تتميز لغة الإنسان الطبيعية -باعتبارها وسيلة من وسائل التواصل الإنساني- عن بقية نظم التواصل الأخرى، الإنسانية وغير الإنسانية، بمجموعة من الخصائص، حيث يمكن القول إن كل ما تتناوله اللسانيات من مواضيع متعلقة باللغة إنما هو في الحقيقة كشف عن تلك الخصائص، ومن ثم فإن كل ما ذكرناه سابقا فيما يخص رؤية دي سوسير، وفيما تعلق بثنائياته خاصة، ككونها نظاما من العلامات الصوتية الاعتباطية، أو فيما تعلق بطبيعة العلامة اللغوية وما تميزت به من ثنائيةٍ مشكَّلةٍ من اتحادٍ اعتباطي للدال – وهو الصورة الصوتية- بالمدلول – وهو الصورة الذهنية- إضافة إلى تميزِها بالخطية، وتمثيلِها قيمةً معينةً داخل النظام، واتصافِها بصفتي الثبوت والتغير... هذا فضلا عما يربط العلامات بعضِها ببعض من علاقات متمثلة في العلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية... كل ذلك -في الحقيقة- من الخصائص التي تشترك فيها لغة البشر منذ وُجدت ووُجِدوا، مهما كانت الصورة التي تبدو عليها، فلا خلاف بين لغة فصيحة أو عامية، ومهما كانت الجماعة التي تمثلها، فلا فرق بين جماعة مثقفة أو أمية.

    ولئن كانت خصائص اللغة الإنسانية كثيرة إلا أن ما يهمّنا منها تلك الخصائصُ التي كشفت عنها الدراسات اللسانية الحديثة مما لم تَسبق إليه المعرفة اللغوية، ولذلك سنحاول الوقوف عند خصيصتين اعتُبِرتا كشفا مهما اهتدى إليه بعض لسانيي القرن العشرين، وهما الخطية والتقطيع المزدوج: 

1- الخطية: لن نطيل الوقوف عند هذه الخاصية ما دمنا قد تطرقنا إليها ضمن ثنائية العلامة اللغوية (الدال/ المدلول) باعتبارها من أهم خصائص الدليل اللغوي، كما أشرنا إليها في ثنائية العلاقات بين الأدلة أثناء حديثنا عن العلاقات التركيبية، حيث إن الوحدات اللغوية – المفردات والتراكيب- لا تُدرك دفعة واحدة –خلافا لكثير من العلامات غير اللغوية التي تهتم بها السيميولوجيا كإشارات المرور و...- وإنما تكون متسلسلة بشكل متتالٍ يمتنع معه أن تُنطَق وحدتان لغويتان (صوتان أو كلمتان) في زمن واحد أو تحتل وحدتان لغويتان -خاصة أثناء الكتابة- الموقعَ نفسَه، وهي الخاصية التي قصدها دي سوسير بقوله:" عناصر الدال السمعي تظهر على التعاقب، فهي تؤلف سلسلة، وتتضح هذه الخاصية عندما نعبر عن الدال كتابة، فيحل الخط المكاني لعلامات الكتابة محل التعاقب الزمني."

2- التقطيع المزدوج Double articulation: أو التمفصل المزدوج، أو القابلية للتجزئة، وهي الخصيصة التي ركز عليها اللساني الفرنسي أندري مارتينيAndré Martinet، والتي تجيبنا عن سؤالنا: ما الذي مكّن الألسنة البشرية الطبيعية –خلافا لنظم التواصل الأخرى الحيوانية أو الاصطناعية- من التعبير عن غير المحدود من الأغراض والمعاني بعدد محدود من الأصوات والمفردات؟

    يجيبنا صاحب المصطلحات المفاتيح في اللسانيات بقوله:" تحتكم الألسن الطبيعية، حسب تصور أندري مارتيني، لمبدأ التمفصل المزدوج، حيث تمثل المورفيمات وحدات التمفصل الأول (تقطيع الملفوظات إلى علامات)، بينما تمثل الفونيمات وحدات التمفصل الثاني (تقطيع العلامات إلى أصوات تخلو من المعنى)"

