اهتمام الإنسان بالظاهرة اللغوية قديم قدم الحضارات التي عرفها هذا الإنسان القابل للتحضر الإيجابي في مختلف البيئات، وليس وليد العصر الحاضر، وذلك لأن اللغة من أهم المقومات التي اعتزت بها الشعوب منذ أن لاحظت تميّز كل أمة بلغة تتواصل بها، وتصل حاضرها بماضيها، وتحمل مجمل ثقافتها ومنتجاتها العلمية والفنية ومقدساتها أيضا... وفوق ذلك لا تشاركها فيها أمةٌ أخرى، فنظرت إليها نظرة إكبار وإجلال، وبذلت الجهود لخدمتها حفظا، وجمعا، وتأليفا، ونظرا في ظواهرها، وتقعيدا لقوانينها، وتلقينا لقواعدها للأجيال، واستماتت في الدفاع عنها، وعملت على توسيع مساحتها ونشرها على حساب لغات شعوب أخرى...

ولذلك فإنه لا يمكننا في الإجابة عن السؤال المتعلق بتاريخ الفكر اللغوي لدى الإنسان إلا الجزمُ بكونه موغلا في القدم، ضاربا بجذوره في أعماق التاريخ، مرتبطا بالحضارات القديمة خاصة الشرقية منها، متنوعا حسب تنوع تلك الحضارات واختلاف أسسها التي قامت عليها من مصرية قديمة وسومرية وأكّادية وصينية قديمة وفينيقية ويهودية وهندية وإغريقية ورومانية وعربية إسلامية...

ولو لم يكن للحضارات القديمة إلا فضل الاهتداء إلى الكتابة وتطويرها، وذلك بغية تسجيل الملفوظ القيّم من اللغات المختلفة، وإعطائه حياة أطول حتى يطلع عليه الغائب، وتتوارثه الأجيال اللاحقة بعد أن لاحظوا اندثار الكلام بمجرد نطقه لكفاهم ذلك إنجازا. غير أن التحقيق العلمي يقتضي الوقوف على أهم النقاط والقضايا التي مثلت سبقا بحثيا وجهودا لغوية تركها أولئك السابقون منذ قرون، وضارعوا أو فاقوا في بعضها ما توصل إليه البحث اللغوي الحديث، ولذلك سنحاول الوقوف على أهم المنجزات اللغوية لدى حضارتين مثلتا فجر الفكر الإنساني بصفة عامة والدراسات اللغوية بصفة خاصة، وهما: الحضارة الهندية القديمة، والحضارة اليونانية، للكشف عن بعض جوانب البحث اللغوي لدى القدماء، ومعرفة تفكير الإنسان آنذاك، وموقفه من اللغة وطبيعتها بصفة عامة، ومن بعض قضاياها بصفة خاصة.

1/ الهنود: 

إن من أقدم ما حفظه لنا التاريخ من أعمال لغوية متعلقة بالقدماء تلك الأعمال التي سجلها الهنود القدماء قرونا طويلة قبل الميلاد منطلقين في ذلك من لغتهم الهندية القديمة السنسكريتية وهي لغة كتابهم المقدس الفيدا، ومن ثم آمنوا بكونها لغة إلههم إندرا الذي يعبدونه، والذي منحهم ذلك الكتاب المقدس بتلك اللغة التي صارت لذلك مقدسة لديهم، ولذلك كان لزاما على كل هندي أن يتقن تلك اللغة- لغة إندرا ولغة الفيدا- حتى يقرأ ذلك الكتاب المقدس قراءة صحيحة ويفهم ما فيه، كما كان لزاما على العلماء منهم خاصة أن يخدموا تلك اللغة، ولذلك ظهر في المجتمع الهندي بمرور العصور كثير من العلماء اللغويين، وكان على رأسهم النحوي الشهير بانيني الذي استفاد مما سجله اللغويون الذين سبقوه، وأضاف إضافات قيّمة تصف قواعد اللغة السنسكريتية وصفا دقيقا، وتسهل تعلّمها، فكان شبيها في الحضارة العربية الإسلامية بسيبويه الذي لم ينطلق في كتابه من فراغ وإنما استفاد من آراء من سبقوه وعلى رأسهم الخليل بن أحمد وأبو عمرو بن العلاء والأخفش الأكبر.

