3- ثنائية العلامة اللغوية Signe (الدليل اللغوي أو الوحدة اللغوية أو الرمز اللغوي): الدال Signifiant والمدلولSignifié : تعد العلامة اللغوية - باعتبارها مما كشفت عنه الدراسة الوصفية الداخلية لنظام اللغة- ذات أهمية بالغة في الدراسة اللسانية، فهي المركز الذي دارت حوله أبحاث دي سوسير، وما تفريقه بين ثالوث (اللغة واللسان والكلام) وإقرارُه بأن اللسان هو موضوع الدرس اللساني إلا لتوضيح ما يقوم عليه نظام اللسان من أدلةٍ، ولذلك عرّف اللسان بكونه نظاما من العلامات الصوتية أو الأدلة اللغوية المخزّنة في أذهان أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، وحتى يُكشف عن ذاك النظام لابد من الكشف عن العلامة اللغوية من خلال مفهومها، وطبيعتها، وخصائصها، وعلاقة بعضها ببعض... وهو ما يؤكد– بما لا يدع مجالا للشك- إقامةَ اللسانيات جوهرَ تعريفها للظاهرة اللغوية على مفهوم العلامة.

مفهوم العلامة: العلامة اللغوية من أهم ما يتكون منه الجهاز اللغوي، وهي وحدة لغوية ناشئة عن اتحاد عنصرين هما الدال والمدلول، اتحادا ذهنيا غير قابل للانفصال كاتحاد وجهي الورقة الواحدة. فكل ما ينتمي إلى مجتمع معين من وحدات لغوية (أسماء، أفعال، أدوات...) خزّنها أبناء ذلك المجتمع في أذهانهم واستعملوها وتواصلوا بها فيما بينهم دون أن ينكر أحدهم على الآخر أو يخطئه تسمى علامات لغوية سواء نطقوها أثناء كلامهم أو كتبوها أو لم يفعلوا ذلك واكتفوا باستعمالها ذهنيا كمن يحدِّث نفسه أو يقرأ قصيدة دون تلفظ... فهي – إذن- موجودة في النفس أو الذهن حتى وإن لم ننطقها، ومن ذلك: كرسي، طاولة، قلم، كتاب، أكل، جلس، فوق... كلها علامات مخزنة في أذهان أبناء العرب – بنسب متفاوتة- يستعملونها متى شاءوا نطقا أو كتابة، بل حتى عن طريق الحوار الداخلي دون اعتماد على جهاز النطق لأن العلامة بشقيها (الدال والمدلول) مستودعة في الذهن، ومتى أردنا التواصل عُدنا إلى ذلك المستودع سواء كنا مخاطِبين أو مخاطَبين.

وإذا كانت العلامة بهذا المفهوم فهل يعرف كل أبناء المجتمع الواحد جميع العلامات اللغوية على حد سواء؟ والإجابة عن هذا السؤال: بالطبع لا، فبهذه العلامات مع ما تخضع له من نظام خاصٍ تتشكلُ اللغةُ، واللغة –كما عرفنا- ملكُ المجتمع وليست ملكَ الأفراد، ولذلك يستحيل أن يحيط فردٌ ما بلغةِ مجتمعِه كلِها، وكذلك الأمر بالنسبة للعلامات اللغوية. وحتى يتضح ذلك أكثر نقول: ما الذي يمنع كثيرا من أبناء العرب من أن يفهموا أو أن يستعملوا علامات مثل: همرجلة، شيظم، تنوفية، شَبْرَقَ، أَرْقَلَ... التي وردت في قول الشاعر:

حَلَفْتُ بما أَرْقَلَتْ نَحْوَه... هَمَرْجَلَةٌ خَلْقُهَا شَيْظَمُ

وَمَا شَبْرَقَتْ مِنْ تَنُوفِيَةٍ... بِهَا مِنْ وَحَى الجِنِّ زَيْزَيْزَمُ.

فكثير منهم، وإن أدركوا تتابع هذه الأصوات وتمايزها عن غيرها، إلا أنها لا تعدو كونها أصواتا تلقّفتها آذانُهم شبيهةً بأصواتٍ صادرة عن متحدث هندي أو صيني...، لا لشيء إلا لأنهم لا يملكون في أذهانهم صورا ذهنية (مدلولات) مقابلة لذلك التتابع الصوتي، وإذا ما بيّنا مدلول كل تتابع صوتي مما ذكرنا صارت تلك العلامات – بعد اتحاد الدوال بالمدلولات- جاهزة لأن يتواصل بها من جهلوها من قبل إرسالا واستقبالا، ولذلك لا يمكن للعلامة أن تتشكل إلا باتحاد الدال بالمدلول وفق ما يقضيه المجتمع لا الفرد، فلا قيمة لدال خالٍ من المدلول ولا لمدلول ليس له دال، كما أنه لا قيمة لعلامة صنعها الفرد ولم تتلقّفها الجماعة بالقبول والتداول.

 

طبيعة العلامة: العلامة اللغوية باعتبارها "محصلة ارتباط بين الدال والمدلول" كما يرى دي سوسير، أو باعتبارها " موضوعا قابلا للتحليل ضمن مستويين يسميهما سوسير تباعا بالدال والمدلول" لا تربط اسما بشيء، فهي غير ثنائية (الاسم والمسمى) كما أنها تختلف عنده عن ثنائية (اللفظ والمعنى) وذلك لما تميزت به من طبيعة سيكولوجية شملت طرفيها (الدال والمدلول)، وفي هذا الفهم الخاص للعلامة اللغوية باعتبارها كيانا ثنائيا يتألف من الربط بين عنصرين بيانٌ لطبيعة هذين العنصرين، وإجابة عن سؤالنا: أهما الاسم والمسمى؟ أم هما اللفظ والمعنى؟ أم لهما في عرف دي سوسير مفهومٌ آخرُ متماشٍ مع نظرته البنوية؟

