إلى هذه المدرسة يعود النحو العربي كله، ولأعلامها الأوائل يدين نحاة كل المدارس سواء أوافقوهم طريقة ومنهجا أم خالفوهم. وكنا قد ذكرنا أن الدارسين لنشأة النحو وعلوم العربية عامة قديما وحديثا قد اختلفوا في واضع علم العربية وإن كان أكثرهم ينسب ذلك إلى أبي الأسود الدؤلي وتلامذته من بعده المشكلين للطبقة الأولى كنصر بن عاصم الليثي(89هـ) وعنبسة الفيل(100هـ) وعبد الرحمان بن هرمز(117هـ) ويحي بن يعمر العدواني(129هـ)، وذلك نظرا لما عُرف به هؤلاء من جهد في نقط المصحف الشريف وضبط الكتابة العربية، من خلال نقط الحروف أفراداً وأزواجاً لتمييز الحروف المتشابهة، ولهذا نسب كثير من الدارسين النحوَ إليه نظير جهده اللغوي، يقول سعيد الأفغاني:" أول من ذكر من أعلامها أبو الأسود الدؤلي، وتلاميذه هم الذين نشروا النحو في البصرة، وتخرج على أيديهم وأيدي تلاميذهم طبقات من أعلام النحو، رفعوا بناء المذهب البصري على أسس متينة وقواعد محكمة."

   غير أن الحقيقة أن النحو بمفهومه العلمي الدقيق لم يُعرف إلا بعد أبي الأسود وتلامذته، فما عُرف من نحو بعد هؤلاء غيرُ ما كان في زمنهم، لأن " الأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل، وأول نحوي بصري حقيقي نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة( 117)  للهجرة، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود". فما كان قبل ابن أبي إسحاق ليس سوى مرحلة تمهيدية لنشأة النحو ونضجه بعد ذلك، لأن جل ما عرفته تلك المرحلة كان " عبارة عن أنظار لغوية ومسائل عامة كانت تثار في مجالس العلماء، وكان المهتمون بسلامة العربية لغة القرآن الكريم يروونها ويعالجونها. وأهم عمل كان في هذه المرحلة نقطُ الإعراب الذي ابتكره أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69 هـ، وبه حلت مشكلة ضبط أواخر الكلمة. وكان أبو الأسود أحد حماة اللغة وسلامتها والداعين إلى تعليمها للموالي الذين دخلوا في الإسلام، وكان يتتبع مواطن اللحن ويسعى إلى تقويمها، وهو بهذا يعد أحد رواد التصحيح اللغوي. ونقط الإعراب لا يعد عملاً نحوياً إلا أنه كان أساسا، في أكبر الظن، انطلقت منه مصطلحات الضم والفتح والكسر التي استعملها النحويون بعد ذلك، وهو ما أوحى به قوله للكاتب الذي اختاره لضبط المصحف: إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين."

 

منهج البصرة:

لم تدون قواعد البصرة إلا مدعومة على عناصر ثلاثة منذ تأسيسها:

1- سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها ولذلك لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي، وقد كانوا يختبرونهم أحيانا قبل التقبل لما يروونه عنهم، ومن ذلك ما نقله ابن جني في خصائصه من أن أبا عمرو بن العلاء استضعف فصاحة أبي خيرة نهشل بن يزيد لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم؟ ففتح أبو خيرة التاء(عرقاتَهم)  فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لَانَ جلدُك!.

2- الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة والأثبات الذين بذلوا النفس والنفيس في نقل المرويات عن قائليها مَعزُوَةً إليهم.

3- الكثرة الفياضة من هذا المسموع ( الشيوع) التي تخول لهم القطع بنظائره وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به، وإلا اعتبروه مرويا يحفظ ولا يقاس عليه، إلا إذا لم يرد من نوعه ما يخالفه، فلا بأس من اعتباره مبنًى للتقعيد عليه، ومن هنا ارتضى العلماء رأي سيبويه في إلحاق (فَعُولة) ب (فَعِيلة) في النسب في حذف حرف المد وقلب الحركة فتحة اعتمادا على سماعه في النسب إلى (شَنُوءَة): (شَنَئِي) وعدم سماع ما يخالفه نسبا من هذا الوزن. (أما مما جاء على فَعَيلة فمثل: حنيفة/ حَنَفيٌ، جَهينة/ جَهَنيٌ، خلافا لما تُرك مده مثل: سَليمة/ سليمي، عَميرة/ عميري، سَليقة/ سليقيٌ)

- يضاف إلى ذلك:

لزومهم التطواف والرحلة بعد اختلاط الألسن، قاصدين جفاة الأعراب، متحاشين سكان الأطراف والحضريين المخالطين لأجناس من غير العرب.