   فهؤلاء الهنود وعلى رأسهم بانيني -خير النحاة الوصفيين القدماء- قد أولوا القضايا اللغوية أهمية بالغة خاصة في لغتهم الهندية السنسكريتية، وذلك قبل نظرائهم الإغريق بحقبة زمنية طويلة، وقد كانت مواضيعهم ذات صبغة دينية لأنهم لم يكونوا فلاسفة، بل إنهم يعدون من أوائل اللغويين الذين أشبعوا لغتهم الحاملة لكتاب (الفيدا) دراسة ووصفا وتحليلا واستنباطا للقواعد الفونولوجية والمورفولوجية والنحوية للغة السنسكريتية القديمة قصد تقويم ألسنتهم وحفظها من اللحن الذي يحول بينهم وبين النطق والفهم الصحيحين للفيدا، ولذلك اكتسب الدرس اللغوي قداسة لا مثيل لها حتى شاعت بينهم مقولة مأثورة مفادها" إن الماء هو أقدس شيء على الأرض، والكتب المقدسة أكثر قداسة من الماء، ولكن النحو أكثر قداسة من الكتب المقدسة"

   - التأليف المعجمي: يعد الهنود من أوائل الأمم المتحضرة التي اهتدت إلى التأليف المعجمي اللغوي من أجل حفظ الألفاظ ومعانيها، لاسيما ما كان منها ذا علاقة بالنصوص الدينية وبكتاب الفيدا خاصة، وذلك قبل العرب وإن لم تكن مكتملة كالمعاجم العربية.

   أما عن أهم القضايا اللغوية التي عالجوها وحازوا فيها على قصب السبق أيضا، فضلا عما سبق ذكره:

   - نشأة اللغة: فقد انقسم الهنود إزاء نشأتها، أو كيفية اكتساب الأصوات لمعانيها إلى فريقين، فاعتبرها بعضهم قديمة، وهي هبة إلهية من صنع معبودهم " إندرا Indra " الذي أعطى لكل الأشياء والحيوانات أسماءها. بينما اعتبرها فريق آخر اختراعا إنسانيا ونتاجا لنشاطه الفكري.

   - علاقة اللفظ بمعناه: أي كيف تفصح المباني عن المعاني، وقد تعددت حوله الآراء من رافض لفكرة التباين بين اللفظ ومعناه فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ومن مصرح بأن العلاقة بين اللفظ ومعناه قديمة وفطرية أو طبيعية، ومن قائل بوجود علاقة ضرورية بينهما شبيهةٍ بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان، ومن ذاهب إلى أن الصلة بينهما مجرد علاقة حادثة ولكن طبقا للإرادة الإلهية.

   - أقسام الكلم من حيث الدلالة: قسموا دلالات الكلمة إلى أربعة أقسام تبعا لعدد الأصناف الموجودة في الكون، وهذه الأقسام هي:

      1- قسم يدل على مدلول عام أو شامل (رجل).                        2- قسم يدل على كيفية (طويل).

      3- قسم يدل على حدث (جاء).                                       4- قسم يدل على ذات  (محمد).

  - وجود الترادف والمشترك اللفظي باعتباره ظاهـرة عامة في اللغات.    - دور القياس والمجاز في تغيير المعنى.

   - قضية السياق وأهميته في إيضاح معنى المفردات، وهي من القضايا الدلالية الهامة التي يبحثها علم اللغة الحديث.

   وعلى العموم فإن الدراسات اللغوية الهندية تتمتع بقيمة علمية كبيرة، فقد انتظمت في فروع مستقلة لكل منها أهداف ومناهج خاصة، كاللسانيات العامة، والنحو الوصفي، والفونتيك، والفونولوجيا، والمورفولوجيا، والدلالة... مع تميزها بالشمولية، والانسجام، والاقتصاد!.

2/ اليونان:

   أُثر عن اليونان القدماء نظرات وآراء لغوية، ولما كانوا فلاسفةً أكثرَ منهم علماءَ دين، وأصحابَ إرث علمي فلسفي وأدبي لا أصحابَ كتاب مقدس، فقد كانت نظرتهم إلى المسائل اللغوية -على غرار غيرها من المسائل- ميتافيزيقية نوعا ما، مع كونها متنوعة مشتملة على تصنيفات صوتية، وتقسيمات صرفية، وقواعد نحوية، وآراء دلالة ومؤلفات معجمية...

كان هدف النحو عندهم تعليميا لتلقين المتعلم فنون الكلام والكتابة، غير أنهم بنوه على أسس من المنطق، وعدوه جزءا لا يتجزأ من الفلسفة. وقد كان من أشهر نحوييهم العالم الأسكندري ثراكس thrax .

تناثرت الآراء والأبحاث الصوتية اليونانية في محاورات أفلاطون، وفي الشعر والخطابة لأرسطو، وكان أكثرها في كتابات نحوييهم، وقد فرقوا – منطلقين من لغتهم- بين الأصوات الصامتة والأصوات الصائتة، فعرّفوا الصامت بأنه الصوت الذي لا يتأتى نطقه دون الصائت، وعرفوا الصائت بأنه الصوت الذي يمكن نطقه وحده، فهو مستقل. وقد اعتمدوا في تصنيفهم الأصوات على ملاحظة الآثار السمعية للأصوات، لا على أسس فيزيولوجية قائمة على فحص وظائف أعضاء النطق كما فعل الهنود والعرب، ولذلك كان تصنيف الهنود والعرب أكثر دقة.

التأليف المعجمي: اهتدى اليونانيون إلى صناعة المعاجم قبل العرب، ومن أقدمها معجم يوليوس بولكس وهو كالمخصص لابن سيده.