قد بين دي سوسير من خلال هذه الثنائية خطأ ما يذهب إليه بعض الناس من اعتقادهم أن اللغة ليست سوى عملية لتسمية الأشياء، وكأنها قائمة من الألفاظ يقابل فيها كل لفظ الشيء الذي يدل عليه، يقول دي سوسير- مع تعليق لعبد الرحمان الحاج صالح-:" يظن بعض الناس أن اللسان إنما هو في أصله مجموع ألفاظ، أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد مماثل من المسميات... وفي تصورهم هذا نظر... إن الدليل اللغوي لا يربط بين شيء ولفظ، بل بين مفهوم وصورة صوتية ( أي يربط لا الشيء المسمى باسمه الملفوظ بل مفهوم ذلك الشيء أو تصوره في الذهن بصورة لفظه الذهنية) فهذه الصورة الصوتية ليست هي الصوت المادي لأنه شيء فيزيائي محض، بل انطباع هذا الصوت في النفس والصورة الصادرة عما تشاهده حواسنا... فالدليل اللغوي إذاً كيان نفساني ذو وجهين."

فمن خلال هذا القول لدي سوسير مع ما صحبه من تفسير لعبد الرحمان الحاج صالح نحصل على أربعة أمور مختلفة في طبيعتها، أمرين ماديين منتميين إلى العالم الخارجي، وهما:

1- الموجود الخارجي(المسمى أو المرجع Référent) أو الشيء المشار إليه في الواقع الخارجي، وهو مادي في الغالب.

2- اللفظ (الصوت المادي) وهو شيء فيزيائي محض (موجات صوتية) ينتجه الفرد نطقا أو كتابة، فهو منتمٍ إلى الكلام.

وأمرين نفسيين مجردين منتميَيْن إلى العالم الذهني الداخلي، ويعتبران انعكاسا للموجودَيْن الخارجيَيْن في الذهن، وهما:

3- الصورة الصوتية، وهي انطباعُ الصوتِ الفيزيائيِّ أو أثرُهُ في النفس (انعكاس اللفظ أو الصوت المادي "رقم 2")

4- المفهوم (الصورة الذهنية) أي مجموع السمات الدلالية المستقرة في الذهن (انعكاس الموجود الخارجي في الذهن "رقم 1")

فهل يعتبر دي سوسير هذه الأمور الأربعة من صميم اللغة باعتبار هذه الأخيرة نظاما متعاليا على الأفراد متمايزا عن الكلام باعتباره ماديا؟

عرفنا أثناء تفريق دي سوسير بين اللغة والكلام أن اللغة ذات طبيعة مجردة لكونها نظاما اجتماعيا، ومن ثم جزم بأن اللغة شكل وليست مادة، ولذلك لابد أن تكون طبيعة كل ما ينتمي إلى عالم اللغة- لا الكلام- شكلياً غيرَ ماديٍّ، وهو ما أدى به إلى استبعاد بعض العناصر من تلك الأمور الأربعة لأنها مادية مخالفة لطبيعة اللغة، أو خارجة عن عالمها داخلةٌ في عالم الكلام، والشكل التالي يوضح ذلك:

يقول دي سوسير:" إن العنصرين اللذين يدخلان في الإشارة اللغوية (العلامة اللغوية) هما ذوا طبيعة سيكولوجية، يتحدان في دماغ الإنسان بآصرة التداعي(الإيحاء)، وهذا أمر ينبغي تأكيده، فالإشارة اللغوية تربط بين الفكرة والصورة الصوتية، وليس بين الشيء والتسمية، ولا يقصد بالصورة الصوتية الناحية الفيزياوية للصوت، بل الصورة السيكولوجية للصوت، أي الانطباع أو الأثر الذي تتركه في الحواس."

ولذلك استبعد دي سوسير من العلامة اللغوية الموجود الخارجي(رقم1) أو الشيء الذي تحيل إليه العلامة في العالم الواقعي(المرجع Référent) لأنه لا علاقة له بنظام اللغة، كما استبعد اللفظ (رقم2) لأنه منطوق أو مجرد ظاهرة فيزيائية قد يتناولها الفيزيائي من جملة ما يتناوله من ظواهر فيزيائية، فضلا عن كون المنطوق تابعا للمتكلمين ومختلفا باختلافهم، وليس تابعا للمجتمع، يقول دي سوسير:" أما الجزء الفيزيائي فيمكن من الآن أن يبرأ من ذلك، لأننا عندما نسمع من يتكلم بلغة لا نعرفها، ندرك بالفعل الأصواتَ، ولكن بعدم فهمنا لها نبقى خارج الحدث الاجتماعي... فجانب التأدية لا دخل له، لأن التأدية ليست أبدا من عمل الجماعة، بل من عمل الفرد دائما، والفرد دائما صاحب أمرها، وهي التي نسميها parole ." ولم يعترف سوسير إلا بما كان ذا طبيعة نفسية مجردة، وهو الشرط الذي يتوفر في الصورة الصوتية(3) باعتبارها ذات طبيعة سيكولوجية وقد سماها دالا، والمفهوم(4) باعتباره أكثر تجريدا من الصورة الصوتية، وقد سماه مدلولا، ومن ثم كان الدال والمدلول عنده حقيقتين نفسيتين ومنهما يتشكل الدليل اللغوي (العلامة) الذي يعتبر كيانا سيكولوجيا في عُرف دي سوسير كما هو موضح في الشكل التالي بعد استبعادنا للجانب المادي من الشكل السابق:

 

