية. وقد يتبادر سؤال إلى الأذهان وهو: ألم يكن موضوع الدراسات اللغوية المعيارية القديمة متعلقا باللغة الإنسانية، وكذلك الأمر بالنسبة للدراستين المقارنة والتاريخية؟! فما الجديد –إذن- ما دام موضوع اللسانيات الحديثة هو موضوع الدراسات اللغوية القديمة نفسه، أي اللغة؟!

 فالجواب عن هذا السؤال يتعلق بطريقة أو منهجية الدراسة التي اختارها المحدثون، كما يتعلق الجواب بفهمٍ جديد للغة، إذ لم يعد مفهوم اللغة لدي المحدثين كمفهومها لدى القدماء. وإذا اختلف المفهوم وتغير المنهج تغيرت- بالضرورة- الدراسة والنتائج. وسنقف بعد هذا التعريف على ثنائية الموضوع عند دي سوسير، إذ فيها يحدد المفهوم الصحيح لموضوع اللسانيات وهو اللغة باعتبارها نظاما أو شكلا لا باعتبارها مادة، مفرقا بينها وبين الكلام، كما سنقف على ثنائية المنهج التي حدد من خلالها دي سوسير طريقة الدراسة العلمية الوصفية للغة باعتبارها نظاما لا باعتبارها مادة.

3- منهجها: دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع: في هذا الجزء من التعريف تقليل من شأن المنهج التاريخي دون إنكارٍ له، لأن الدراسات المقدمة حول اللغة والتي يعتبرها أصحابها دراسات علمية لاعتمادها على مناهج البحث العلمي لا يمكن إنكارها، ومن ذلك الدراسات التاريخية التي كشفت بمنهجية علمية عن جوانب من اللغة لم تكن معروفة، غير أنها دراسات تفتقد نوعا ما إلى الدقة أو إلى الشمولية، فالدراسة التاريخية مثلا تناولت اللغة من الخارج مركزة على العوامل المؤثرة في لغة ما والتي أدت بها إلى التغير والتطور بمرور الزمن دون أن تجرؤ على تناولها داخليا، كما تناولتها باعتبارها حدثا ماضيا مكتوبا ولم تفكر في دراستها باعتبارها واقعا حاضرا منطوقا، ومن ثم اهتمت بلغة الماضي مهملة لغة الحاضر... ولذلك رأى دي سوسير أن أنسب منهج لدراسة الظاهرة اللغوية دراسة علمية حقيقية متلافية أخطاء المناهج السابقة -وعلى رأسها التاريخي- هو المنهج الوصفي القائم على المعاينة والملاحظة المباشرة للظاهرة المدروسة، ومن ثم دعا إلى ضرورة دراسة اللغة في ذاتها داخليا، وإلى تقديم اللغة الآنية المنطوقة، دون اشتغال بالعوامل الخارجية – السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية...- التي أثرت على اللغة فأدت إلى تغيرها.

4- الاحتراز: بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية: وهو استبعادٌ للمنهج المعياري، إذ لا تعد من العلمية في شيء تلك الدراساتُ القائمةُ على صياغة قواعدَ ومعاييرَ قصد تعليمها للناشئة، لأن الدارس العلمي الموضوعي يقف عند حدود الوصف لا يتعداها، ولذلك بيّنها دي سوسير بأنها دراسة اللغة من أجل ذاتها، أي ليس من أجل تعليمها للأجيال أو الافتخار بها كما كان شأن المنهج المعياري. ففي هذا الاحتراز –إذن- تنبيه للدارس لئلا يقع فيما وقع فيه أصحاب المنهج المعياري من غرض تعليمي أبعدهم عن العلمية وجرّدهم من الموضوعية.

ثنائيات دي سوسير:

  طرح دي سوسير مجموعة من الثنائيات التي بنى عليها نظريته، سواء فيما يتعلق بفهمه الخاص للظاهرة اللغوية، أو فيما يتعلق بطريقة وصف وتحليل هذه الظاهرة علميا، وهي:

1-   ثنائية الموضوع: اللغة  La Langue والكلام  La Parole:

اللغة والكلام – وحتى اللسان- عند من سبق دي سوسير -وعند غير المتخصص- شيء واحد، أي " تلك العناصر المادية التي يمكن سماعها ونطقها، وتتسم بخصائص فيزيائية مميزة" وربما قالوا: مُيٍّز الإنسان عن الحيوان باللغة، وللعرب لغة هي غير لغة الفرنسيين، أو كلامهم غير كلام الفرنسيين، أو لسانهم غير لسان الفرنسيين، ولغة زيد أبين من لغة عمرو، أو كلامه أبين من كلامه... و" كثيرا ما نستخدم في كلامنا اليومي كلمة لغة للتعبير عن الكلام، نقول لغته جيدة أو لغته رديئة والمقصود بهذا الاستخدامُ الفردي للغة." وقد يوضح ذلك ما جاء في تعريف ابن جني ( ت 392ه) للغة – وهو من أحسن التعريفات- من خلال اعتباره إياها مادة صوتية – والصوت يدرك بالحواس- حيث قال:" أما حدها – أي اللغة- فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم." حيث يمكن أن يصدق هذا التعريف على ما تنتجه الجماعة، كما يصدق على ما ينتجه الفرد من أصوات تسمى في عرف اللسانيين المحدثين كلاما La Parole، دون إنكار ما جاء في التعريف من نقاط ركز عليها المحدثون في تعريفهم للغة كخاصيتها الاجتماعية، ووظيفتها التواصلية.