    فقد ذهب أندري مارتيني إلى أن كل لغة من اللغات الإنسانية (فصيحة كانت أو عامية، بائدة أو مستعملة) مزدوجة التمفصل، حيث تتركب من نوعين من الوحدات الاستبدالية هما أساس كل التراكيب اللغوية، حيث يمكن الحصول عليها (تلك الوحدات) بتقطيع الجمل والتراكيب إلى مستويين، مستوى الوحدات الصغرى الدالة، ومستوى الوحدات الصغرى غير الدالة. وحتى نقف على هذه الخصيصة – كما فهمها مارتيني- يمكننا التمثيل بالجملة التالية المكونة- على غرار كل التراكيب- من مستويين من الوحدات هما: الوحدات الدالة أو (المورفيمات) التي نحصل عليها من خلال التقطيع الأول، والوحدات غير الدالة أو (الفونيمات) المشتملة على الصوامت والصوائت، والتي نحصل عليها من خلال التقطيع الثاني، ومثالنا هو: الجو مشمس= جملة تمثل المستوى التركيبي، لكنها نتيجةُ انتظام ثلاث وحدات صغرى هي: 

ال + جو +مشمس= حصلنا على هذه الوحدات الثلاث المنتمية الآن إلى المستوى الصرفي

                     أو المعجمي عن طريق التقطيع الأول، وهي وحدات دالة قابلة للتقطيع

                    أكثر، فالوحدة (مشمس) مثلا تُقطع وفق الصورة التالية:

 مشمس = م + ضمة + ش + م + كسرة + س + الحركة الإعرابية (ضمة): فقد حصلنا

        على هذه الوحدات السبع الأصغر من الوحدات السابقة، والمنتمية الآن إلى المستوى

      الصوتي عن طريق التقطيع الثاني، وهي وحدات غير دالة، وغير قابلة للتقطيع أكثر.

يمكننا - بعد هذا التقطيع- إعادة التركيب فنقول إن تلك الجملة (الجو مشمس) هي حاصل تركيب الوحدات غير الدالة ( أ + فتحة + ل / ج+ فتحة + و + الحركة الإعرابية "ضمة" / م + ضمة + ش + م + كسرة + س + الحركة الإعرابية "ضمة") ثم حاصل تركيب الوحدات الدالة ( ال/ جو / مشمس).

تسمى الوحدات الصغرى غير الدالة( ... م + ضمة + ش + م + كسرة + س + الحركة الإعرابية "ضمة"...) المنتمية إلى مستوى التقطيع الثاني فونيمات phonème، وهي مزيج من الصوامت والصوائت التي لا تقبل أن تتجزأ، مع اتسامها بكونها بطيئةَ التطور ومحدودةَ العدد في كل لغة، حيث لا يتجاوز عددها العشرات.

أما الوحدات الصغرى الدالة( ال/ جو/ مشمس) المنتمية إلى مستوى التقطيع الأول فتسمى مورفيمات Morphème، ويسميها أندري مارتيني  André Martinet- صاحب نظرية التقطيع المزدوج- مونيمات Monème ، أي الوحدة الدالة، ويقسمها إلى فرعين هما:

أ- الوحدة الدالة الصرفية "مورفيم" Morphème: أو الوحدة الصرفية توسعا، وهي التابعة لقواعد اللغة، ويمثل هذا الفرع نوعا مغلقا ذا وحدات قليلة وأكثر استقرارا.

ب- الوحدة الدالة المعجمية "ليكسيم" Lexème: أو الوحدة المعجمية أو الدلالية توسعا أيضا، وهي نوع مفتوح وعددها كبير مقارنة بالنوع الأول، وذلك لأنها تشكل عددا متحولا من الوحدات، يظهر بعضها وينتشر ويتلاشى بعضها الآخر وينقرض. ويوضح المثال التالي ما قصده مارتيني:

 أ- سمع، ركب، رجع ... وحدات معجمية Lexèmes.

ب- لا، بل، الهاء، الباء من "به" ... وحدات صرفية Morphèmes.

ج- أمثلة "أ "+ أمثلة" ب" = وحدات دالة Monemes.