فالدال هو الصورة الصوتية(أو السمعية) أي الإدراك النفسي لتتابع الأصوات، وليس الصوت نفسه لأن هذا الأخير(الصوت) حقيقة فيزيائية محضة متعلقة بالكلام ومنتجِه(المتكلم) لا باللسان الذي يستلزم التجريد والطابع الاجتماعي، ولئن كانت الطبيعة الذهنية أو السيكولوجية للصورة الذهنية(المدلول) واضحة فإن الطبيعة السيكولوجية للصورة السمعية (الدال) تتضح من خلال ملاحظة كلامنا الداخلي دون نطق كمن يقرأ قصيدة قراءة صامتة، فمثلا: (قلم) دليل لغوي مكون من دال ومدلول، وداله ليس تلك الأصوات الفيزيائية الناتجة عن النطق والتي تسمى لفظا، وإنما هو الإدراك النفسي لتتابع الأصوات بهذه الطريقة: قاف ثم لام ثم ميم كما هو مستقر في أذهاننا، ولو غيرنا التتابع لحصلنا على دال آخر مرتبط بمدلول آخر أيضا مثل (ق، م، ل= قمل)... فإذا سمعنا لفظ (قلم) ربطناه مباشرة بمعناه لأنه كان مخزنا في الذهن (النفس) فلمْ نستغرب هذا التتابع لأنه مألوف لدينا خلافا لبعض التتابعات غير المألوفة مثل( تَطَخْطُخ، حَيزَبُون، دردَبيس، طَخا، نُقاخ، َعَطْلَبِيس...) فلكونها غير مستقرة في أذهاننا عجزنا عن ربطها بما يقابلها من مفاهيم (مدلولات).

والمدلول هو الصورة الذهنية لا الموجود الخارجي، أي مجموع السمات الدلالية المستقرة في الذهن، فمثلا: (قلم) دليل لغوي مكون من دال ومدلول كما عرفنا، ومدلولُه هو ما استقر في أذهاننا من ملامح دلالية تميزه عن غيره: شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر... وبمجموع هذه الملامح الدلالية المستقرة في أذهاننا ميّزنا القلم عن الورقة والطاولة والكتاب والمحبرة والمِرْوَد والبُرغي... 

فالعلامة اللغوية أو الدليل كلٌ مركبٌ من صورتين، إحداهما صورة صوتية والأخرى صورة ذهنية، حيث تستدعي كل منهما الأخرى، فهما متحدتان اتحادا تاما كوجهي الورقة الواحدة، حيث إن سلامةَ أحد الوجهين سلامةٌ للآخر وتمزقَه يؤدي –بالضرورة- إلى تمزق الآخر، يقول دي سوسير:" يسمى دليلا (لغويا) المركب المتكون من المفهوم والصورة الصوتية(صورة اللفظ في الذهن)... ولكن نقترح إبقاء لفظة (الدليل) للدلالة على الكل، واستبدال لفظتي (المفهوم) و(الصورة الصوتية) بلفظتي (الدال) و (المدلول)" كما هو مبين فيما يلي:

خصائص العلامة اللغوية:

تميزت العلامة اللغوية ببعض الخصائص منها:

 1- الاعتباطية(Arbitraire du signe) : ما الذي أهّل دالا معينا (مثل: قلم) دون سواه من الدوال للتعبير عن مدلول معين (شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) دون سواه من المدلولات؟ أهناك مناسبة أو علاقة طبيعية لزومية، أو عقلية منطقية أدت إلى ذلك، أم هو مجرد اتفاقٍ عرفي بين أبناء الجماعة اللغوية على جعل دال معينٍ معبرا عن مدلول معين؟

يذهب دي سوسير إلى أن العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية (الدال والمدلول) علاقة اعتباطية غير معللة، فليس بين مدلول (قلم) وبين داله في العربية أي علاقة ضرورية مباشرة -خلافا للعلاقة اللزومية بين الدخان والنار وبين الأثر والسير مثلا- ومن ثم كان بإمكان المتكلمين بالعربية مثلا استبدال ذلك الدال (قلم) بدال آخر متى أجمعوا على ذلك، كما كان بإمكانهم أن يقابلوا ذاك المدلول(شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) أثناء الوضع الأول بدوال أخرى كأن يقلبوا ترتيب الأحرف (ملق أو مقل أو لمق...)  أو أن يسموه سيارة أو تفاحة أو طاولة، ويسموا الطاولة قلما، ويسموا التفاحة سيارة... فليس هناك ما يمنع –حسب دي سوسير- من نسبة الدوال إلى المدلولات لأن تلك النسبة اعتباطية غير قائمة على علاقات طبيعية لزومية بين طرفي معظم العلامات اللغوية، باستثناء عدد قليل جدا منها يمكن أن يلاحَظ بين لفظها ومعناها علاقةٌ طبيعية لكونها محاكاةً للأصوات قائمةً على العرف، ومثال ذلك bow-bow في الإنجليزية، يقابل ذلك ouaoua في الفرنسية، ومثله في العربية زقزق، قهقه...

إن ما يؤكد اعتباطية العلامة كَوْنُ المدلولات واحدةً عند الناس جميعا، غير أن الدوال التي تقابل تلك المدلولات مختلفة من مجتمع إلى آخر، ولو كانت العلاقة بينهما طبيعية لزومية لكانت موحدة بين الناس جميعا، ولوُجِدت – تبعا لذلك- لغة موحدة في العالم أو لغات متشابهة إلى حد بعيد، لكن الواقع يخالف ذلك، فلو أخذنا هذا المدلول(شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) فإن كل الناس في العالم تعرف هذه الصورة الذهنية فهي موحدة بينهم، ومع ذلك تعبر عنها كل مجموعة بحرية تامة، فتطلق عليها مجموعة (قلم) ومجموعة أخرى (stylo) ومجموعة ثالثة (pen) ورابعة (cálamo) ... بل تعبر عنها المجموعة الواحدة بدوال متعددة ضمن الترادف، فتسميها العرب (القلم، اليراع، السيالة) مع ما يلاحظ من تباين بين الصور الصوتية لهذه الدوال العربية المعبرة عن تلك الآلة المخصصة للكتابة...