أما اللسانيون الوصفيون المحدثون، وعلى رأسهم دي سوسير فيفرقون بين مصطلحات طالما اعتقد من سبقوهم أنها ذات معنى واحد، وقد اعتمد دي سوسير في تفريقه على ثنائية (اللغة  La Langue والكلام  La Parole) قصد معرفة أي شقي هذه الثنائية يعد موضوعا صالحا للدراسة اللسانية، ومن ثم تعلقت هذه الثنائية -كما ذكرنا- بموضوع الدراسة اللسانية، حيث اختلف مفهوم اللغة (أي اللسان)  La Langueعند دي سوسير -باعتبارها موضوع الدرس اللساني- عن مفهومها لدى من سبقوه، وهو الأمر الذي وضحه من خلال هذه الثنائية، حيث لم يهتد أولئك القدماء إلى التفريق أو رسم حدود فاصلة بين المفردتين فاعتبروهما بمعنى واحد، ولذلك عقد دي سوسير بينهما مقارنة قصد تبيان أوجه الاختلاف بينهما، وتبيان أيهما أجدر بأن يكون موضوعا للدراسة اللسانية، فكان أهم ما ركز عليه هو فكرة النظام التي ارتبطت باسمه وكانت أهم كشوفاته، حيث تصدق عنده على أحد شقي هذه الثنائية دون الآخر.

انطلق دي سوسير في تفريقه بين شقي هذه الثنائية من ثالوث ( اللغة Le Langage/ اللسان La Langue/ الكلام La Parole) حيث كثيرا ما تتداخل مفاهيم هذه المصطلحات فلا يفرق الناس بينها، وربما اعتبروها مترادفات، ولذلك – ورغبة منه في تحديد أيّ منها يصلح موضوعا للسانيات- فرق بينها باعتبار بعضها متضمنا لبعض حسب الترتيب الذي ذكرناه.

فاللغة  Le Langage: هي اللغة الإنسانية بصفة عامة، وهي ملكة إنسانية تمثل ما تميز به الإنسان بشكل عام عن باقي الكائنات الحية الحيوانية من وسيلة اتصالية راقية لا تشبه طرائق الحيوانات في الاتصال، ولذلك – إذا ما أردنا أن نذكر ما تميز به الإنسان- قلنا: إنه عاقل، إنه مفكر، إنه ذو لغة... فاللغة الحقيقية إذن – باعتبارها ملكة- لا تنسب إلا إلى الإنسان، وهي لغة واحدة غير متعددة، غير أنها لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا، وهو – وإن كان بشريا- إلا أنه يختلف من مجتمع إلى آخر فيتعدد لأجل ذلك.

فإذا أردنا أن نقدم دراسة علمية عن اللغة الإنسانية فإنه يتوجب علينا معاينة هذه اللغة الإنسانية، غير أننا سنصطدم بحقيقة متعلقة بكون اللغة الإنسانية غير مجسدة في صورة واحدة يمكن إدراكها، حيث إننا إذا طلبنا من أحدهم أن يعبر عن حالة ما باللغة الإنسانية فإنه لا مناص من استعمال الإنجليزية إن كان إنجليزيا، أو الفرنسية إن كان فرنسيا، أو العربية إن كان عربيا، أو العامية إن كان عاميا... أي إن بعض بني الإنسان يتكلم بطريقة معينة، وبعضهم الآخر يتكلم بطرائق أخرى تنتمي جميعُها إلى اللغة الإنسانية، ونجد بعضهم يكتب بطريقة معينة وبعضهم الآخر يكتب بطرائق أخرى... وهكذا، إذ ليس هناك لغة واحدة موحدة بين البشر، وإنما لهم صور متعددة للغة. فهل ننطلق في هذه الدراسة التي أردناها للغة الإنسانية من الإنجليزية أم الفرنسية أم العربية أم... ؟! أننطلق من لغة تكتب من اليمين إلى الشمال أم من لغة تكتب من الشمال إلى اليمين...؟! لأجل هذا قلنا إن اللغة الإنسانية Le Langage لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا La Langue، وداخل تلك الأطر الاجتماعية يمكن دراستُها دراسة علمية.

 وبهذا يتضح أن اللغة  Le Langage– لأنها إنسانية- أعم من اللسان  La Langue– لأنه مجتمعي فقط-، وإنّ هذه اللغة  Le Langage ذات جانبين: جانب جماعيLa Langue، وجانب فرديLa Parole، ولا يمكن تصور أحدهما بغير الآخر.

 

 

 

أما اللسان La Langue: فمختلف عن اللغة، لأنه يعني اللغة المعينة، كالعربية والفرنسية والإنجليزية... فهو جزء محدد من اللغة، وهو جزء جوهري لكونه نتاجا اجتماعيا لملكة اللغة، ومجموعةً من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة تلك الملكة، فممارسة هذه الملكة لا يكون إلا بمساعدة الوسيلة التي تبدعها المجموعة وتضعها في خدمة هذه الملكة.