    والوحداتُ المعجمية Lexèmes المنضوية تحت المونيمات  Monemes" تتضمن معلومات حول العالم، وعددها في اللسان غير محدود" ولذلك تُعتبر الأكبرَ عددا، والأوسعَ مساحة دلالية، ومن ثم تهتم المعاجم اللغوية بتدوينها رفقة معانيها، لأنها الأكثر عرضة للتغير الدلالي بمرور الزمن، فهي صنف مفتوح لكثرتها وقابليتها للتحول، حيث يظهر قسم منها وينتشر ثم ينقرض، خلافا للوحدات الصرفية  Morphèmesالتي تعتبر أقل عددا، وأكثر استقرارا من الوحدات المعجمية باعتبارها " تتضمن معلومة نحوية، أما عددها في اللسان فهو محدود." فالضمائر مثلا، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، وحروف العطف، وحروف الجر، وتاء التأنيث، وأداة التعريف، وأدوات نصب الأسماء أو الأفعال، وحروف الجواب... كلها ثابتة في العربية منذ أقدم عصر عرفته هذه اللغة، ولذلك فهي صنف مغلق، وعادة ما لا تهتم بها المعاجم اللغوية، وإنما يُبحث عنها في مؤلفات النحو والصرف.

    فوحدات التقطيع الأول التي يسميها مارتيني مونيمات تعتبر أدلة لغوية، سواء أكانت ليكسيمات أو مورفيمات، لأن لها دالا ومدلولا، وهي لا تفقد دلالتها إلا إذا جزئت أكثر، حيث لا نحصل بعد تجزيئها إلا على وحدات صوتية (فونيمات) عديمة الدلالة تنتمي إلى مستوى التقطيع الثاني، وهي وإن كانت مفرغة من الدلالة إلا أنها ذات وظيفة تمييزية لكونها قادرة على تغيير المعنى الذي يرِد في المستوى الأعلى.

    ليس الغرض من حديثنا على التقطيع المزدوج معرفةُ كيف يتم ذلك، وإنما الغرض منه الكشفُ عن قيمة هذه الخصيصة، والوقوفُ على حقيقة مفادها أن الذي مكّن اللغات البشرية الطبيعية من التعبير عن غير المحدود من الأغراض والمعاني، وإنتاج ما لايحصى من الجمل انطلاقا من عدد قليل من الأصوات، وعدد - مهما كثُر- محصورٍ من المفردات إنما هو تميُّزُها بخاصية التمفصل أو التقطيع المزدوج، وهي الخصيصة التي لا تتوفر عليها أنظمةُ التواصلِ غيرِ البشرية، كأنظمةِ التواصلِ الحيوانيةِ التي يستخدم كثير منها الأصوات، وأنظمةُ التواصلِ الاصطناعيةِ أو غيرِ الطبيعية، كلغات الإشارة الجسمية، ولغة الصم البكم، ونظام المرور، ولغة الأعلام (الرايات) التي يستعملها الكشافة وحراس الشواطئ وغيرهم، ولغة الإشارات الضوئية التي تستخدمها السفن... حيث تكون الرسالة في غير اللغات البشرية كتلة واحدة غير قابلة للتقطيع والتحليل إلى وحدات كبرى متضمنة لوحدات صغرى، ولذل  كما يقول حاتم صالح الضامن " لا نستطيع أن نطلق على تلك الإشارات أو الأصوات أو الحركات التي يعبر بها الحيوان عن رغباته كلمة اللغة إلا على سبيل المجاز فقط، لأن اللغة هي تلك الرموز والأصوات والجمل والتراكيب التي عرفها الإنسان وألفها واستطاع أن يعبر بها عن رغباته وأفكاره، فهي بعيدة كل البعد عن تلك التي لدى الحيوانات."

