الحقيقة أن اللغة، وإن كانت تستعمل من أجل التواصل والتبليغ كما جاء في كثير من التعريفات الخاصة بها، إلا أن من يتمعن في الوظيفة اللغوية - كما فعل أصحاب حلقة براغ وعلى رأسهم جاكبسون- سيقف على حقيقةٍ مفادُها أن كثيرا مما كان يُعتقَد واحدا هو في الحقيقة متعددٌ، وهو الأمر الذي وضّحه جاكبسون وفصّله عندما راح يبيِّن أن كَوْنَ اللغةِ ذاتَ وظيفة أمرٌ بديهي، غير أن كَوْنَ الوظيفةِ متعددةً هو أمرٌ غير معهود، ولذلك عُدَّ تحديدُ وظائف اللغة، وتصنيفُها، وتمييزُ بعضها عن بعض، وإقامةُ كل وظيفة على عنصرٍ من العناصر الستة لدورة التخاطب سبقًا أحرزه جاكبسون، فضلا عن وقوفه على فكرة هيمنة الوظائف، حيث طرح جاكبسون فكرة الهيمنة أو طغيان وظيفة على حساب الوظائف الأخرى في الرسالة الواحدة، وانطلاقا من تلك الهيمنة تتحدد وظيفة الرسالة وتُنسب إليها، على الرغم من أنها تحمل إلى جانب تلك الوظيفة وظائف أخرى ولكنها غير مهيمنة، ومن ثم كان لابد لكل رسالة من وظيفة مهيمنة، وندر وجود رسائل مكتفية بوظيفة واحدة.

 وفيما يلي حديث مختصر عن تلك الوظائف من وجهة نظر جاكبسون:  

1- الوظيفة التعبيرية La fonction expressive أو الانفعالية Emotive:

    وتتعلق هذه الوظيفة بالمرسِل وانفعاله أو موقفه تجاه ما يتحدث عنه باعتبار المرسِل مَصدرَ الخطاب سواء كان صادقا في ذلك أو كاذبا، ولذلك تتميز هذه الوظيفة كما يقول الطاهر بومزبر بكونها " تنزع إلى التعبير عن عواطف المرسِل ومواقفه إزاء الموضوع الذي يعبر عنه، ويتجلى ذلك في طريقة النطق مثلا أو في أدوات تعبيرية تفيد الانفعال كالتأوّه، أو التعجب، أو دعوات الثلب، أو صيحات الاستنفار..." وكثيرا ما تسيطر هذه الوظيفة عندما يطغى (الأنا) فيتحدث المرسِل عن نفسه كما هي الحال في السيرة الذاتية أو الفخر أو الغزل، ولذلك " تتمظهر الوظيفة الانفعالية عبر أدوات تركيبية خاصة يتصدرها التعجب (l´interjection) وضمير المتكلم –أنا- (je) " ومن ذلك-مثلا- هيمنتها على كثير من قصائد عنترة والمتنبي كقول هذا الأخير:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي        وأسمعت كلماتي من به صمم

فالخيل والليل والبيداء تعرفني           والسيف والرمح والقرطاس والقلم.

2- الوظيفة الإفهاميةLa fonction cognitive  أو التأثيرية La fonction impressive:

    وتتعلق هذه الوظيفة -حال هيمنتها- بالمرسَل إليه باعتباره العنصر الرئيس في دورة التخاطب، وذلك لإثارة انتباهه أوتوجيهه والتأثير عليه، أو إقناعه حسب رغبة المرسِل، أو إدخال السرور عليه والتخفيف عنه، ولذلك تهيمن هذه الوظيفة على الخطاب ذي الأسلوب الإنشائي الموجه إلى المخاطَب، والهادفِ إلى التأثير أو الإقناع أو الإمتاع أو الإثارة والاستفزاز، فتكثر في الخطابات السياسية والدينية التي تجعل المتلقي هدفا لها من خلال اعتمادها على الأمر والنهي والعرض والتحضيض وكثافة الحجاج... ومن ثم تتميز الرسالة التي تسيطر عليها هذه الوظيفة بكونها:

"- ذات طابع لفظي يتمظهر في تركيبتين بارزتين في كل لغة إنسانية، وهما (الأمر والنداء).