 فإذا كانت اللغة ملكة بشرية خُصّ بها الإنسان دون سواه من الكائنات من أجل التواصل، فإن اللسان ظاهرة اجتماعية تمثل نظاما من العلامات التي تعارف عليها أبناء مجتمع معين وتوارثوها جيلا عن جيل فمكّنتهم من التواصل فيما بينهم فقط، ولذلك يمكن القول إن اللسان La Langue: نظام من العلامات الصوتية الاعتباطية التي تُستخدم في الاتصال بين بني الإنسان.

وليس للسان  La Langueتحقق فعلي، لأنه عبارة عن قوانين وقواعد لغوية ( مجردة غير محسوسة) محصورة موزعة على أذهان أبناء المجتمع الواحد، أو هو كما – كما عرّفه دي سوسير-" رصيد (trésor) يُستودع في الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد بفضل مباشرتهم للكلام، وهو نظام نحوي يوجد وجودا (تقديريا) في كل دماغ، أو على الأصح في أدمغة المجموع من الأشخاص، لأن اللسان لا يوجد كله عند أحد منهم بل وجوده بالتمام لا يحصل إلا عند الجماعة."

والناس حين يتواصلون-ويحصل بينهم فهم متبادل- لا يتكلمون القواعد(لأنها مجردة غير محسوسة) وإنما ينشئون كلاما(مادي محسوس) منطوقا أو مكتوبا، ويتفاوتون في ذلك، انطلاقا من تلك القواعد ووفقا لها، فينقلون " اللغة من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق الكلام أو الاستعمال".

فاللسان أشبه ما يكون ببرمجة (مجردة) آلية موحَّدة لمجموعة من الحواسيب زُوِّدت جميعا بنظام واحد (وليكن نظام الوورد2007)، حيث إننا إذا كتبا نصا (مادي محسوس) وفق ذاك النظام (وورد2007) المسجل في ذاكرة حاسوبنا، فإنه لا يمكن أن نطلق اسم الوورد على ذلك النص، لأن النص المُنتَج ليس عبارة عن قوانين، وإنما هو مُنتَج مادي حصلنا عليه انطلاقا من القانون المجرد(وورد2007) الذي بُرمج عليه حاسوبنا– وهو ليس ملكا لحاسوبنا وحده-ومن ثم فإنه بإمكاننا أن ننقل ذاك النص إلى حواسيب أخرى، فإذا كانت تلك الحواسيب مزودة بالبرنامج نفسه( وورد2007) استطاعت أن تقرأ النص، وكأنها تواصلت مع حاسوبنا الذي ينتمي إلى مجتمعها، أما إذا لم تكن مزودة بالبرنامج نفسه(وورد2007) -مع كونها مزودة ببرامج أخرى- فإنها لن تستطيع قراءة النص، وكأنها حاولت التواصل مع حاسوبنا فلم تفلح لأنه لا ينتمي إلى مجتمعها وإنما ينتمي إلى مجتمع آخر. ومثل النص الذي أنتجه حاسوبنا وقرأته الحواسيب الأخرى المماثلة فإنه باستطاعة تلك الحواسيب إنتاجُ نصوص أخرى لا حصر لها وقراءتُها أو فهمُها انطلاقا من كونها مزودة بالبرنامج نفسه.

 فهل يُستساغ بعد الآن الخلط أو عدم التفريق بين النظام وبين ما ينتجه ذلك النظام؟! إن طبيعة كلٍ منهما تختلف عن طبيعة الآخر، فطبيعة اللسان La Langueتختلف عن طبيعة ما ينتجه اللسان، وهو الذي سماه دي سوسير كلاما  La Parole كما سنتعرف على ذلك.

معنى كون اللغة (اللسان)  La Langue  نظاما:

    لنا أن نطرح السؤال التالي – إذا أردنا أن نفهم ماهية النظام بصفة عامة -: ما الذي جعل من كومةٍ من الرمل والحصى، وحزمةٍ من الحديد، وأكياسٍ من الإسمنت، وقطعٍ من الخشب، وصفائحَ من الزجاج و... ما الذي جعل من هذا الركام بيتا جميلا مرة؟ وحجرة دراسة مرة أخرى؟ ومسجدا مرة ثالثة؟... إنها الأنساق (الأنظمة) التي نُظمت وفقها تلك العناصر، فلولا النسق (النظام) لبقيت تلك العناصر مجرد أكوام من الرمل والحصى والحديد... لولا النسق (النظام) لما كان لأيٍّ منها قيمة، أي لولا المخطط الذي اختاره المهندس، ولولا معرفة أين يوضع الحديد؟ ومن أي عيار؟ وكيف ينسج؟ وكيف تخلط الخرسانة؟ وما نسبة الإسمنت فيها؟ وما نسبة كلٍ من الماء والرمل والحصى؟ ولولا معرفة أن الأساس يُقدَّم علة الأعمدة، وأن الأعمدة تُقدَّم على الجدران، وأن السقف يأتي في الأخير... لولا إتقانُ كل هذا، وتفاعلُ كلِّ هذه العناصر، وقيامُ كلٍ منها بدوره، والتزامُه بمكانه لما حصلنا على ذلك البيت المتقن، أو الحجرة الدراسية الرائعة، أو المسجد الجميل... فمن عرّف اللغة خارج مفهوم النظام – بكونها أصواتا- كان كمن عرّف البيت بكونه كومةً من الرمل والحصى ...  إلخ.