    ولئن وجدنا في بعض النظم غير الطبيعية، أو الطبيعية الحيوانية ما يمكن أن ينطبق عليه مبدأ التقطيع الأول، كدلالة شعار الميزان على العدل، ودلالة رقصةٍ معينةٍ للنحل على ما تعلق بمادة الغنيمة، ودلالة رقصة أخرى على ما تعلق بالمسافة القريبة أو البعيدة، ودلالةِ ثالثةٍ على ما تعلق بالاتجاه بالنسبة إلى الشمس وفق ما توصل إليه عالم السلوك الحيواني النمساوي كارل فون فريش Karl von frish، ودلالة لافتة مرورية على أن الأولوية لليمين في ذلك المكان بعينه، ودلالة لافتة أخرى على تحديد السرعة في ذلك المكان دون سواه... إلا أنه لا يمكن تقطيع تلك الوحدات إلى مستوى ثان من أجل الحصول على وحدات أصغر، فلا يمكن القول –مثلا- إن إحدى كفتي الميزان تدل على أمر، وتدل الأخرى على أمر ثانٍ، ويدل لسانه على أمر ثالث !! وهو ما يعني اختلافا جذريا بين اللغة البشرية باعتبارها نظاما مفتوحا، وبين أنظمة التواصل الأخرى المتسمة بالتحجّر وعدم المرونة باعتبارها أنظمة مغلقة، إذ " ليس للغة المذكورة (لغة المرور) جوانب تشترك فيها مع اللغة الطبيعية لسِمة تحجّر المعلومة فيها وغياب التوليفية وحصرِ الإحالةِ في مكانِ حصرِ (اللافتة)."

    وإضافة إلى تميز الألسنة البشرية الطبيعية عن غيرها من أشكال التواصل بالمرونة المستفادة من خصيصة التمفصل المزدوج وقيامها على التوليفية فضلا عن عدم تحجر المعلومة فيها، فإنها تقوم دائما على قصدية الإبلاغ ونقل المعلومة في إطار تخاطبي متوفر على كل عناصر الخطاب من مرسِل، ومرسَل إليه، وسَنن مشترك، وقناة... خلافا لكثير من العلامات الخارجة عن إطار اللغة البشرية الطبيعية، والتي لا تقوم على قصدية الإبلاغ ولا تشترط عناصرَ التخاطب رغم ما تحمله من دلالات، كالدخان الدال على الاحتراق، والرماد الدال على نار سابقة، والأثر الدال على السير... فكلها لا تقصد نقل رسالة إلينا رغم استنتاجنا نحن ما تحمله من دلالات خلافا للعلامات اللغوية، وفي إطار هذه الخصيصة (التقطيع المزدوج) المُمَكِّنَة من الإبلاغ المقصود يندرج ذلك السؤال المحير الذي طرحه أحد علماء اللغة المحدثين قائلا:" هل تستطيع أن تدلني على أحد يستطيع أن يستغل النفايات بطريقة أخرى وأكثر كفاءة وأهمية من استعمال الإنسان لنفايات عملية التنفس؟!" لتكون إجابته بالنفي المطلق لأن تميز اللغة الإنسانية بالتمفصل المزدوج مكنها -انطلاقا من استخدامها عددا محدودا جدا من الأصـوات الـتـي لا معنى لأي منها على انفرادٍ- من تركيب عدد لا يحصى من الوحدات الصوتيـة ذات المعنى. ولذلك يعود الفضل فيما تُعرف به اللغة من اقتصاد إلى تلك الخصيصة العجيبة التي تعني مرونةً تميزت بها كل الألسنة البشرية الطبيعية، فمكنتها من التعبير انطلاقا من المحدود من الوحدات غير الدالة (الفونيمات) والوحدات الدالة (المونيمات "المورفيمات") عن غير النهائي من المعاني والأغراض، فهو- أي الاقتصاد اللغوي- حسب مارتيني، من أظهرِ آثار التقطيع المزدوج "... ولو كان علينا أن نخص كل وحدة دنيا دالة بإنتاج صوتي منفرد وأصمّ، أي غير قابل للتحليل، للزمنا أن نميز بين آلاف من هذه الإنتاجات، وهو ما يتجاوز قدرةَ البشر على تنويع النطق وطاقتَهم على إرهاف السمع. أما بالتقطيع الثاني فيمكن للألسنة أن تقتصر على بعض الأصوات المتميزة التي نركّبها في صور مختلفة لتكوين الشكل الصوتي لوحدات التقطيع الأول، فلفظة (tète) على سبيل المثال تَستعمل مرتين الوحدةَ الصوتية التي نرسمها /t/ مع إضافة وحدة أخرى /e/ ندرجها بين هذين الشكلين."

Last modified: Friday, 6 December 2024, 1:08 AM