- لا تقبل قيمتها الإخبارية الإخضاع لأحكام تقييمية، لأنها ترِد في أسلوب إنشائي بمصطلح البلاغة القديمة."

ومن النصوص التي تهيمن عليها هذه الوظيفة معظم قصائد الوعظ كقول أبي العتاهية:

إذا ما خلوتَ الدهر يوما فلا تقل        خلوتُ، ولكن قل عليَّ رقيبُ

ولا تحسَبَنَّ اللهَ يُغفِلُ ما مضى           ولا أن ما يخفى عليه يغيب.

3- الوظيفة المرجعية La fonction référentielle:

    تتعلق هذه الوظيفة- حال هيمنتها على الرسالة- بالسياق أو المرجع، أي موضوع الرسالة الذي يُتَحدّث عنه وما يشير إليه في الخارج أو الواقع. حيث إن " الدليل أو العلامة اللغوية بطبيعتها النيابية تُستعمل في العمليات التخاطبية باعتبارها نائبة عن أشياء عندما نتحدث عنها بدل استحضارها داخل السياق الخطابي" ولذلك فإن تشكُّلَ هذه الوظيفة ذو علاقة بالمرجع أو الموجودات الخارجية والأحداث التي تشير إليها الألفاظ، ولهذا تهيمن على الخطابات الواقعية والتاريخية، حيث تكون العلامات اللغوية شديدةَ الارتباط والإشارة إلى الوقائع والأحداث التاريخية كما يقول عبد السلام المسدي "باعتبار أن اللغة فيها تحيلنا على أشياء وموجودات نتحدث عنها، وتقوم اللغة فيها بوظيفة الرمز إلى تلك الموجودات والأحداث المبلَّغة." ولذلك يمكننا ببساطة ملاحظة هيمنة هذه الوظيفة على النصوص الملحمية كإلياذة هوميروس.

4- الوظيفة التوصيلية أو الانتباهيةLa fonction phatique :

    تتعلق الوظيفة التوصيلية بالقناة الإرسالية، ويعود إليها كل ما يُستخدَم في الرسالة مما من شأنه إقامةُ الاتصال، أو إبقاؤه والحفاظ عليه، أو قطعه، وكثيرا ما تهيمن هذه الوظيفة أثناء إلقاء الدروس والمحاضرات من أجل المتابعة ومن ثَم الفهم مثل (أنصت، تابع، أفهمت؟...)، وفي الخطابات الهاتفية التي تقيم الاتصال غالبا بsad ألو، مرحبا، السلام عليكم...) وكثيرا ما تحافظ عليه –إذا ما كان الموضوع مهما وأراد المتخاطبان إطالته- بعبارات خارجة عن موضوع الرسالة وعن فكرة الخطاب تُرَدَّدُ بين الحين والآخر كsad هل تسمعني؟... أنت معي؟... لا تقطع... نعم نعم أسمعك جيدا... أنت هنا؟.. مفهوم؟...)، وتقطع الاتصال أو تُنهيه بعبارات مثلsad اقطع الاتصال، أنهِ المكالمة، شكرا، إلى اللقاء، السلام عليكم...) فالتوصيلية أو الانتباهية " تؤدي وظيفة المحافظة على سلامة جهاز الاتصال، والتأكد من استمرار مرور سلسلة الرسائل الموجَّهة إليه على الوجه الذي أُرسلت به " وهي وظيفة يشترك فيها كل من المرسِل والمرسَل إليه إذ يعمل كل منهما على أن تكون القناة سليمة حتى يتم الاتصال ويصل الخطاب في أحسن الظروف.