    إن اعتبار اللغة (اللسان) نظاما عند دي سوسير يعني أنها بنية تحكمها شبكة من العلاقات الداخلية التي تربط مستويات اللغة بعضها ببعض، أو إنها مجموعة من الأنظمة تتكامل فيما بينها ولا يمكن فصل نظام عن آخر أثناء التأدية الفعلية للكلام. فاللغة -إذن- ليست مجرد قائمة من المفردات ولاهي " مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس، أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته." إنما تُتصور اللغة وتُوصف باعتبارها نظاما " من العناصر المترابطة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، لا على أنها تراكم من كيانات قائمة بذاتها."

                                            4/ المستوى الدلالي                   (تُدرس الدلالة دراسة علمية)

                       

                                      3/ المستوى التركيبي        (لا تُدرس الجمل، بل أنماط الجمل)       

اللغة (اللسان) La Langue = نظام                                                          

                                          2/ المستوى الصرفي           (لا تُدرس الكلمات، بل أنساق الكلمات)

     

                                   1/ المستوى الصوتي            (لا تُدرس الأصوات، بل قوانين الأصوات ووظائفها )                                                                                            

    إن النظام في اللغة (اللسان) يعني – في اللسانيات- تلك العلاقات المتبادلة للعناصر، "العلاقات بين العناصر، وليس العناصر نفسها هي موضوع العلم." ومن ثم قال دي سوسير بأولوية النسق أو النظام – في الدراسة اللسانية- على العناصر، ووظيفة اللسانيِّ هي استكشافُ تلك العلاقات التفاعلية الداخلية بين عناصر النسق، ووصفُها وتحليلُها، فلا يُحدَّد أيُّ عنصر إلا من خلال علاقته الخلافية مع العناصر الأخرى، لأن حصول التغير على أحد العناصر يعني تغيرَ النظام كلِّه أو ربما تعطُّلَه، فإذا قلتُsad صباح هذا اليوم أيقظني منبه الساعة) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي خاص في لغتنا العربية، وإذا قلتُsadأيقظني منبه الساعة صباح هذا اليوم) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي آخر تتيحه لغتنا، أما إذا قلتُsad منبه أيقظني هذا صباح اليوم) فإن النظام في هذه الحالة قد تعطل، ولا أحد من أبناء العربية يوافقني على ما نطقته من تركيب فاسد، لا لشيء إلا لأني خالفت النظام ولم ألتزم به – مع أني صغت تلك القطعة من العناصر نفسِها التي ركبتُ منها التركيبين الأول والثاني !

أما الكلام La Parole: فهو التأدية الفعلية الفردية للسان، أي ما ينتجه فرد ما داخل مجتمعه انطلاقا مما يعرفه من نظام وقوانين وقواعد لسانِه ( كاللسان العربي أو الفرنسي أو الإنجليزي...) ولذلك فهو " نشاط شخصي مراقب، يمكن ملاحظته من خلال كلام الأفراد أو كتاباتهم." ومن ثم يتعدد الكلام داخل المجتمع الواحد بتعدد الأفراد الناطقين، فأقول: سمعت كلام زيد، وأعجبت بكلام فاطمة... لأنه– حسب دي سوسير- إنتاج شخصي خاص بالفرد الذي أنتجه صوتا أو كتابة، دون أن ننسب الكلام إلى الجماعة، لأن للجماعة لساناLangue وليس لها كلامParole، ومن ثم اعتُبر (الكلام) العنصر الأضيق بين هذه العناصر الثلاث( اللغة/ اللسان/ الكلام)، فالكلام متضمَّن في اللسان، واللسان متضمَّن في اللغة، أو فلنقل: اللغة مشتملة على مجموعة من الألسنة، وكل لسان مشتمل على كلام كثيرٍ من الناس.

وباختصار نقول إن دي سوسير استطاع التمييز بين ما هو ملكة بشرية، وما هو تواضع اجتماعي، وما هو نشاط فردي متعلق بالذكاء والإرادة، حيث إن:

اللغة Le Langage: هي ما يميز الإنسان عامة عن بقية العوالم الأخرى من ملكة لغوية.

اللسان La Langue: يكون داخل اللغة، وهو ما يميز مجتمعا عن آخر، كالذي يتميز به المجتمع العربي عن المجتمع الفرنسي أو الإنجليزي –مثلا- من نظام لغوي معين.

الكلام La Parole: يكون داخل اللسان الواحد، وهو ما يميز شخصا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كالذي يتميز به زيد عن عمرو –مثلا- فيما ينتجه كل منهما.

يمكننا القول - بعد هذا التفريق- إن اللسانيات تهدف إلى دراسة اللغة الإنسانية Le Langage بصفة عامة، ولما كان غيرَ ممكن إدراكُ هذه اللغة الإنسانية إلا في وفق وجودين، أحدهما اجتماعي وهو نظام يميز جماعة عن أخرى La Langue، والآخر فردي وهو أداء La Parole يميز فردا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كان لزاما على دي سوسير أن يختار أيّ هذين الوجودين ( النظام الاجتماعي أم الأداء الفردي) أولى بالدراسة العلمية.