ولا تعني اعتباطية الدليل أن اختيار الدال متروك للمتكلم، إذ لا قدرة للمتكلم على التحكم في الدال بتغييره بعد أن تلقَّفته الجماعة وحظي بقبولها، يقول دي سوسير:" إن كلمة الاعتباطية تحتاج إلى توضيح، فهذه الكلمة لا تعني أن أمر اختيار الدال متروك للمتكلم كليا، بل أعني بالاعتباطية أنها لا ترتبط بدافع، أي إنها اعتباطية لأنها ليس لها صلة طبيعية بالمدلول."

 2- الخطية: مادامت العلامة اللغوية أهم عناصر اللغة فقد اتسمت بما تتميز به اللغة عامة من مفهوم رياضي هو الخطية. يقول دي سوسير في شأن هذه الخاصية:" لما كان الدال شيئا مسموعا (يعتمد على السمع) فهو يظهر إلى الوجود في حيز زمني فقط، ويستمد منه هاتين الصفتين:

أ- إنه يمثل فترة زمنية.

ب- تقاس هذه الفترة ببعد واحد فقط: فهو على هيئة خط."

 فكما يعرّف الخط رياضيا بكونه مجموعة غير منتهية من النقاط المتتابعة التي يمكن قياسها، بحيث لا يمكن أن تقع في الحيز الواحد نقطتان أو أن ترسم نقطتان في زمن واحد، فلا يمكن أن ترسم النقطة رقم 10 مثلا –إذا أمكننا ترقيم النقاط- إلا بعد الانتهاء تماما من رسم النقطة رقم 09 وقبل الشروع في رسم النقطة رقم 11، فكذلك العلامة اللغوية في جانبها المتعلق بالدال أثناء التأدية، حيث يمكن قياسها مادامت تمثل تتابعا وامتدادا زمنيا للأصوات، فيكون لها بداية ولها نهاية، وبذلك تتمايز الوحدات بعضها عن بعض بما لها من حدود ممثلة لبدايتها ونهايتها كالقطعة من الخط، فالدال (قلم) مثلا عبارة عن تتابع صوتي هو (ق+ فتحة+ ل+ فتحة+ ميم+ الحركة الإعرابية) يظهر جليا أثناء الاستعمال نطقا أو كتابة، ففي المنطوق يشغل كل صوت من تلك الوحدة زمنا سابقا لزمن الصوت الذي يليه، مع استحالة نطق صوتين في زمن واحد أو الفصل بينهما بزمن، فلا تنطق اللام مثلا إلا بعد الفراغ تماما من نطق القاف وقبل الشروع في نطق الميم، وإذا ما خالفنا ذلك التتابع الخطي حصلنا على دال آخر ذي مدلول مغاير أو مهمل مثل (قمل، لقم، لمق، ملق، مقل)، وإذا ما قارنا امتداد الدال(قلم) بامتداد الدال (استعمال، أو سفرجل، أو مستسلم...) عرفنا أن بينهما –من حيث القياس- فرقا كالفرق بين الخطوط من حيث الطول. أما فيما يتعلق بالمكتوب فإن الحرف الواحد من ذاك الدال يحتل حيزا مكانيا معينا بكونِه تاليًا لحيز الحرف السابق، وأسبقَ من حيز الحرف الذي يليه مع استحالة أن يزدحم حرفان على مكان واحد أو يبقى بينهما فراغ يفسد التتابع ويخل بالبنية، يقول دي سوسير:" عناصر الدال السمعي تظهر على التعاقب، فهي تؤلف سلسلة، وتتضح هذه الخاصية عندما نعبر عن الدال كتابة، فيحل الخط المكاني لعلامات الكتابة محل التعاقب الزمني."

 3- الثبوت والتغير: في هذه الخاصية إجابة عن سؤال هو: بم تتميز العلامة اللغوية، أبالثبوت أم بالسكون؟ والحقيقة أن هذه الخاصية ناشئة عن نظرتين مختلفتين للعلامة متعلقتين بالآنية والزمانية، حيث إن العلامة الواحدة غالبا ما تتميز بكونها ثابتة في مجتمع وزمن معينين وكثيرا ما تحافظ على صورتها لدى الأجيال اللاحقة، فيدل دال معين على مدلول معين لا يتغير، وذلك لوجود عوامل تعمل على منع التطور، غير أن ذلك لا يمنع – في بعض الحالات- من حصول تحول في العلامة بمرور الزمن وقبول الجماعة ورضاهم عن صورتها الجديدة، فيدل دال معين في زمن آخر على غيرِ ما كان يدل عليه في السابق، أو يكتسب المدلول نفسه دالا جديدا، أو يصيبه تغيير في صورته الصوتية، وذلك لتوفر عوامل وقوى أخرى مضادة مؤدية إلى ذلك التغير أو التطور، فتبقى " اللغة عاجزة جذريا عن الدفاع عن نفسها ضد القوى التي تغير من حين لآخر العلاقة بين الدال والمدلول، وإن هذه لإحدى عواقب الطبيعة الاعتباطية للعلامة."

فما أكثر العلامات اللغوية العربية التي سجلت لنا المعاجم -خاصة- حياتها وحركيتها من خلال ما طرأ عليها من تغير بسبب ما عرفته البيئة العربية في صدر الإسلام من حركة لغوية قوية نقلت دلالات كثير من الألفاظ إلى غير ما كانت تدل عليه في الجاهلية كالقرآن والصلاة والزكاة والحج والكفر والفسق والنفاق.... وهي التي سميت بالكلمات الإسلامية باعتبارها مصطلحاتٍ وأسماء شرعية، كان أبو حاتم الرازي [ت322ه] قد ألّف فيها كتابه (الزينة في الكلمات الإسلامية ).... وما أعقب ذلك من حركات علمية وتيارات فكرية أثرت على العلامات اللغوية فظهرت تصورات ذهنية جديدة لدوال قديمة كالمفهوم الجديد للنحو، والحال والتابع والسبب والوتد... إضافة إلى ما عرفته البيئة العربية في العصر الحديث، عصر النهضة العلمية والتكنولوجية، من حركة لا تقل قوة عما عرفته في صدر الإسلام وبعده، حيث نقلت كثيرا من الدوال للعبير عن مدلولات لم تكن مقصودة أو معروفة من قبل كالسيارة والقطار والهاتف...  