اعتزازهم بقواعدهم وأقيستهم الناتجة عن ذاك المنهج، وقد بلغ بهم الأمر إلى أن اعترضوا على بعض القراءات التي عدوها خارجة عن قواعدهم المقررة وأقيستهم التي لا تتغير، فضلا عن اعتراض بعضهم على العربي المطبق أحيانا، كاعتراض عبد الله بن أبي إسحاق على الفرزدق في مواطن كثيرة، وأغرب من ذلك تعقُب تلميذه عيسى بن عمر قولَ النابغة:

فبت كأنى ساورتنى ضئيلة ... من الرقش فى أنيابها السم ناقعُ.

إذ قال: أساء النابغة، إنما هو ناقعاً (بالنصب على الحالية لا بالرفع على الخبرية)

ولهذا قال عمار الكلبي مبديا ضجره من بعض نحاة البصرة خاصة الذين جعلوا قواعدهم أصلا يحكمون به على كلام السليقيين الفصحاء:

ماذا لقيتُ منَ المستَعْربينَ ومنْ ... قياسِ نحوهمُ هذا الذي ابْتدَعوا

إن قُلتُ قافيةً بِكراً يكونُ بها ... بيْتٌ خِلافَ الذي قاسوه أو ذرَعوا

قالوا: لحَنْتَ وهذا ليسَ مُنتَصِباً ... وذاك خفْضٌ وهذا ليسَ يرتَفِعُ

وحرّضوا بينَ عبدِ الله من حُمُقٍ ... وبينَ زيْدٍ فطالَ الضّرْبُ والوَجَعُ

كمْ بيْنَ قومٍ قد احْتالوا لمنطقِهِمْ ... وبينَ قوْمٍ على إعرابِهم طُبِعوا

ما كُلّ قوليَ مشروحاً لكُمْ فخُذوا ... ما تعرِفونَ وما لمْ تعرِفوا فدَعوا

لأنّ أرضيَ أرضٌ لا تُشَبُّ بها ... نارُ المجوس ولا تُبْنى بها البِيَعُ

   ويعود مرجع هذه النزعة إلى ابن أبي إسحاق وتلميذه عيسى بن عمر دون غيرهما من معاصريهما كيونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء اللذين كانا يتحرزان عن تخطئة العربي الفصيح ويعتمدان قوله وإن خالف القياس، قال ابن سلام:" أخبرنا يونس أن أبا عمرو كان أشد تسليماً للعرب وكان ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب". وقد غلبت النزعةُ الأولى النزعةَ الثانيةَ على البصريين بعد سيبويه وصارت لهم منهجا خاصا، بينما انتقلت النزعةُ الثانية إلى الكوفيين حتى اتخذوها إحدى دعائم القواعد عندهم.

   يقول شوقي ضيف في ذكر أهم خصائص منهج البصرة سماعا وقياسا، وهي واضعة علم النحو ورافعة أركانه:" معروف أنه لكي يصاغ علم صياغة دقيقة لابد له من اطراد قواعده وان تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يُكفل لها التعليل وان تصبح كلُ قاعدة أصلا مضبوطا تُقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون، أما من حيث الاطراد في القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطأوه أو أولوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة... وكان القرآن الكريم وقراءاته مددا لا ينضب لقواعدهم، وتوقف نفر منهم إزاء أحرف قليلة في القراءات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وجدوها لا تطرد مع قواعدهم، بينما تطرد معها قراءات أخرى آثروها... وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي ولا يتخذونه إماما لشواهدهم وأمثلتهم لأنه روي بالمعنى إذ لم يكتب ولم يدون إلا في المائة الثانية للهجرة، ودخلت في روايته كثرة من الأعاجم، فكان طبيعيا ألا يحتجوا بلفظه وما يجري فيه من إعراب، وتبعهم نحاة الكوفة... وأما من حيث القياس والتعليل فقد توسعوا فيهما، إذ طلبوا لكل قاعدة علة، ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم فقد التمسوا عللا وراءها. وقانون القياس عام وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تُفتح الأبواب على مصاريعها ليُقاس على القاعدة ما لم يُسمع عن العرب ويُحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد. وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه. "

