اللسانيات الحديثة مفهومها/موضوعها/ مجالاتها: (الآنية والزمنية)
إذا كانت الثنائية الأولى (اللغة/ الكلام) متعلقة بسؤال هو: ما موضوع اللسانيات؟ فكان طرفا تلك الثنائية( اللغة/ الكلام) من أجل اختيار أحدهما موضوعا للدرس اللساني واستبعاد الآخر، فإن سؤالا آخر يُطرح الآن وهو متعلق بكيفية التعامل علميا مع ما تم اختياره موضوعا لهذه الدراسة، وهو اللغة.
ولما كان الكون محكوما بالحركة والسكون كانت كل الظواهر الكونية معرَّضة لهاتين الحالتين(الحركة /السكون) ومن تلك الظواهر الظاهرة اللغوية – موضوع الدرس اللساني- ولذلك فإن السؤال المطروح فيما يتعلق بكيفية التعامل علميا مع اللغة هو: ما هي النظرة الأَوْلى بالتقديم في دراسة النظام اللغوي دراسة علمية؟ أهي النظرة الآنية باعتبار اللغة ساكنة، أم النظرة التاريخية باعتبار اللغة متطورة؟
ومن ثم فإن الإجابة عن ذلك السؤال المتعلق بكيفية التعامل مع اللغة- تبعا لما تعرفه اللغة من حركة وسكون- أدت بدي سوسير إلى الإقرار بوجود نوعين من الدراسة يجب التمييز بينهما، وهما الدراسة الآنية أو السكونية، والدراسة الزمانية أو التطورية، حيث تقدم لنا كل دراسةٍ حقائقَ عن اللغة مختلفةً عما تقدمه الدراسة الأخرى " وهذا منه محاولة إصلاح للآراء الخاطئة التي أضلت أكثر اللغويين الغربيين منذ أن افتتنوا بمفهوم التطور كمفهوم إجرائي في تحليل الظواهر، وقابلوا به المعيارية النحوية أو المنطقية العقيمة."
إن اختلاف ما تقدمه هاتان النظرتان شبيه إلى حد بعيد بوصفين مختلفين قدمهما تلميذان لغزال جميل، حيث قدم التلميذ الأول وصفه للغزال وهو طليق بعيد عنه يعدو في البراري، بينما قدم التلميذ الثاني وصفه للغزال وهو قريب منه مسجون في قفص، فلا شك أن الوصفين يختلفان من حيث الدقة، ولا شك أن وصف القريب أدق، لأن ملاحظةَ الثابت المستقر- فضلا عن كونه قريبا- ووصفَه أوضحُ وأدق من ملاحظة المتحرك- فضلا عن كونه بعيدا- وذلك لأن الحركة كثيرا ما تعيق الدراسة الدقيقة، وكمثال آخر فإننا لا نستطيع تشريح أرنب لدراسة أنسجته مثلا إلا بتخديره، فذلك التخدير يسكن ويمنع الحركة ويمكّن من الملاحظة الدقيقة المريحة وما كنا لنحصل عليها لو كان متحركا غير مخدّر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة، حيث إن الناظر إلى لغة معينة كما هي متداولة بين أبنائها يدرك أنها ساكنة ثابتة فلا يشعر بأي حركة أو تطور فيها، بينما إذا نظر إلى تلك اللغة عبر تاريخها أدرك أنها متحركة متطورة من زمن إلى آخر، فهذا الناظر يدرك أنها ساكنة في الزمن الواحد، غير أنها متطورة إذا اختلفت الأزمنة، وكأنها كما وصف الله عز وجل الجبال في قوله:{ وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مرَّ السَّحَاب }[النمل/88].
وكما سمينا الثنائية السابقة ثنائية الموضوع، يمكن تسمية هذه الثنائية بثنائية المنهج (آني/ زماني) نسبة إلى الحالة التي تكون عليها اللغة أثناء دراستها، إما حالة ثبات وسكون، وإما حالة حركة وتطور. ومن خلال هذه الثنائية أيضا، وبعرض خصائص كل من البعدين الآني والزماني، يمكن الوقوف على قيمة ما نبّه إليه دي سوسير من ضرورة الاعتماد على الرؤيتين في دراسة اللغة دون خلط بينهما، مع إلزامية تقديم الآنية على الزمانية:
1/ الزماني: تختص الزمانية أو التعاقبية باللسانيات الخارجية بوصف المراحل التطورية للغة عبر الأزمنة المتتابعة حيث تدرس تطور اللغات وعلاقة ذلك بالسياسة والمجتمع والثقافة... "فثقافة أمة ما تؤثر تأثيرا ملموسا في لغتها، كما أن اللغة من المقومات المهمة للأمة." وهي الدراسة التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر –أي قبل دي سوسير- والتي كان يعتقد أصحابها أنها الدراسة العلمية الوحيدة للغة حتى قالوا:" لا علم إلا في المنهج التاريخي" فكادوا أن يهملوا اللغات المعاصرة التي تمثل الحاضر.