5- وظيفة ما وراء اللغة La fonction métalinguistique:

    وتسمى أيضا الوظيفة اللسانية أو التفسيرية أو الشارحة أو الميتالغوية، وتتعلق هذه الوظيفة بالسنن أو الوضع أو النظام اللغوي المعيّن الذي يجب أن يشترك فيه المتخاطبان من أجل الترميز codage وفكّه décodage، ولذلك تهيمن هذه الوظيفة على الرسائل التي تتحدث فيها اللغة عن نفسها – لا عن الأشياء- موضِّحةً جوانب من السنن المستعمل كشرح مفردات قصيدة وتفسيرِها، وتبيان المعنى المراد من بعض الوحدات اللغوية في خطاب معين كقول المرسَل إليهsadماذا تعني؟ وضّح قصدك...) وقول المرسِلsadأتفهم قصدي؟ أعني بهذا...) أو قول الممليsad بهمزة وصل لا بهمزة قطع، ضع الهمزة على الواو، تُكتب بالضاد لا بالظاء...)، وتقديم دروس لسانية صوتية أو صرفية أو نحوية أو معجمية أو دلالية خاصة بلغة معينة دون سواها كالنصوص المعجمية والمتون النحوية أو الصرفية على غرار الآجرومية وألفية ابن مالك... ولذلك " تكثر هذه الأنماط الخطابية التي تهيمن عليها الوظيفة الميتالسانية عندما تكون الرسالة في وضع خطابي تلقيني أو تعليمي".

 ومن خلال مقارنة بسيطة بين بيتين شعريين يتضح اختلاف الوظيفة، حيث تهيمن على البيت الأول- وهو لابن مالك- الوظيفة اللسانية بينما لا يُلحظ أي وجود لتلك الوظيفة في البيت الثاني – وهو لعلي بن الجهم-:

                             أ- بتا فعلت وأتت ويا افعلي         ونون أقبلنّ فعل ينجلي.

ب- عيون المها بين الرصافة والجسر         جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.

6- الوظيفة الشعرية La fonction poétique أو الجمالية:

     تعتبر الوظيفةُ الشعريةُ الوظيفةَ الرئيسة في الخطاب الأدبي سواء منه الشعر أو النثر أو المسرح باعتبار ذلك الخطابِ فنا لفظيا أو أثرا فنيا أو خطابا نوعيا متعاليا بلغته الأنيقة هادفا إلى الإمتاع، ولذلك ترتبط هذه الوظيفة بالعنصر الرئيس في دورة التخاطب وهو الرسالة نفسها – دون إهمال لبقية عناصر الدورة- حيث يهتم بها صاحبها اهتماما زائدا أو مبالغا فيه وكأنها الغاية التي يصاغ من أجلها الكلام. تمثل الوظيفةُ الشعرية الجانبَ الجمالي للغة، ولذلك تهيمن على النصوص الأدبية الشعرية والنثرية بصفة عامة، وعلى الشعر الغنائي بصفة خاصة لأنه أَقدرُ على تصوير الجوانب الجمالية للغة والحديث عن الواقع بأسلوب جمالي منمق مزخرف، وذلك لثرائه من الناحية البيانية والبديعية فضلا عن إيقاعه وموسيقاه، وهي الجوانب التي لا تخلو منها النصوص النثرية غير أنها ليست كالشعر.

    وتظهر هذه الوظيفة بمقارنة بسيطة بين البيتين السابقين اللذين مثلنا بهما في حديثنا عن الوظيفة اللسانية، حيث تبدو الوظيفة الشعرية جلية في بيت الشاعر علي بن الجهم لما فيه من إبداع أدبي، ومن قيم فنية جمالية، ومن توازٍ، ومن استمتاعٍ وطربٍ يعترى سامعَه أو متلقيه، وميلٍ بقلبه إلى ما يسمع وإقبال عليه، بينما لا نكاد  نلحظ أي وجود لتلك الوظيفة في بيت ابن مالك:

أ- عيون المها بين الرصافة والجسر         جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.

                           ب- بتا فعلت وأتت ويا افعلي          ونون أقبلنّ فعل ينجلي.

Last modified: Friday, 6 December 2024, 1:16 AM