 

طبقات البصريين: تضم سبع طبقات، وتعود بدايتها إلى تلاميذ أبي الأسود الدؤلي على الرغم من أن استقلال النحو واستواءه قد تم على يد أحد أعلام الطبقة التي تلتهم، وهو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود:

الطبقة الأولى: تضم تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، منهم:

1- نصر بن عاصم الليثي(89 هـ): يقال له نصر الحروف، لنقطه المصحف نقط إعجام، وقد كان أحد القراء والنحاة والفصحاء، ويعده بعضهم واضع علم النحو. قال ياقوت: كان فقيها، عالما بالعربية، من فقهاء التابعين، وله كتاب في العربية. وهو أول من نقط المصاحف. وكان يرى رأي الخوارج ثم ترك ذلك، وله في تركه أبيات، وقيل: أخذ النحو عن يحيى بن يعمر العدواني، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء. مات بالبصرة. ورُوي عن عمرو بن دينار قال: اجتمعت أنا والزهري ونصر بن عاصم فتكلم نصر فقال الزهري: إنه ليفلّق بالعربية تفليقاً.

2- عنبسة بن معدان الفيل، المهري (كانت وفاته حول المائة الأولى للهجرة): كان أبرع تلامذة الخليل وعنه أخذ ميمون الأقرن، وقد لقب بالفيل لأن أباه كان يروض فيلا لزياد بن أبيه، فغلب عليه اللقب ثم انتقل منه إليه.

3- عبد الرحمن بن هرمز الأعرج(117 هـ): مدني تابعي جليل، كان أعلم الناس بأنساب قريش، وهو وأحد القراء وأحد رجال نافع، يعده بعضهم واضع علم النحو. توفي بالإسكندرية.

4- يحيى بن يعمر العدواني(129 هـ): يقال إنه أول من نقط المصاحف نقط إعجام لدفع التصحيف، وقد " كان من علماء التابعين، عارفا بالحديث والفقه ولغات العرب، من كتاب الرسائل الديوانية، وفي لغته إغراب وتقعر. أدرك بعض الصحابة. وأخذ اللغةَ عن أبيه، والنحوَ عن أبي الأسود الدؤلي. وكان فصيحا، ينطق بالعربية المحضة، طبيعة فيه، غير متكلف". فهو من رواد التصحيح اللغوي ومن المولعين بالغريب، قال ابن سلام:" أخبرنى يونس بن حبيب قال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن؟ قال الأمير أفصح الناس. قال يونس: وكذلك كان ولم يكن صاحب شعر. قال: تسمعنى ألحن؟ قال حرفا. قال: أين؟ قال في القرآن. قال: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأها بالرفع كأنه لما طال عليه الكلام نسى ما ابتدأ به والوجه أن يقرأ (أحبَ إليكم) بالنصب على خبر كان وفعلها.

 قال: وأخبرنى يونس قال: قال له: لا جرم لا تسمع لى لحنا أبدا. قال يونس: فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب، فأخبرني أبى قال: كتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل(ونحن بحضيضه)، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يعمر هناك. فقال فذاك إذًا."

 

الطبقة الثانية: وهي طبقة التأسيس الفعلي لعلم النحو، ومن أعلامها:

1- عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(117 هـ): أخذ عن تلميذي الخليل نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني ونبغ في هذا العلم حتى بلغ الغاية فيه ولذلك يعد المؤسس الفعلي لعلم النحو بمعناه الدقيق، وكان شديد التجريد للقياس، قال ابن سلام(231هـ):" كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل، وكان معه أبو عمرو ابن العلاء وبقى بعده بقاءً طويلا، وكان ابن أبى إسحاق أشد تجريدا للقياس، وكان أبو عمرو أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغريبها... وسمعت أبى يسأل يونس عن ابن أبى إسحاق وعلمه: قال: هو والنحو سواء، أي هو الغاية. قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه يومئذ لضحك به، ولو كان فيهم من له ذهنه ونفاذه ونظرَ نظرهم كان أعلم الناس.

 قال: وقلت ليونس: هل سمعت من ابن أبى إسحاق شيئا؟ قال: قلت له: هل يقول أحد الصويق؟ يعنى السويق.