ويمثل البعد الزماني (التعاقبي، التطوري، التاريخي...) دراسةَ اللغة حسب الهيئات التي اتخذتها بمرور الزمن، من خلال ملاحظة تلك التطورات وتسجيلها وإرجاعها إلى عواملها المؤثرة فيها بغية الوقوف على القوانين العامة لتطور اللغات ومن ثم التنبؤ بمستقبلها...
2/ الآني: بينما تختص الآنية أو التزامنية –التي دعا إليها دي سوسير- بوصف حالة اللغة كما تجري في زمن معين ومكان معين بقطع النظر عن حالتها التي كانت عليها قبل ذاك الزمن أو بعده، أي تدرسها في ذاتها وبمعزل عن التاريخِ وعن كلِّ العوامل الخارجية المؤثرة فيها. حيث يتعين على اللساني – وفق هذه الرؤية- دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات، من خلال الاهتمام باللسانيات الداخلية التي تدرس نسق اللغة وقواعدها الباطنية.
فحتى يوصف النظام وصفا دقيقا ويحلل تحليلا علميا لا بد أن يكون ذلك النظام في حالة سكون وثبات، فيُبحث المستوى اللغوي الواحد من جوانبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية في زمن بعينه ومكان بعينه، وإذا استطعنا وصفه وهو ساكن أمكننا بعد ذلك فقط ملاحظة التغيرات الطارئة عليه بتعاقب الأزمنة. ولذلك ألح دي سوسير على أن الدراسة الزمانية لا يمكن أن تؤتيَ أكلَها إلا بعد دراسة نظام اللغة المقصودة وضبطه عبر أزمنة مختلفة، ولا يكون ذلك إلا بتسكين اللغة في زمن محدد للتمكن من معرفة نظامها في مختلف مستوياتها، ثم فعل الشيء نفسه في زمن آخر ثابت، وهكذا دواليك ليتسنى للباحث بعد ذلك دراسة التطور ووصفه وصفا دقيقا في أي مستوى من مستويات اللغة المعينة بمقارنة حالها من زمن إلى آخر اعتمادا على ما قدمه المنهج الوصفي من معطيات علمية لتلك اللغة خاصةٍ بأزمنة محددة.
ويمكن التمثيل لهاتين النظرتين- منطلقين من لغتنا العربية- وفق المحور التالي، حيث يمثل الخط (أ، ب) الدراسة الوصفية الآنية، بينما يمثل الخط(ج، د) الدراسة الزمانية التعاقبية. وكلتا الدراستين مهمة غير أن الوصفية القائمة على دراسة اللغة في ذاتها أهمُّ وأَوْلى لكونها أدقَّ وأكثرَ علميةً وموضوعيةً من الأخرى، خاصة أنها تعرِّفنا بحقيقة حالةِ اللغة ونظامها، بينما تعرفنا التعاقبية بتاريخ اللغة ومؤثراتها الخارجية، ولا خلاف- منطقيا- في كون معرفةِ النظام أسبقَ وأوْلى بالتقديم من معرفة ما يطرأ على هذا النظام من تغيرات:
|
|
|
||
|
|
||
|
|
||
|
|
||
|
|
||
|
|
||
|
|
||
|
الدراسة الآنية |
||
|
|
- القرن الأول قبل الإسلام
- القرن الهجري الأول
- القرن الهجري الثاني
- القرن الهجري الثالث
- القرن الهجري الخامس
- القرن الهجري الثامن
- القرن الهجري الثاني عشر
|
-القرن الهجري الخامس عشر
فالخط ( أ، ب) يمثل دراسة وصفية للغة العربية في زمن محدد- وهو القرن الهجري الخامس عشر- حيث تكون فيه حالة اللغة ساكنة مستقرة، وهو الأمر الذي يمكِّننا من دراسة حالةِ نظام اللغة دراسة داخلية بمعزل عن كل المؤثرات الخارجية. كما يمكننا أن ندرس حالات هذه اللغة في أزمنة أخرى شرط تسكين اللغة بتحديد زمن معين( كما هو موضح بالخطوط الأفقية المتقطعة)، كأن يكون العصرَ الجاهلي ممثلا في القرن الأول قبل الإسلام، أو عصرَ صدر الإسلام ممثلا في القرن الهجري الأول الذي عرفت فيه اللغة تطورا ملحوظا عما كانت عليه في الجاهلية، أو العصرَ الأُمويَّ، أو العباسيَّ الأول أو الثاني أو عصرَ المماليك... وكلها أزمنة عرفت فيها اللغة العربية حالات تطور، غير أن تلك الحالات محتاجة إلى الكشف عنها من داخِلها كشفا علميا دقيقا.