وقد قرر دي سوسير غير مرة في كتابه أن اللسان La Langue هو موضوع الدراسة وحده، لكن الكلام La Parole هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدراسة اللسان دراسة علمية لكونه –أي اللسان- مجردا لا يمكن التعرف عليه إلا من خلال كثيرٍ من الكلام الذي أنتجه أبناء مجتمع ما انطلاقا من قواعده، وفي هذا يقول روبنز:" بينما يشكل ( Parole) أو الكلام المادة التي يمكن الحصـول عـلـيـهـا مباشرة، فإن الهدف الصحيح للغوي هو ( Langue) لغةُ كل جماعة لغوية، أي المعجم والقواعد والفونولوجيا المغروسة في كل فردٍ بسبب نشأته في اﻟﻤﺠتمع المعين وتنشئته على الأسس التي وفقا لها يتكلم لغة هذا اﻟﻤﺠتمع ويفهمها."

لم اعتبرت اللغة ( اللسان La Langue) أولى في الدراسة اللسانية من الكلام La Parole على الرغم من كونهما جانبين متناظرين لظاهرة واحدة هي اللغة الإنسانية؟!

بإجراء مقارنة بين اللغة La Langue( التي سميناها من قبل لسانا) وبين الكلام La Parole من خلال خصائص كل منهما تتبين أفضلية اللغة في الدراسة اللسانية على الكلام، وبمثل تلك المقارنة استطاع دي سوسير أن يميز –باقتدار- المستوى الذي يتأثر بذكاء الفرد وثقافته وإرادته، من المستوى الذي يعمل البنيويون على كشفه ووصفه ودراسته. فكثيرة هي الخصائص التي جعلت من اللغة(اللسان) La Langueموضوعا للدرس اللساني، ويكفيها كونها قواعد قارة ثابتة من صنع المجتمع لا من صنع الأفراد، والثابت يمكن ملاحظته ووصفه وصفا دقيقا، بخلاف ما لم يكن قارا كما هي حال الكلام La Parole باعتباره نشاطا فرديا متنوعا متعلقا بذكاء الفرد وإرادته. وقد ذهب ستيفن أولمان إلى أبعد من ذلك حين ركز على ما يلي: اللغة ثابتة مستقرة والكلام عابر سريع الزوال، واللغة تفرض علينا من الخارج في حين الكلام نشاط متعمّد مقصود، كما أن اللغة اجتماعية والكلام فردي.

    وقد رسم محمد قاسم المومني حدودا فاصلة بين المصطلحين لا تخرج في مجملها عن تلك الحدود التي بينها دي سوسير، فقال:"...أما (Langue) فهو النظام الذي يتعالى على الأفراد، هي جملة القواعد التي تحدِّد ضمن حالة لغوية استعمالَ الأصوات والأشكال ووسائل التعبير التركيبية والمعجمية. فهي تجريد باعتبارها نظاما متعاليا. وهي ظاهرة اجتماعية بما أنها توفر النمط الذي يحتذيه كل أفراد المجموعة اللغوية الواحدة في أفعالهم اللسانية وردود أفعالهم. أما (Parole) فهي تخص الاستعمال الفردي لهذا النظام المتعالي، فهي ظاهرة فردية محسوسة تخرج بالوضع اللغوي من وضع التجريد إلى وضع المحسوس، ومن وضع القاعدة إلى وضع استعمال القاعدة."

    كما أن اللغة(اللسان) La Langueسابقة للكلام باقية بعده، إذ إنها موجودة وإن لم تُنطق، يقول ليونز:" هناك علاقة وثيقة بين اللغة والكلام، ومنطقيا فإن الأخير (الكلام) يفترض سلفا الأول (اللغة) أي: إن المرء لا يستطيع الكلام دون استخدام اللغة، أي بدون التكلم بلغة معينة، لكن من الممكن أن يستخدم اللغة دون أن يتكلم."

   إضافة إلى عدم إحاطة الفرد باللغة (اللسان) La Langue لسعتها، وقديما قال الشافعي في الرسالة:" لا يحيط باللغة إلا نبي." إذ إنها ليست موجودة بشكل مكتمل عند أي متكلم وإنما وجودها المكتمل متعلق بالجماعة، فكل فرد يحاول أن يأتي كلامُه وفق لغة مجتمعه، ولكن لا يمكن أن يحققها تحقيقا كاملا، فاستعماله لها استعمال نسبي ولذلك نجد الأفراد متفاوتين في مراعاة قواعد لغتهم، ولعل هذا من أهم الخصائص التي دفعت بدي سوسير لأن يتخذ اللسان (اللغة)  La Langueموضوعا للدرس اللساني، خاصة أن كلام الأفراد يتحقق في صُوَر كثيرة غير محصورة سواء أتعلق الأمر بالمفردات أم بالعبارات والجمل، وهي منتجات لا سبيل إلى حصرها فضلا عن دراستها. أما القوانينُ والقوالب التي تصاغ وفقها تلك المفردات، والأنماطُ التي تبنى عليها تلك الجمل فمحصورةٌ معروفة في كل لغة ولذلك يمكن دراستها، ومن ثم كان موضوع الدراسة العلمية للسان مقصورا على تلك القواعد والأنماط أو النماذج التي يأتي الكلام وفقها.

     فبإمكاننا أن ننجز عددا غير متناهٍ من الجمل التي تشبه جملتنا (أكل الولد التفاحة) والتي جاءت وفق النمط التالي(فعل ماض+ فاعل معرف ب "ال" + مفعول معرف ب "ال") فنقول: قرأ الطالب النص- راجع التلميذ الدرس– حرث الفلاح الأرض- قرض الفأر الحبل... لنجد أنفسنا أمام جمل غير محصورة، ولكنها وفق نمط واحد على منواله أُنشِئَت تلك الجمل، ولذلك لا ينبغي أن ندرس كل تلك الجمل التي تمثل قائمة مفتوحة، وإنما ينبغي أن ندرس تلك النماذج والقواعد المحصورة في كل لغة.

