نظم الكوفيون نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه اتجاه البصريين، فاستمعوا من الأعراب الثاوين بالكوفة ( وقد كانوا أقل عددا وأضعف فصاحة ممن كانوا بالبصرة، إذ كان أغلبهم يمانيين، وأهل اليمن في عين أهل التمحيص ممن لا يستند إليهم لمخالطتهم الحبشة والهند والتجار الوافدين من مختلف الأمصار )

   كما كان الكوفيون أعلم بالشعر من البصريين وأكثر انشغالا به، والشعر ذو النصيب الأوفر في تدوين القواعد بعد القرآن الكريم، إلا أن النحل قد طغى عليه حتى التبس الأمر على الناس، وأُسند القول إلى غير قائله، قال أ[و الطيب:" الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم." وذلك لاعتمادهم في كثير منه على حماد الراوية، وقد كان رقيق الأمانة، وعلى خلف الأحمر البصري الذي لبس على الكوفيين، دون البصريين، فيما رواه لهم، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشر التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم، وهو من أكثر ما بنوا عليه قواعدهم!! قال أبو زيد:" حدثني خلف الأحمر قال: أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم! أنا تائب إلى الله تعالى، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوباً إلى العرب لهذا السبب." فاجتماع هذين الوضاعينِ كفيل بتوريث الكوفيين توهينا لمذهبهم، فليس في الرواة جميعا، على كثرتهم ومحاولة بعضهم الصنعَ من يداني حمادا وخلفا!! ( لكن لم يكن كل رواتهم كذلك، فالمفضل الضبي مثلا ثقة قد روى عنه البصري أبو زيد الأنصاري في كتاب النوادر)

على الرغم من علم الكوفيين بالشعر إلا أن منهم - كالكسائي- من استمع إلى الأعراب الذين في بغداد! كأعراب الحطمة الذين ضربوا خيامهم في قَطرَبُّل، وهم من زعانف العرب الذين اختبل لسانهم، ولولاهم ما فاز الكسائي وانخذل سيبويه في مناظرة المسألة الزنبورية. ولذلك قال اليزيدي البصري في الكسائي وأصحابه:

كنَّا نَقِيسُ النحوَ فيما مَضى ...  على لسانِ العَرَبِ الأوَّلِ

فجاءَ  أقوامٌ  يقيسُونَهُ ...   على لُغَى أشياخ قُطْرُبُلِ

فكُلُهم يعملً في نقض ما ... به يصاب الحقُ لا يأتلي

إنّ الكسائي  وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفلِ

وفي هذه النقطة الفارقة بين منهجي المدرستين يقول الرِّياشي أبو الفضل البصري، وهو يلمز الكوفيين: إنما أخذنا اللغة من حَرَشَةَ الضِّباب وأكَلَة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكَلَة الكواميخ والشَّواريز.

 

ويمكن إجمال منهج الكوفة فيما يلي:

- اتساعهم في الرواية وفي القياس، بما في ذلك قياسهم على الشاذ،

- مخالفة البصريين في بعض المصطلحات

- اعتمادهم على شعر المتحضرين

- اكتفاؤهم بالشاهد الواحد ولو خالف الأصل المعروف المتفق عليه بين الفريقين، حتى قيل فيهم: لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه خلافا للبصريين، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، ولا يعلم قائله، ومن ذلك تجويزهم دخول اللام في خبر( لكن)، يقول المجهول:

....................     ولكنني من حبها لعميد.

ومن ذلك أيضا تجويزهم تثنية أجمع وجمعاء وتوابعهما قياسا على جمعها ( أجمعان، أكتعان أبصعان، أبتعان للمذكر، وجمعاوان، كتعاوان، بصعاوان، بتعاوان للمؤنث)، وهو غير مسموع!!

ولذلك وضعوا جريا على سنتهم- للشيء الواحد متى ورد على صور متغايرة قواعد بقدر صوره، فكثر عندهم التجويز للصور المتخالفة، كما قل عندهم ما كثر عند البصريين من التأويل والشذوذ والاضطرار والاستنكار، ولكن ذلك لا يعني مجانبتهم الصواب فكل ما ذهبوا إليه، بل أصابوا أحيانا وأخطأ الكوفيون.

 

طبقات الكوفيين: تضم خمس طبقات، تتلمذت أولاها على يد علماء الطبقة الثاني البصرية:

 

الطبقة الأولى:

 الرؤاسي أبو جعفر(187هـ): لقب بالرؤاسي لكبر رأسه، نشأ بالكوفة وورد البصرة فأخذ عن "أبي عمرو بن العلاء" وغيره من علماء الطبقة الثانية البصرية، ثم قفل إلى الكوفة، واشتغل فيها بالنحو مع عمه معاذ وغيره، فتكونت الطبقة الأولى الكوفية. ثم صنف كتابه "الفيصل" الذي اطلع عليه الخليل ونقل عنه سيبويه في كتابه كما نقل عن البصريين، فإلى الرؤاسي يرجع بدء النحو في الكوفة دراسة وتأليفا. فهو رأس الطبقة الأولى الكوفية، وكتابه أول مؤلف في النحو بالكوفة.

الهراء معاذ بن مسلم (187ه): هو عم الرؤاسي،عرف بالهراء لبيعه الثياب الهروية الواردة من مدينة هراة، أخذ عنه الكسائي قبل أن يخرج إلى الخليل بن أحمد. اشتغل مع ابن أخيه في النحو، غير أن ولوعه بالأبنية غلب عليه، حتى عده المؤرخون واضع الصرف، ولم يوقف له على مصنف.