ومن خلال ما تقدمه الدراسة الوصفية من حالات مرت بها اللغة العربية من جاهلية، وإسلامية، وأُموية، وعباسية، ومملوكية، وحديثة يمكن - بعقد مقارنة بين هذه الحالات المتعاقبة- التأسيسُ لدراسة تاريخية زمانية، وهي الممثلة في الخط (ج، د)، تعنى بتعليل أسباب التطور كأن ترجعها في عصر صدر الإسلام إلى الأسباب الدينية وتأثير القرآن الكريم على اللغة، وفي العصر الأُموي إلى العوامل السياسية بسبب تنافس الأحزاب-كالشيعة والخوارج والأمويين والعباسيين- على الخلافة وانعكاس ذلك على اللغة، وفي العصر العباسي إلى العوامل الاجتماعية والثقافية التي اصطبغ بها مجتمع ذلك العصر متأثرا بالثقافة الفارسية واليونانية... إلخ.
وبهذا يكون دي سوسير أشهر من دعا إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين المنهجين، لأن هناك فرقا بين الشيء وبين تاريخ ذلك الشيء – كما بين ذلك من خلال مثاله المشهور عن لعبة الشطرنج- حيث " صاغ وأوضح ما اعتبره اللغويون السابقون أمرا مفروغا منه أو تجاهلوه، وهو البعدان الأساسيان الضروريان للدراسة اللغوية. والبعد الأول هو الدراسة التزامنـيـة Synchronic التي تعالَجُ فيها اللغـاتُ بـوصـفـهـا أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن بعيد، والبعد الثاني هو الدراسـة التعاقبية (التاريـخـيـة) diachronic التي تعالَج فيها تاريخيا عوامـلُ الـتـغـيـيـرِ التي تخضع لها اللغات في مسيرة الزمن. ولـقـد كـان إنجـازا لـسـوسـيـر أن يميز بين هذين البعدين أو المحورين لعلم اللغة: البعد التزامني أو الوصفي، والبعد التعاقبي أو التاريخي، وكل منهما يستخدم مناهجه ومبادئه الخاصة به وأساسياته في أي مقرر تعليمي ملائـم لـلـدراسـة الـلـغـويـة أو الـتـدريـس اللغوي".
ولما كان لكل بُعد من هذين البعدين مناهجه ومبادؤه الخاصة تمايزت الدراسةُ الوصفية الآنية التي دعا إليها دي سوسير عن الدراسة التعاقبية التاريخية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، واستقلت بذاتها، لأن الدراسة التاريخية متنافية -إلى حد بعيد- مع دراسة اللغة كنظام، ولذلك قيل:" العلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية." وهو الأمر الذي جعل من اللسانيات التزامنية – الآنية- علما مختلفا الاختلافَ كلَّه عن اللسانيات التعاقبية – الزمانية- منهجا وموضوعا، فضلا عن قيمتها – لقيمة منهجها الوصفي- التي فاقت قيمة اللسانيات التاريخية، وهو ما جعلها مدينةً – إلى مدى بعيد- بِعِلَّة وجودها للمنهج أكثر مما هي مدينةٌ للموضوع.
ولذلك لابد من الإقرار- إذن- بعد عرضنا لخصائص كل من المنهجين التاريخي التعاقبي، والوصفي الآني بأن أزمة الدراسة اللغوية بصفة عامة هي أزمة منهج، وهو الأمر الذي أقر به دي سوسير، ولولا تلك الأزمة ما جثمت المعيارية على صدر الدراسة اللغوية قرونا طويلة... وإذا اعتُبر الاهتداءُ إلى المنهج التاريخي حلا لمجابهة تلك الأزمة، فإن ذاك الحل نفسه سرعان ما تحوّل إلى أزمة حين لم ينظر إلى اللغة إلا من جانب واحد متعلق بهيئتها التطورية الناتجة عن مخلَّفات التاريخ متغاضيا عن هيئتها السكونية، ولم يدرس من اللغة إلا اللغةَ الماضية المكتوبة مهملا بذلك اللغة الحاضرة المنطوقة، فضلا عن قصوره عن دراسة اللغة في ذاتها دراسة داخلية مكتفيا في ذلك بالدراسة الخارجية... فإذا كانت هذه النقاط السلبية محسوبة على المنهج التاريخي المتعلق بالماضي فإن ذلك يعني أن أزمة المنهج لازالت قائمة، ولابد للأزمة من حل، وهو ما تجلى في الدراسة الوصفية الآنية التي اهتدى إليها دي سوسير مبينا ضرورتها وقيمتها مقارنا بينها وبين الدراسة التاريخية التي كانت سائدة من قبل والتي كان يعتقد اللسانيون أنها الدراسة اللغوية العلمية الوحيدة.
وبهذا التمييز بين الدراستين يكون دي سوسير- الأب الروحي للبنيوية- قد قدم لنا إجابة وافية عن السؤال المتعلق بأيّ المنهجين – الوصفي أم التاريخي- أوْلى بالتقديم في دراسة اللغة باعتبارها نظاما؟ وهي الإجابة التي يبرئ من خلالها نفسه من أن يكون رافضا للدراسة التاريخية أو منكرا لقيمتها.