     ثنائية المنهج: (الآنية والزمانية)

إذا كانت الثنائية الأولى (اللغة/ الكلام) متعلقة بسؤال هو: ما موضوع اللسانيات؟ فكان طرفا تلك الثنائية( اللغة/ الكلام) من أجل اختيار أحدهما موضوعا للدرس اللساني واستبعاد الآخر، فإن سؤالا آخر يُطرح الآن وهو متعلق بكيفية التعامل علميا مع ما تم اختياره موضوعا لهذه الدراسة، وهو اللغة.

 ولما كان الكون محكوما بالحركة والسكون كانت كل الظواهر الكونية معرَّضة لهاتين الحالتين(الحركة /السكون) ومن تلك الظواهر الظاهرة اللغوية – موضوع الدرس اللساني- ولذلك فإن السؤال المطروح فيما يتعلق بكيفية التعامل علميا مع اللغة هو: ما هي النظرة الأَوْلى بالتقديم في دراسة النظام اللغوي دراسة علمية؟ أهي النظرة الآنية باعتبار اللغة ساكنة، أم النظرة التاريخية باعتبار اللغة متطورة؟

   ومن ثم فإن الإجابة عن ذلك السؤال المتعلق بكيفية التعامل مع اللغة- تبعا لما تعرفه اللغة من حركة وسكون- أدت بدي سوسير إلى الإقرار بوجود نوعين من الدراسة يجب التمييز بينهما، وهما الدراسة الآنية أو السكونية، والدراسة الزمانية أو التطورية، حيث تقدم لنا كل دراسةٍ حقائقَ عن اللغة مختلفةً عما تقدمه الدراسة الأخرى " وهذا منه محاولة إصلاح للآراء الخاطئة التي أضلت أكثر اللغويين الغربيين منذ أن افتتنوا بمفهوم التطور كمفهوم إجرائي في تحليل الظواهر، وقابلوا به المعيارية النحوية أو المنطقية العقيمة."

   إن اختلاف ما تقدمه هاتان النظرتان شبيه إلى حد بعيد بوصفين مختلفين قدمهما تلميذان لغزال جميل، حيث قدم التلميذ الأول وصفه للغزال وهو طليق بعيد عنه يعدو في البراري، بينما قدم التلميذ الثاني وصفه للغزال وهو قريب منه مسجون في قفص، فلا شك أن الوصفين يختلفان من حيث الدقة، ولا شك أن وصف القريب أدق، لأن ملاحظةَ الثابت المستقر- فضلا عن كونه قريبا- ووصفَه أوضحُ وأدق من ملاحظة المتحرك- فضلا عن كونه بعيدا- وذلك لأن الحركة كثيرا ما تعيق الدراسة الدقيقة، وكمثال آخر فإننا لا نستطيع تشريح أرنب لدراسة أنسجته مثلا إلا بتخديره، فذلك التخدير يسكن ويمنع الحركة ويمكّن من الملاحظة الدقيقة المريحة وما كنا لنحصل عليها لو كان متحركا غير مخدّر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة، حيث إن الناظر إلى لغة معينة كما هي متداولة بين أبنائها يدرك أنها ساكنة ثابتة فلا يشعر بأي حركة أو تطور فيها، بينما إذا نظر إلى تلك اللغة عبر تاريخها أدرك أنها متحركة متطورة من زمن إلى آخر، فهذا الناظر يدرك أنها ساكنة في الزمن الواحد، غير أنها متطورة إذا اختلفت الأزمنة، وكأنها كما وصف الله عز وجل الجبال في قوله:{ وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مرَّ السَّحَاب }[النمل/88].

   وكما سمينا الثنائية السابقة ثنائية الموضوع، يمكن تسمية هذه الثنائية بثنائية المنهج (آني/ زماني) نسبة إلى الحالة التي تكون عليها اللغة أثناء دراستها، إما حالة ثبات وسكون، وإما حالة حركة وتطور. ومن خلال هذه الثنائية أيضا، وبعرض خصائص كل من البعدين الآني والزماني، يمكن الوقوف على قيمة ما نبّه إليه دي سوسير من ضرورة الاعتماد على الرؤيتين في دراسة اللغة دون خلط بينهما، مع إلزامية تقديم الآنية على الزمانية:

1/ الزماني: تختص الزمانية أو التعاقبية باللسانيات الخارجية بوصف المراحل التطورية للغة عبر الأزمنة المتتابعة حيث تدرس تطور اللغات وعلاقة ذلك بالسياسة والمجتمع والثقافة... "فثقافة أمة ما تؤثر تأثيرا ملموسا في لغتها، كما أن اللغة من المقومات المهمة للأمة." وهي الدراسة التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر –أي قبل دي سوسير- والتي كان يعتقد أصحابها أنها الدراسة العلمية الوحيدة للغة حتى قالوا:" لا علم إلا في المنهج التاريخي" فكادوا أن يهملوا اللغات المعاصرة التي تمثل الحاضر.