 

الطبقة الثانية:

الكسائي علي بن حمزة(189هـ): أحد القراء السبعة وإمام في النحو واللغة، فارسي الأصل، سئل عن تلقيبه بالكسائي فقال:"لأني أحرمت في كساء"، وقيل في السبب غير هذا، نشأ بالكوفة وتعلم النحو على كبر، بعد لحن، وتنقل في البادية، وهو مؤدب الأمين ابن هارون الرشيد. أخذ عن معاذ الهراء ما عنده ثم توجه تلقاء البصرة فتلقى عن الخليل ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة وكتب عن العرب كثيرا

له عدة تصانيف منها: معاني القرآن، وكتاب في القراءات، وكتاب النوادر الكبير، ومختصر في النحو، وغير ذلك.

وعلى يد الكسائي تكاثرت الفوارق بين المذهبين لاختلاف الاتجاهين.

 

 

الطبقة الثالثة:

هشام الضرير(209هـ): من تلاميذ الكسائي، أخذ عنه كثيراً من النحو. وله فيه مقالة تعزى إليه. وله فيه تصانيف، منها: كتاب الحدود وهو صغير. وكتاب المختصر. وكتاب القياس.

 الأحمر علي بن المبارك (194هـ): وهو غير خلف الأحمر لأن خلفا بصري وهذا كوفي. كان جنديا من رجال النوبة على باب الرشيد، ثم سمت نفسه إلى العلم، فكان يترصد في الطريق الكسائي عند حضوره للرشيد، ومنه أخذ النحو، ثم صار مؤدبا لأولاد الرشيد بعد مرض الكسائي. وهو الذي ناظر سيبويه عند مقدمه بغداد في المسألة الزنبورية،

الفراء(207هـ): هو أبو زكريا يحيى بن زياد، لقب بالفراء "لأنه كان يفري الكلام". ولد بالكوفة من أصل فارسي، وتلقى عن "الكسائي" وغيره، وتبحر في علوم متنوعة، فكان فذا في معرفة أيام العرب وأخبارها وأشعارها، والطب والفلسفة والنجوم، كما كان فقيها متكلما ميالا إلى الاعتزال، وقد تقصى أطراف علم النحو حتى قيل فيه:" الفراء أمير المؤمنين في النحو، وهو الذي قال: أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها ترفع وتنصب وتخفض". وقال فيه ثعلب: لولا الفراء ما كانت اللغة. وقال سلمة: إني لأعجب من الفراء كيف يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه.

من كتبه: المقصور والممدود، ومعاني القرآن الذي أملاه في مجالس عامة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا،  والمذكر والمؤنث، وكتاب اللغات، والفاخر(في الأمثال)، وما تلحن فيه العامة، وآلة الكتاب، والأيام والليالي، والبهي (ألفه لعبد الله بن طاهر)، واختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف، والجمع والتثنية في القرآن، والحدود (ألفه بأمر المأمون)، ومشكل اللغة. وكان يتفلسف في تصانيفه. ولما مات وجد " كتاب سيبويه " تحت رأسه، فقيل: إنه كان يتتبع خطأه ويتعمد مخالفته.

اللحياني(220هـ): هو أبو الحسن علي بن المبارك من بني لحيان، أخذ عن الكسائي وغيره، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام. وله كتاب النوادر.

 

الطبقة الرابعة:

ابن سعدان الضرير(231هـ): نحوي مقرئ ضرير. له كتب في النحو والقراءات، منها (الجامع) و (المجرد) وغيرهما.

الطوال(243هـ): ويكنى بأبي عبد اللّه. من أصحاب محمد بن زياد الفرّاء النحوىّ. قال أبو العباس ثعلب: كان الطّوال حاذقا بإلقاء المسائل العربية، وكان سلمة حافظا لتأدية ما فى الكتب، وكان ابن قادم  حسن النظر فى العلل؛ وهؤلاء الثلاثة الأجلّاء من أصحاب الفرّاء. ولم يشتهر للطّوال تصنيف.

ابن قادم أبو جعفر(251هـ): أخذ عن الفراء وأخذ عنه ثعلب، وحذق النحو وتعليله، واتصل بالعباسيين فأدب المعتز قبل الخلافة، وله مؤلفات منها في النحو: الكافي، والمختصر.

 

الطبقة الخامسة:

 ثعلب(291هـ): أبو العباس أحمد بن يحيى إمام الكوفيين في النحو واللغة، تلقى عن ابن الأعرابي وابن قادم، وسلمة بن عاصم وغيرهم غير أنه كان للنحو من بين علوم اللغة العربية النصيب الأوفى من عنايته، واعتمادُه فيه كان على سلمة بن عاصم. وروى عنه الأخفش الأصغر وأبو بكر بن الأنباري. وهو صاحب الفصيح، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: كتاب المصون، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، وما تلحن فيه العامة، والقراءات، ومعاني الشعر، والتصغير، وما ينصرف وما لا ينصرف، والشواذ، والأمثال، والإيمان، والوقف والابتداء، والألفاظ والهجاء، والمجالس، والأوسط، وإعراب القرآن، والمسائل، وحد النحو وغير ذلك.. قال المبرد: أعلم الكوفيين ثعلب. وكان يزري على نفسه، ولا يعد نفسه، قال أبو بكر ابن مجاهد المقرئ: قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة، فانصرفت من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس مني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل. ذلك أن الكلام لا يكمل إلا بمعرفة النحو، وأنه ضروري للتعبير عن جميع العلوم.

جمعت بغداد بينه وبين أبي العباس المبرد زعيم البصريين الذي نافسه شرف الرياسة العلمية والزلفى عند الخلفاء والأمراء، فكانت بينهما مناظرات، ومع ذلك شهد له المبرد بتقدمه على معظم الكوفيين بمن في ذلك سلفه الفراء.

Last modified: Friday, 6 December 2024, 12:12 AM