4- القيمة La valeur: مفهوم القيمة مفهوم اقتصادي محض متعلق بالعملات، حيث إن قيمة عملة أو ورقة نقدية ما إنما تتعلق بما يقابلها من جنسها ممثَّلا في قطع نقدية أخرى من العملة نفسها سواء كانت أكبر منها أو أقل، أو بصرفها إلى عملة أخرى، أو بما يقابلها من فائدة تحققها كأن تكون تلك الفائدة خدمة أو لباسا أو طعاما... فقيمة القطعة (10 دج) مثلا تتحدد بمقارنتها بقطعة (5 دج) وبقطعة (2000 دج) مثلا، أو بمقابلتها بما تمثله بالنسبة للأورو (7‰) أو الدولار (8‰)، أو بما يمكننا اقتناؤه بها (مثلا قلم رصاص رديء، قطعة حلوى صغيرة، مسمار... بينما قد نقتني بقطعة 2000 دج  قميصا أومعطفا)، فإذا كانت قيمة تلك القطعة النقدية محددة بما يمكننا اقتناؤه بها من مادة استهلاكية أو خدماتية وبمقابلتها بقطع أخرى تمكِّننا من اقتناء سلع أخرى أفضل أو أدنى مما حققته هي، فتتفاضل القطع وتتفاوت في قيمتها نظرا لما تحققه، فكذلك الأمر بالنسبة للوحدات اللغوية.

    فقد رأى دي سوسير أن الوحدات اللغوية لا يمكن أن تُدرس دراسة علمية حقيقية إلا من خلال القيمة، لأن لهذه الأخيرة –القيمة- أهميةً كبرى في معرفة حقيقة الأشياء، ومن ذلك الوحدات اللغوية التي لا تَستمِد قيمتها إلا من النظام اللغوي المنضوية تحته وفق ما أراده لها المجتمع وتواطأ عليه، لأن " المجتمع ضروري لوضع قيَم يعتمد وجودها بصورة كلية على استعمالها وقبولها من قبل الجمهور. إن الفرد وحده لا يستطيع وضع قيمة لغوية واحدة."

فليس للوحدة أي قيمة ذاتية، وإنما تتحدد قيمتها بعلاقاتها مع بقية الوحدات الأخرى داخل النظام نفسه وتقابلها معها، ولا قيمة للوحدات التي ينتجها الفرد ما لم تتبنّها الجماعة، أو التي تكون خارج النظام، ومن ثم فإن أشكالا مثلsad قطاطيب، كَمُوج، خُنفشار، قثعب، بقلب، ديز...) تعد أشكالا عديمة القيمة لأنها ليست من العربية، ولا مما تعارفت عليه الجماعة، ولا تعبر عن فكرة ما، ولا تقابلها وحدات أخرى، فمثلها في القيمة مثل القطع النقدية المزوّرة، أو الموضوعةِ في المتحف لكونها تعود إلى قرون ماضية، أو مثل شريحة هاتف محمول كانت ملكا لنا غير أنها لم تعد في الخدمة فلم تعد لها قيمة، فهي– كقطعة- بحوزتنا إلا أن الرقم بحوزة مستخدم آخر مستفيدٍ منها إرسالا واستقبالا.

    كما أن قيم الوحدات متفاوتة، فبعضها أكثر تعبيرا عن فكرة ما وأدق من بعض، ولذلك كانت مفردات القرآن الكريم أدقَّ تعبيرا عن فكرة ما رغم وجود ما يمكنه أن يُعتبر مكافئا في لغة العرب، وإذا أمكن أن تكون الكلمة العربية (إله) مكافئة في قيمتها للكلمة الفرنسية (dieu) أو الإنجليزية (god)، فإن هاتين الكلمتين الأجنبيتين لا يمكنهما أن تكونا من حيث القيمة مكافئتين للكلمة الإسلامية (الله) الدالة على التوحيد، فلا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث خلافا لكلمة (إله) وللكلمتين الأجنبيتين(dieu) و(god) التي تجمع على ( آلهة، dieux، gods) على التوالي، ولذلك فإن(الله) الذي يعبده المسلمون بحق هو غير(dieu) أو(god) الذي يعبده النصارى لأن مدلولَيْ اللفظتين مختلفان جدا، فالأولى أقدر على تمثيل فكرة التوحيد وأنه ( لم يلد ولم يولد)، خلافا للأخرى العاجزة عن ذلك لقيامها على عقيدة التثليث أو الأقانيم الثلاثة، الأب والابن والروح القدس.