 قال: نعم، عمرو بن تميم تقولها، وما تريد إلى هذا عليك بباب من النحو يطرد وينقاس."

 كان كثير الاعتراض على الفرزدق في شعره، وفي طبقات ابن سلام بعض تلك الاعتراضات. وقد حضر الفرزدق يوما مجلس ابن أبي إسحاق فقال له: كيف تنشد هذا البيت، وهو من قصيدة طويلة لذي الرُمة:

وعينان قال الله كونا فكانتا... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فأنشده (فعولان)، فقال له عبد الله: ما كان عليك لو قلت: (فعولين) ؟

فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت ونهض فلم يعرفوا مراده، فقال عبد الله: لو قال (فعولين) لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما، ولكنه أراد أنهما تفعلان ما تفعل الخمر".

ثم تدرج الأمر بعبد الله إلى إعنات الفرزدق في شعره نفسه إذ عابه في قوله:

وَعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ ... مِنَ المالِ إلاّ مُسْحَتاً أو مجلَّفُ

فقال له: بم رفعت (مجلف)؟ فقال له: بما يسوؤك وبنوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا.

(وفي هذا الشاهد بهذه الرواية أربعة أقوال: أحدها: أن يكون (مجلف) مرفوعاً بفعل مضمر، دل عليه (لم يدع) كأنه قال: أو بقي مجلفُ.

والقول الثاني: - قول الفراء -: أن (مجلف): مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، كأنه قال: أو مجلف كذلك.

والقول الثالث: - حكاه هشام عن الكسائي - : أنه قال: تعطفه على الضمير في مُسحت.

والقول الرابع - وجدته في بعض كلام أبي على الفارسي - : أنه معطوف على العض: قال: وهو مصدر جاء على صيغة المفعول، كما قال جل وعز: { ومزقناهم كل ممزقٍ}، كأنه قال: وعض زمان، أو تجليف.) كما عابه لأجل الإقواء في قوله مادحا يزيد بن عبد الملك:

مُسْتَقْبِلِين شَمالَ الشَّأْم تَضْرِبُنَا ... بحَاصِبٍ مِن نَديفِ القُطْن مَنْثُورِ

على عَمَائمنا تُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ تُزْجَى، مُخُّهَا رِيرُ

فقال: إنما هو (ريرُ) بالرفع، وإن رفع أقوى، فغضب الفرزدق، وقال: أما وجد لبيتي مخرجا في العربية؟ أما لو أشاء لقلت:

على عَمَائمنا يُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ نزجيها محاسيرِ

ولكني والله لا أقوله، ثم هجاه بقوله:

ولو كان عبد الله مولى هجوته... ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال عبد الله: عذره شر من ذنبه، فقد أخطأ أيضا، والصواب: مولى موالٍ.( لأنه اسم منقوص لا تثبت ياؤه إلا في حالة النصب، وهو هنا مجرور لأنه مضاف إليه.)

2- عيسى بن عمر الثقفي البصري(149 هـ): كان من قراء أهل البصرة ونحاتها، أخذ عن ابن أبي إسحاق وغيره فتأثر بمنهجه خاصة في الطعن على العرب وعدم التسليم لهم، فكان يقول أساء النابغة في رفعه كلمة ناقع على الخبرية للسم، وكان الأصوب نصبها على الحالية، وذلك في قوله:

فبِتُّ، كأَنِّي ساوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ... مِنَ الرُّقْشِ، في أَنْيابِها السُّمُّ ناقِعُ

 (ساورتني: من المساورة، وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. الرُّقْش: جمع رقشاء، وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض)

وعن عيسى بن عمر أخذ الخليل بن أحمد، وهو صاحب كتابي الجامع والإكمال اللذين ذكرهما الخليل في بيتيه:

بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر

وكان مولعا باستعمال الغريب والوحشي معروفا بالتقعير في كلامه، وقد وقع يوما بالسوق ودار الناس حوله يقولون مصروع، فمن بين قارئ ومعوذ، فلما أفاق نظر إلى ازدحامهم فقال: ما لي أراكم تتكأكأون علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني. فسمع أحد الجمع قوله فقال إن جنيته لا تتكلم إلا بالهندية.