ويمثل البعد الزماني (التعاقبي، التطوري، التاريخي...) دراسةَ اللغة حسب الهيئات التي اتخذتها بمرور الزمن، من خلال ملاحظة تلك التطورات وتسجيلها وإرجاعها إلى عواملها المؤثرة فيها بغية الوقوف على القوانين العامة لتطور اللغات ومن ثم التنبؤ بمستقبلها...

2/ الآني: بينما تختص الآنية أو التزامنية –التي دعا إليها دي سوسير- بوصف حالة اللغة كما تجري في زمن معين ومكان معين بقطع النظر عن حالتها التي كانت عليها قبل ذاك الزمن أو بعده، أي تدرسها في ذاتها وبمعزل عن التاريخِ وعن كلِّ العوامل الخارجية المؤثرة فيها. حيث يتعين على اللساني – وفق هذه الرؤية- دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات، من خلال الاهتمام باللسانيات الداخلية التي تدرس نسق اللغة وقواعدها الباطنية.

 فحتى يوصف النظام وصفا دقيقا ويحلل تحليلا علميا لا بد أن يكون ذلك النظام في حالة سكون وثبات، فيُبحث المستوى اللغوي الواحد من جوانبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية في زمن بعينه ومكان بعينه، وإذا استطعنا وصفه وهو ساكن أمكننا بعد ذلك فقط ملاحظة التغيرات الطارئة عليه بتعاقب الأزمنة. ولذلك ألح دي سوسير على أن الدراسة الزمانية لا يمكن أن تؤتيَ أكلَها إلا بعد دراسة نظام اللغة المقصودة وضبطه عبر أزمنة مختلفة، ولا يكون ذلك إلا بتسكين اللغة في زمن محدد للتمكن من معرفة نظامها في مختلف مستوياتها، ثم فعل الشيء نفسه في زمن آخر ثابت، وهكذا دواليك ليتسنى للباحث بعد ذلك دراسة التطور ووصفه وصفا دقيقا في أي مستوى من مستويات اللغة المعينة بمقارنة حالها من زمن إلى آخر اعتمادا على ما قدمه المنهج الوصفي من معطيات علمية لتلك اللغة خاصةٍ بأزمنة محددة.

    ويمكن التمثيل لهاتين النظرتين- منطلقين من لغتنا العربية- وفق المحور التالي، حيث يمثل الخط (أ، ب) الدراسة الوصفية الآنية، بينما يمثل الخط(ج، د) الدراسة الزمانية التعاقبية. وكلتا الدراستين مهمة غير أن الوصفية القائمة على دراسة اللغة في ذاتها أهمُّ وأَوْلى لكونها أدقَّ وأكثرَ علميةً وموضوعيةً من الأخرى، خاصة أنها تعرِّفنا بحقيقة حالةِ اللغة ونظامها، بينما تعرفنا التعاقبية بتاريخ اللغة ومؤثراتها الخارجية، ولا خلاف- منطقيا- في كون معرفةِ النظام أسبقَ وأوْلى بالتقديم من معرفة ما يطرأ على هذا النظام من تغيرات:

 
 

ج

 

 

 

 

 


Zone de Texte: [Tapez le contenu de l'encadré. Un encadré est un texte indépendant ajouté au document principal. Il est souvent aligné sur le bord gauche ou droit de la page, ou placé en haut ou en bas. Utilisez l'onglet Outils de zone de texte pour modifier la mise en forme de la zone de texte de l'encadré.]

 

 

 

 

Zone de Texte: الدراسة الزمانية

 

 

 

 

 

Zone de Texte: [Tapez le contenu de l'encadré. Un encadré est un texte indépendant ajouté au document principal. Il est souvent aligné sur le bord gauche ou droit de la page, ou placé en haut ou en bas. Utilisez l'onglet Outils de zone de texte pour modifier la mise en forme de la zone de texte de l'encadré.]

 

 

 

 

 

 

 

أ

 

 

                  الدراسة الآنية          

 

د

 

 

 

 

- القرن الأول قبل الإسلام

 

- القرن الهجري الأول

 

- القرن الهجري الثاني

 

- القرن الهجري الثالث

 

- القرن الهجري الخامس

 

- القرن الهجري الثامن

 

- القرن الهجري الثاني عشر

ب

 

 

 

-القرن الهجري الخامس عشر

 

 

 

فالخط ( أ، ب) يمثل دراسة وصفية للغة العربية في زمن محدد- وهو القرن الهجري الخامس عشر- حيث تكون فيه حالة اللغة ساكنة مستقرة، وهو الأمر الذي يمكِّننا من دراسة حالةِ نظام اللغة دراسة داخلية بمعزل عن كل المؤثرات الخارجية. كما يمكننا أن ندرس حالات هذه اللغة في أزمنة أخرى شرط تسكين اللغة بتحديد زمن معين( كما هو موضح بالخطوط الأفقية المتقطعة)، كأن يكون العصرَ الجاهلي ممثلا في القرن الأول قبل الإسلام، أو عصرَ صدر الإسلام ممثلا في القرن الهجري الأول الذي عرفت فيه اللغة تطورا ملحوظا عما كانت عليه في الجاهلية، أو العصرَ الأُمويَّ، أو العباسيَّ الأول أو الثاني أو عصرَ المماليك... وكلها أزمنة عرفت فيها اللغة العربية حالات تطور، غير أن تلك الحالات محتاجة إلى الكشف عنها من داخِلها كشفا علميا دقيقا.