4- ثنائية العلاقات بين الأدلة( التركيب والاستبدال أو التوزيع والاختيار)

    من خلال ما عرّفنا به دي سوسير من حقائق عن اللغة خاصة ما تعلق بكونها نظاما من العلامات الصوتية الاعتباطية، ومن خلال كشفه عن حقيقة ثنائية العلامة اللغوية -باعتبارها أهم ما يشكل النظام اللغوي- مع ما تميزت به من خصائص لاسيما ما تعلق بالاعتباطية والخطية والقيمة، يتبادر إلى أذهاننا سؤال هو: هل يمكن للعلامة وحدها أن تفي بغرض التواصل؟ أو هل بمقدور الأفراد أن يتواصلوا بمفردات مستقلٍ بعضُها عن بعض؟

    للإجابة عن هذا السؤال يمكننا أن نضرب مثلا برجل عربي حاول أن يتعلم اللغة الفرنسية فعمد إلى معجم فرنسي فحفظ كثيرا من الألفاظ بمعانيها فصار يعرف أن (Stylo= قلم / Livre= كتاب /Avion= طائرة / Pain= خُبز/ Eau= ماء / Or= ذهبٌ/ Écrire= كَتَبَ / Manger= أَكَلَ...) فهل يمكِّنه ذلك الرصيد من العلامات اللغوية من التواصل باللغة الإنجليزية بأريحية أم ستعترضه صعوبات، خلافا لمن نشأ على تلك اللغة؟

   يجيبنا عبد الرحمن الحاج صالح- رحمه الله- بقوله:" ليس اللسان مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته" ولذلك فإن هذا العربي سيعجز عن التواصل رغم معرفته كثيرا من العلامات اللغوية، ولن يتواصل بها إلا كما يتواصل الأطفال الصغار بتعبيرهم عن الفكرة بكلمة واحدة -وربما لا تصلح في ذلك المقام- لافتقارهم للنظام الذي يربط الوحدات بعضها ببعض، ويمكّنهم من الانتقال في استعمال اللغة من حال الإفراد إلى حال التركيب، مستعينا بالقواعد الخاصة بالعلاقات التركيبية التي لا يكتسبونها إلا بمرور الزمن والتقدم في السن، وذلك في مرحلة تالية لمرحلة اكتساب المفردات، ولذلك فإنه يجب على هذا العربي -حتى يتواصل بالإنجليزية- أن يتعلم أهمَّ ما يمثل تلك اللغة، وهو قواعدها الصوتية والصرفية والتركيبية وحتى الجوانب الدلالية، لا لشيء إلا لأن الناس جميعا لا يتواصلون بمفردات، وإنما يتواصلون بجملٍ ذات أنماط وقواعدَ خاصةٍ، مشتملةٍ على كل مستويات اللغة صوتا وصرفا وتركيبا ودلالة، ولذلك اعتُبرت الجملة أهمَّ وحدات التحليل اللساني، واعتُبرت العلاقات بين الوحدات اللغوية داخل الجملة الواحدةِ الهدفَ الذي يسعى المحللُ للكشف عنه، سواءٌ تعلق الأمر بعلاقة الوحدة ببقية الوحدات التي قد تحلّ محلها وتقع موقعها في الجملة، أو تعلق الأمر بعلاقتها بالوحدات التي تتركب معها في الجملة.

   يبدو إذن أن  الوصف الدقيق للسان مرهون ببيان العلاقات بين الوحدات اللغوية، ما دامت تحكمه " شبكةٌ واسعة من العلامات والتراكيب، حيث لا تكتسب مكوناتُها قيمتَها إلا من خلال علاقاتها بالكل." وهو الأمر الذي ركز عليه دي سوسير حين اعتبر شبكة العلاقات التي تربط الأدلةَ اللغوية بعضَها ببعض من أهم أركان النظام، ولذلك وجب أن تأخذ قسطا كبيرا من اهتمام الدارسين.... وهذه العلاقات المتبادلة في الـلـغـة تـقـوم على كل من البعدين الأساسيين للتركيب اللغوي التزامـنـي: الـبـعـد الأفـقـي syntágmatic المنطبق على تتابع المنطوق، والبعد الرأسي (الترابطي associative Paradigmatic المتمثل في أنظمة العناصر أو الفئات المتقابلة.(

يمثل البعدان الأفقي والرأسي (العمودي) نوعين من العلاقات بين الأدلة داخل النظام، هما على التوالي العلاقات التركيبية( التوزيع)، والعلاقات الاستبدالية (الترابطية أو الاختيار):

  أ- العلاقات التركيبية syntagmatiques ( التوزيع): تتمثل في العلاقات التي تعقد بين وحدتين فأكثر من أجل تراكيبَ وأنماطٍ معينة للوحدات وفق ما هو معروف من اختصاص كل لغة بقواعد تركيبيةٍ معينةٍ تمكِّن مستعمليها من البناء الصحيح للمفردات والجمل، ومن ثم تُعرف قيمة كل وحدة لغوية من خلال تقابلها مع وحدات أخرى تسبقها أو تلحقها أو من خلالهما معا. يقول دي سوسير:" نحن عادة لا نتفاهم باستخدام إشارات فردية معزولة، بل باستخدام مجموعات من الإشارات، أو كتل منتظمة، هي  في حد ذاتها إشارات. ففي اللغة يمكن إرجاع كل شيء إلى الفروق وكذلك إلى المجموعات."

   فهذا النوع من العلاقات يظهر أثناء الإنجاز الفعلي للغة، وهو متعلق بانتظام عناصر الكلمة وتسلسلها- أي الأصوات- وبانتظام عناصر الجملة وتسلسلها - أي الكلمات- على شكل خطيٍّ حيث تأتي متدرجةً، كلُّ عنصر عقب الآخر -كما عرفنا ذلك في خاصية الخطية التي تتميز بها اللغة عامة والعلامة خاصة- فالعلاقة المجيزة لاجتماع فعل ما وفاعل ما سواءٌ أتى الفاعل تاليا للفعل كقولناsadمات الرجل) أو أتى الفعل تاليا للفاعل كقولناsadالرجل مات) بإسناد الفعل (مات) إلى من يُتَصَوَّر منه الموت وهو (الرجل)، أو العلاقةُ المانعة لاجتماع فعل ما بفاعل ما كقولنا -مجانبين الصواب-sadتألم الشَّعر) لعدم إمكانية إسناد الألم للذي لا يتصور منه ذلك، أو قولنا في تركيب غير متعارف عليهsadالساعةِ أيقظني منبهُ باكرا) مع ما يلاحظ من فرق بين ذلك وبين قولناsad أيقظني منبه الساعة باكرا)... كل ذلك من العلاقات التركيبية الخاصةِ باللسان العربي المميزةِ له عن بقية الألسنة.