3- أبو عمرو بن العلاء(154 هـ): أحد القراء السبعة، هو تلميذ نصر بن عاصم الليثي وأستاذ الخليل بن أحمد، قال عنه ابن سلام إنه كان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وحكى يونس أنه كان أشد تسليما للعرب، وقال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية، والشعر، وأيام العرب.

وقال الأصمعىّ: جلست إلى أبى عمرو عشر حجج، فلم أسمعه يحتجّ ببيت إسلامىّ. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت أن أمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحكى علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميته عربيةً، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلت: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات.

قال له عيسى بن عمر: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني أنّك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنى أنّك تجيز:« ليس الطيبُ إلّا المسكُ» بالرفع، فقال أبو عمرو: نمت يا أبا عمر، وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمىّ إلّا وهو يرفع. ثم أرسلا اليزيدي وخلفا الأحمر للتثبت من العرب، فكان كما أخبر أبو عمرو، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم، بهذا والله فقت الناس.

 

الطبقة الثالثة:

1- الأخفش الأكبر(177 هـ): هو أبو الخطاب أول الأخافشة الثلاثة المشهورين، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته، ولقي الأعراب فأخذ عنهم.

2- الخليل بن أحمد(175 هـ): هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأزدي، ولد بالبصرة، وشب على حب العلم، فتلقى عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهما، ثم ساح في بوادي الجزيرة العربية، وشافه الأعراب في الحجاز ونجد وتهامة، فنبغ في العربية نبوغا لم يسبق إليه، وبلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو. قال الزبيدي: "وهو – أي الخليل-الذي بسط النحو ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى أبعد غاياته، ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفا أو يرسم منه رسما ترفعا بنفسه وترفعا بقدره إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليا، وعلى نظر من سبقه محتذيا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه، وتقلده وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده".

وقال السيوطي: "كان أعلم الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم"، وقال محمد بن سلام: "سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع". فللخليل فضل النهوض بالنحو كما لأبي الأسود فضل تكوينه، نعم قد اتفقت كلمة العلماء على أن الخليل واضع فن الموسيقى العربية، وواضع علم العروض والقافية، وأول من دون معجما في اللغة بتأليفه "كتاب العين" وله بعدئذ مأثرة الشكل العربي المستعمل الآن، وله مؤلفات أخرى في غير اللغة أيضا.

كان رحمه الله في فاقة وزهد لا يبالي الدنيا، بينما الناس محظوظون بها من علمه وكتبه، وجه إليه سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح والي فارس والأهواز رسولا لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى الرسول خبزا يابسا وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال أبياتا مطلعها:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة... وفي غنى غير أني لست ذا مال

3- يونس بن حبيب(182 هـ): أخذ عن أبي عمرو وغيره، وواجه العرب فسمع منهم حتى غدا مرجع الأدباء والنحويين في المشكلات، وكانت له حلقة دراسة في المسجد الجامع بالبصرة يؤمها العلماء والأدباء وفصحاء الأعراب، وله مذاهب خاصة في النحو، منتشرة في كتبه.

 

 

 

الطبقة الرابعة:

1- سيبويه(180 هـ): هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، ولقب بسيبويه "رائحة التفاح" لأن أمه كانت ترقصه بذلك في صغره. هو من سلالة فارسية، ونشأ بالبصرة ورغب في تعلم الحديث والفقه، إلا أنه لحقه التأنيب ذات يوم بشأن حديث شريف من شيخه حماد البصري، قال ابن هشام: "وذلك أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه إنما هذا استثناء، فقال سيبويه: والله لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره" كيونس وعيسى بن عمر، وبرع في النحو حتى بز أترابه فيه، فاحتفى به علماء البصرة التي صار إمامها غير مدافع، وأخرج للناس كتابه الذي أكسبه فخار الأبد، فإنه شاهد صدق على علو كعبه في هذا الفن.

كتاب سيبويه: جمع سيبويه في كتابه ما تفرق من أقوال من تقدمه من العلماء كأبي الخطاب والخليل ويونس وأبي زيد وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم في علمي النحو والصرف، وأكثرهم نقلا عنه الخليل الذي كان لا يمل لقاءه، وأنابه في رواية الفن عنه، فكان كتاب سيبويه سجلا لآراء الخليل في النحو، ولذا كثيرا ما يقول فيه سألت الخليل "وإذا أضمر، وقال: مثلا -سألته- أو حدثني، أو قال لي، إنما يعني الخليل بن أحمد".