البحث الدلالي: وقد نالت قضية الدلالة قسطا كبيرا من أبحاث الفلاسفة اليونانيين، وكان من بين أهم القضايا التي تناولوها بالدراسة:

   - قضية العلاقة بين اللفظ ومعناه، أو ما يسمى بثنائية الطبيعة / العرف، وقد تقاسم البحث في هذه القضية فريقان، ذهب أحدهما إلى أن العلاقة بين اللفظ ومعناه طبيعية، أي إن للألفاظ معنى لازما متصلا بطبيعتها، وكان على رأس هؤلاء أفلاطون، فيما ذهب الفريق الآخر إلى أن العلاقة بينهما عرفية اصطلاحية ناجمة عن اتفاق بين البشر، وقد مثل هذا الاتجاه أرسطو.

   - معالجة أرسطو الفرق بين الصوت والمعنى، وذهابه إلى أن المعنى مطابق للتصور الموجود في العقل المفكر، والكلمة ليست مجرد أصوات منطوقة، بل المعنى جزء متكامل من الكلمة، فلا توجد كلمات تكون مجرد أصوات. ومن ثم ميز بين ثلاثة أمور:

1- الأشياء في العالم الخارجي.      2- التصورات (المعنى )              3 - الأصوات ( الرموز أو الكلمات).

- وكان تمييزه بين الكلام الخارجي والكلام الموجود في العقل هو أساس معظم نظريات المعنى في العالم الغربي خلال العصور الوسطى.  والعلاقة التي تربط بين الكلمات والأشياء (مشاراتها) هي علاقة إشارة غير مباشرة، أي إن البنية ترتبط بمشارها عن طريق المعنى (المفهومي) الوسيط المتعلق بكليهما بصورة مستقلة كما يوضحه الشكل التالي:                                 

                                        معنى (مفهوم)

                   بنية  مشار                                  

   - استناد أرسطو في تقسيمه الكلام إلى مستند دلالي حسب ما تفيده الكلمة من معنى، فالاسم عنده ما كان ذا دلالة مجردة من الزمن، أما الفعل فما كان له دلالة على الحدث والزمن، في حين الحرف ما لم يكن له في نفسه أي معنى.

   - يعد حديث أرسطو في كتاب ( فن الشعر) عن الانتقال اللغوي في الاستعارة وأشكال هذا التبديل في مواقع الدالات والمدلولات أساسا ومركزا تفرعت منه الفروع في الأبحاث البلاغية بعد ذلك لدى الدارسين الأوربيين، وقد تداخلت فيها النظرات اللغوية والنقدية والبلاغية إلى أن بدأ علم الدلالة ينحو منحاه علما مستقلا بقضاياه ومناهجه ومنطلقاته على يد برييل وآخرين.

   - وبعد أرسطو كانت مدرسة الرواقيين التي أسسها زينون حوالي 300 ق.م. فكانت لهم مناهجهم وأفكارهم الخاصة في معالجة المسائل اللغوية وبطريقة منظمة، حيث يردون كل شيء إلى المنطق.  

   - اهتمام علماء اليونان بعلم الاشتقاق etymology أو التأصيل، أي اكتشاف المعاني الأولية للكلمات، وذلك ضمن علم الدلالة التاريخي للإجابة عن السؤال: كيف أمكن لمجموعة محدودة من الكلمات الأولية المتوافقة صوتيا والتي منحتها أو علمتها الآلهة في البداية أن تتضاعف لتنتج الأعداد الهائلة من كلمات معجم اليونانية أولا، ومعجم اللاتينية بعد ذلك، لتواجه متطلبات المدنية ذات الثقافة الرفيعة؟

   - أما برقلس Proklos في القرن الخامس الميلادي فقد اهتم بالتغير الدلالي محاولا أن يربطه بالتغير الحضاري، وقد لاحظ أن التغير الدلالي يتخذ عدة أشكال كالمجاز وتوسيع المعنى وتخصيصه.

3/  أما عن الرومان وباعتبارهم تلامذة اليونان، فقد حذوا حذو اليونانيين في معالجة القضايا اللغوية، الأمر الذي جعلهم مقلدين أكثر منهم مخترعين، وربما كان "فارو" ( 116– 27 ق.م) أكثر الكتّاب الرومان استقلالية وأصالة في الكتابة عن الموضوعات اللغوية، ومن ذلك مناقشته لمسائل دلالية متعددة في كتابه)اللغة اللاتينيةDe Lingua Latina ( فكان من بين ما تناوله، قضية نشأة اللغة، ومسألة الطبيعة والاصطلاح، والقياس والشذوذ، وفيما يخص هذه الثنائية الأخيرة أكد على ضرورة الاعتراف بها في اللغة ودورها في توليد المفردات والمعاني الجديدة، ولذلك كانت ظاهرة التوليد والاشتقاق من أهم ما اعتنى به فارو.

Last modified: Friday, 6 December 2024, 12:35 AM