ومن خلال ما تقدمه الدراسة الوصفية من حالات مرت بها اللغة العربية من جاهلية، وإسلامية، وأُموية، وعباسية، ومملوكية، وحديثة يمكن - بعقد مقارنة بين هذه الحالات المتعاقبة- التأسيسُ لدراسة تاريخية زمانية، وهي الممثلة في الخط (ج، د)، تعنى بتعليل أسباب التطور كأن ترجعها في عصر صدر الإسلام إلى الأسباب الدينية وتأثير القرآن الكريم على اللغة، وفي العصر الأُموي إلى العوامل السياسية بسبب تنافس الأحزاب-كالشيعة والخوارج والأمويين والعباسيين- على الخلافة وانعكاس ذلك على اللغة، وفي العصر العباسي إلى العوامل الاجتماعية والثقافية التي اصطبغ بها مجتمع ذلك العصر متأثرا بالثقافة الفارسية واليونانية... إلخ.

    وبهذا يكون دي سوسير أشهر من دعا إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين المنهجين، لأن هناك فرقا بين الشيء وبين تاريخ ذلك الشيء – كما بين ذلك من خلال مثاله المشهور عن لعبة الشطرنج- حيث " صاغ وأوضح ما اعتبره اللغويون السابقون أمرا مفروغا منه أو تجاهلوه، وهو البعدان الأساسيان الضروريان للدراسة اللغوية. والبعد الأول هو الدراسة التزامنـيـة Synchronic التي تعالَجُ فيها اللغـاتُ بـوصـفـهـا أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن بعيد، والبعد الثاني هو الدراسـة التعاقبية (التاريـخـيـة) diachronic التي تعالَج فيها تاريخيا عوامـلُ الـتـغـيـيـرِ التي تخضع لها اللغات في مسيرة الزمن. ولـقـد كـان إنجـازا لـسـوسـيـر أن يميز بين هذين البعدين أو المحورين لعلم اللغة: البعد التزامني أو الوصفي، والبعد التعاقبي أو التاريخي، وكل منهما يستخدم مناهجه ومبادئه الخاصة به وأساسياته في أي مقرر تعليمي ملائـم لـلـدراسـة الـلـغـويـة أو الـتـدريـس اللغوي".

ولما كان لكل بُعد من هذين البعدين مناهجه ومبادؤه الخاصة تمايزت الدراسةُ الوصفية الآنية التي دعا إليها دي سوسير عن الدراسة التعاقبية التاريخية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، واستقلت بذاتها، لأن الدراسة التاريخية متنافية -إلى حد بعيد- مع دراسة اللغة كنظام، ولذلك قيل:" العلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية." وهو الأمر الذي جعل من اللسانيات التزامنية – الآنية- علما مختلفا الاختلافَ كلَّه عن اللسانيات التعاقبية – الزمانية- منهجا وموضوعا، فضلا عن قيمتها – لقيمة منهجها الوصفي- التي فاقت قيمة اللسانيات التاريخية، وهو ما جعلها مدينةً – إلى مدى بعيد- بِعِلَّة وجودها للمنهج أكثر مما هي مدينةٌ للموضوع.

ولذلك لابد من الإقرار- إذن- بعد عرضنا لخصائص كل من المنهجين التاريخي التعاقبي، والوصفي الآني بأن أزمة الدراسة اللغوية بصفة عامة هي أزمة منهج، وهو الأمر الذي أقر به دي سوسير، ولولا تلك الأزمة ما جثمت المعيارية على صدر الدراسة اللغوية قرونا طويلة... وإذا اعتُبر الاهتداءُ إلى المنهج التاريخي حلا لمجابهة تلك الأزمة، فإن ذاك الحل نفسه سرعان ما تحوّل إلى أزمة حين لم ينظر إلى اللغة إلا من جانب واحد متعلق بهيئتها التطورية الناتجة عن مخلَّفات التاريخ متغاضيا عن هيئتها السكونية، ولم يدرس من اللغة إلا اللغةَ الماضية المكتوبة مهملا بذلك اللغة الحاضرة المنطوقة، فضلا عن قصوره عن دراسة اللغة في ذاتها دراسة داخلية مكتفيا في ذلك بالدراسة الخارجية... فإذا كانت هذه النقاط السلبية محسوبة على المنهج التاريخي المتعلق بالماضي فإن ذلك يعني أن أزمة المنهج لازالت قائمة، ولابد للأزمة من حل، وهو ما تجلى في الدراسة الوصفية الآنية التي اهتدى إليها دي سوسير مبينا ضرورتها وقيمتها مقارنا بينها وبين الدراسة التاريخية التي كانت سائدة من قبل والتي كان يعتقد اللسانيون أنها الدراسة اللغوية العلمية الوحيدة.

وبهذا التمييز بين الدراستين يكون دي سوسير- الأب الروحي للبنيوية- قد قدم لنا إجابة وافية عن السؤال المتعلق بأيّ المنهجين – الوصفي أم التاريخي- أوْلى بالتقديم في دراسة اللغة باعتبارها نظاما؟ وهي الإجابة التي يبرئ من خلالها نفسه من أن يكون رافضا للدراسة التاريخية أو منكرا لقيمتها.

Last modified: Friday, 6 December 2024, 10:25 AM