وكذلك الأمر بالنسبة للمفردات لأنها نتاج علاقات تركيبية، حيث تتيح اللغة العربية لأبنائها أن يبدءوا في تركيب المفردة بمتحرك وتمنعهم من البدء بساكن، خلافا للغات أخرى، كما تمنع أن يتوالى ساكنان... إلخ. فتلك القواعد الصرفية التي تُبنى المفردات على منوالها ليست سوى علاقات تركيبية على مستوى المفردات، فالفعل (كتب) لم يتحول إلى بنية إلا بفضل تلك العلاقات التركيبية التي عقدت بين عناصره (الأصوات) وفق هذا التسلسل: ك + فتحة + ت + فتحة + ب + فتحة = كتب، ولو غيرنا التوزيع لحصلنا على تراكيب أخرى ليس لها معنى أو لها معنى غيرُ معنى الفعل(كتب) مثل: كبت، تكب، تبك، بتك، بكت.

 وتمثل الصيغ الصرفية العلاقاتِ التركيبيةَ الخاصة بالمفردات، فتمكننا من إنتاج أفعال على الأوزان التالية (فَعَلَ، فَعُلَ، استفعل، تفاعل، افعوعل...) أو أسماء على الأوزان التالية (فَعَل، فِعال، فاعِلة، مِفعال، استفعال...) وتمنعنا من إنتاج أفعال أو أسماء من ستة عشر صوتا مثلا، كما تمنع توالي بعض الأصوات أو اجتماعها في كلمة واحدة وفق ما ينصّ عليه الصوتي العربي.

ولذلك فإن كل التراكيب والبنى المتاحة في لسان ما -سواء كانت مفردات أو جملا- منطويةٌ على علاقات تركيبية تسمح لعناصرها بالتوزع والانتظام وفق طرائق خاصة، وتمنع توزعها وفق طرائق أخرى لا يتيحها نظام تلك اللغة، و" لا قيمة للكل إلا من خلال أجزائه، كما لا قيمة للأجزاء إلا بفضل موقعها في الكل. لذلك لا تقل العلاقة السنتاكمية (التركيبية) بين الجزء والكل أهمية عن العلاقة بين الأجزاء."

   ب- العلاقات الاستبدالية أو الترابطية Paradigmatiques (الاختيار أو الاستبدال): يذكرنا هذا النوع من العلاقات بالحقول الدلالية، حيث ترتبط الوحدات المشكِّلة للرصيد اللغوي والمخزَّنة في الدماغ فيما بينها على شكل مجموعات متشابهة في الشكل أو في المضمون أو فيهما معا. حيث إن الوحدة اللغوية التي تعتبر جزءا من التركيب ترتبط من جهة ثانية -خارج السياق- بوحداتٍ أخرى عديدةٍ في الذاكرة، منتميةٍ إلى الصنف الصرفي أو النحوي نفسه، إذ يمكن أن يستبعد بعضُها بعضا ويحل محله كما يقول دي سوسير، حيث " تكتسب الكلمات علاقاتٍ خارج الحديث – تختلف عن الصنف المذكور آنفا- فالكلمات التي تشترك في أمر ما ترتبط معا في الذاكرة، ويتألف منها مجموعات تتميز بعلاقات متنوعة، فعلى سبيل المثال، توحي الكلمة الفرنسية  enseignement(تعليم) بصورة لا شعورية بعدد كبير من الكلمات مثل (enseigner (يعلم)،  renseigner(يتعرف على)... جميع هذه الكلمات ترتبط بعضها ببعض بطريقة ما."

 ولم تُدرج تلك الوحدة دون بقية الوحدات التي تشترك معها، أو قد تحل محلها في التركيب، إلا لأن الدماغ اختارها -دون سواها- لكونها الأنسب في التعبير عن الفكرة والتلاؤم مع بقية عناصر التركيب، كما هو موضح في الشكل التالي:

فهذه الكتلة المشكلة جملةً (ضربَ اللصُّ الرجلَ) لم نحصل عليها إلا بعد عمليتين أتاحهما النظام، حيث ربط أفقيا بين هذه العناصر الثلاث (ضرب + الرجلُ + اللصَّ) وفق ترتيب معين وهو ربط خاص بالعلاقات التركيبية، ولو اختلف الترتيب لاختلفت الجملة وعبرت عن فكرة أخرى مثلا (ضرب الرجلُ اللصَّ)... كما ربط من ناحية أخرى ربطا عموديا بين كل عنصر من تلك العناصر الثلاث وبين عناصرَ أخرى غائبة عن الأداء لكنها حاضرة في الذاكرة ويمكنها أن تحل محل المذكور، وهو ربطٌ خاص بالعلاقات الترابطية. ولذلك يمكننا الحصول على جمل كثيرة عن طريق استبدال العنصر الحاضر( ضرب أو الرجل أو اللص) بالعناصر الغائبة التي يمكنها أن تقوم مقام الحاضر المذكور ( استبدال ضرب ب: قتل/ جرح/ خنق/ قتل/ ...) أو ( استبدال اللص ب: القاتل/ الظالم/ السفاح/ المجرم/...) أو (استبدال الرجل ب: البريء/ المرأة/ الشيخ/ الطفل/...).

ويتم الاختيار لتحقيق المراد من بين قائمة العناصر التي تعقد بينها علاقةٌ ترابطية في الذاكرة بناء على:

-        ما يراد تبليغه من معنى، فنقولsadقُتِل الرجل) بدل (مات الرجل) لما بينهما من فرق دالٍّ على كونه مات معذورا نتيجةَ اعتداء.

-        ما يحتاجه السياق، فلا نختار إلا ما يتلاءم مع بقية الوحدات المسهمة في التركيب، فنقولsadأجب عن السؤال) ولا نقولsadأجب على السؤال)، ونقولsadجاءت الطالبة) ولا نقولsadجاء الطالبة)، ونقولsadأجابني الطلبة) ولا نقولsadأجابوني الطلبة)، ونقولsad رجل ذكي) ولا نقولsadطأس ذكي)...فلا يكون الاختيار عشوائيا، وإنما تراعى بقية العناصر.

-        ما يتلاءم ورصيد الفرد من المفردات، فقد نختار مفردة جهلا بغيرها، فنقول (أخفى غيظه) جهلا ب( كظم غيظه) ونقولsadشرهت نفسي) جهلا ب( لقِست نفسي)...

-        ما يرغب فيه المنشِئُ، كأن يختار لفظة دون سواها، لا عن جهل بغيرها، ولكن لرغبة شخصية كأن تكون أكثر تداولا، أو أخف من غيرها، أو ذات وقع خاص، أو لتشكيلها مع غيرها جناسا أو سجعا، أو لأنها تمكِّنه من التورية إذا قصد ذلك وكانت اللفظة متعددة المعنى، أو لأنها غريبة إذا كان المتكلم متفاصحا مولعا بالغريب... 

    إن العلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية مسؤولتان عن الأداء الصحيح للغة، وبذلك يُفَسَّر عدمُ خطأ جلِّ أبناء المجتمع في التركيب والاختيار فلا نسمع: أكل الولد الحليب، افترس الثور الولد، رضع المولود الشعير، شرب العشب الماء، قضمت الدابة العشب... بينما نسمع: أكل الولد التفاحة، افترس الأسد الولد، امتص العشب الماءَ... لأن الفضل في ذلك يعود – فضلا عن آلية التركيب- لآلية الاختيار التي يسهر عليها النظام، فتعمل آليا دون شعور منا، "وهكذا يتم التفاهمُ(الإنساني) والاستعمالُ اللغوي –عامة- بهذه السرعة التي نعهدها.

إن المتكلم العادي لا يدرك العمليات المعقدةَ العقلية والعضوية التي يقوم بها لنطق صوت واحد أو كلمة واحدة، وهو – كذلك- في مجال تأليف الجمل- عندما يتكلم لغته الأم- لا يدرك العملياتِ البالغةَ التعقيد التي يقوم بها. ولكن المتكلم قد يتعثر، وقد يخطئ خطأ بيِّنا، عندما يتكلم لغةً غير لغته، وهو يبذل جهدا (شعوريا) لتأليف الجمل على قدر إتقانه لتلك اللغة، وهذا الجهد يتناقص كلما ازداد إتقانه لها."  فمثل مستعمل اللغة مثل السائق المتمكنِ من السياقة المحيطِ بنظامها، حيث يمتثل لقوانين المرور ويطبقها- مهما كانت معقدة- دون شعور منه عكس ما كان يعانيه في تعامله من نظام المرور حين كان مبتدئا.

   وما يقال عن هاتين العلاقتين في الجمل يقال أيضا في المفردات، ففي الفعل (كتب) مثلا تظهر العلاقة التركيبية بين عناصر الفعل وفق ذاك الترتيب: ك + فتحة + ت + فتحة + ب + فتحة = كتب، ولو غيرنا التوزيع لحصلنا على تراكيب أخرى. أما العلاقة الترابطية أو الاستبدالية في المفردات فتتمثل في إمكانية حلول صوت آخر من أصوات اللغة محل أحد أصوات ذاك الفعل فنحصل على وحدات أخرى، كاستبدال الكاف بالعين (عتب) أو التاء بالسين (كسب) أو الباء بالميم (كتم)...إلخ.

مقارنة بين العلاقتين:  يمكن الوقوف- من خلال ما سبق ذكره- على بعض النقاط الجامعة أو الفارقة بين العلاقتين حسب دي سوسير:

- يعملان معا في وقت واحد بما يشبه الغربلة العقلية، ففي الزمن الذي يحدث فيه التركيب مُمَثلا للعلاقات التركيبية، يحدث الاختيار مُمَثلا للعلاقات الترابطية.

- تكون العلاقات التركيبية بين وحدات حضورية موجودة بالفعل، بينما تكون العلاقات الترابطية بين وحدات غيابية كامنة في الذاكرة.

- تكون العلاقات التركيبية محدودة العناصر حسب ما يحتاجه التركيب أو الجملة، أما عناصر العلاقات الترابطية فهي قائمة مفتوحة.

- تقوم العلاقات التركيبية على شكل خطي بارتباط الوحدة بما يسبقها من وحدات أو يلحقها أو بهما معا، أما في الترابطية " فالكلمة تشبه المركز في مجموعة فلكية يلتقي فيها عدد غير محدود من العناصر المتشابهة." فلا خطية في العلاقات الترابطية، وهو الفرق الذي وقف عليه دي سوسير، إذ لاحظ أن " الارتباط الذي يتألف خارج الحديث يختلف كثيرا عن ذلك الذي يتكون داخل الحديث، فالارتباطات التي تقع خارج الحديث لا يدعمها التعاقب الخطي، ويكون مكانها في الدماغ، فهي جزء من الذخيرة الداخلية للغة التي يملكها كل متكلم "

    فاللغة –إذن- ليست مجرد رصف للعناصر ولكنها تضافر عمليتين متزامنتين هما التوزيع والاختيار المتعلقان -على التوالي- بالعلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية، ولذلك لا تحدث عملية التركيب التي تعقِد بين مجموعة محدودة من الوحدات التي تظهر على السطح أثناء الكلام إلا بالتزامن مع عملية أخرى مهمةٍ في الدماغ يتم من خلالها اختيار أيٍّ من تلك العناصر المترابطة ذهنيا أولى بالظهور على مستوى التركيب.

Last modified: Friday, 6 December 2024, 1:05 AM