وقد ضم إلى أقوال هؤلاء العلماء ما استخرجه بنفسه من القواعد اعتمادا على سماعه من العرب الخلص قال:" وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدِ الله وثناءٍ عليه"، وقال:" إن هذا البيت أنشدناه أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه".

   كَوَّنَ سيبويه كتابه من أقوال العلماء ومما استنبطه هو بنفسه، فكان جماع الفن، شاملا كل ما يحتاج إليه طالبه مع الترتيب والتبويب، ولكل عصر طبيعته المتسقة معه، فترتيب الكتاب على غير المألوف في كتبنا المتداولة بين أيدينا، والإسراف في عناوين أبوابه جاوز الحد فقد بلغت عشرين وثمانمائة، مع الغموض الذي لا يفصح عن المقصود لأول وهلة ومع التداخل في كثير من الأبواب، فمن ذلك على سبيل المثال باب البدل فقد قال: "هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم تبدل مكان ذلك الاسم إلخ، هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول إلخ، باب المبدل من المبدل منه، باب بدل المعرفة من النكرة إلخ، باب من البدل أيضا"، وبعض عباراته الاصطلاحية حلت بدلها عبارات أخرى عندنا، ونظرة أولية إلى مستهله في ترتيب أبوابه وعناوينها واصطلاحاتها كافية في ذلك، قال: "هذا باب علم ما الكلم من العربية، باب مجاري أواخر الكلم من العربية، باب المسند والمسند إليه، باب للفظ للمعاني، باب ما يكون في اللفظ من الأغراض باب الاستقامة من الكلام والإحالة، باب ما يحتمل الشعر، باب الفاعل إلخ".

فلم يك سيبويه في كتابه جمَّاعا لآراء السابقين فحسب، بل له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاويا عناصر الفن كلها، وتبويبه واضعا كل شيء وما يتصل به معه، وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب، فكثيرا ما يقول: والقياس كذا، أو: والقياس يأباه، ويقول: "سألت الخليل عن قول العرب: "ما أمَيلِحَهُ" فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء إلخ".

وفي الحرص على الاعتزاز بالشواهد الوثيقة لدعم الأحكام التي قررها.

شواهده: عني سيبويه في كتابه بالشواهد لتثبيت الأحكام والإذعان بها من القرآن الكريم ونثر العرب والشعر، ولم يجنح إلى الاستدلال بالحديث الشريف شأن أسلافه ومعاصريه وذلك لانعدام الثقة في نقل الحديث بلفظه الوارد عنه -صلى الله عليه وسلم- لتصريح العلماء بجواز الرواية بالمعني، إذ لو وثقوا بلفظه لجرى مجرى القرآن الكريم في القواعد الكلية.

فالقرآن الكريم قد بلغ ما ذكره في الكتاب من أي ما يُرْبِي على ثلثمائة آية، أما الشواهد النثرية فكانت المعين الذي لا ينضب في الاستشهاد لكثرتها والظفر بها عند تلمس الدليل فهي منطق العربي في غداواته وروحاته يرسلها متى شاء، ومن ذلك قوله:" كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم: عسى الغويرُ أبؤسًا". أما الشواهد الشعرية فكثيرة كذلك، فقد قالوا: إن فيه ألفا وخمسين بيتا غير أنه لم يعن -رحمه الله- بنسبة الشعر المذكور إلى قائليه في كثير من الشواهد، سواء ما استشهد به العلماء الحاكي عنهم وما استشهد به هو، لأن بعض الشعر قد روي لشاعرين أو أكثر، وبعضه قديم العهد لا يعرف قائله، فاعتمد على شيوخه فيما استشهدوا به، ونسب الإنشاد إليه، وعلى نفسه فيما سمعه بأذنه. قال الجرمي:" نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا، فأما ألف بيت فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها." ويروي مثل هذا الخبر عن المازني وهما متعاصران، فالنسبة المذكورة الآن في الكتاب حادثة بعد سيبويه إما من الجرمي أو المازني، وسميت الأبيات الخمسون بين العلماء بأبيات سيبويه الخمسين المجهولة القائل.

تقدير الكتاب: لقد دهش الناس عند ظهور الكتاب فجأة على صورته الرائعة الغريبة من سيبويه الشاب، فتسرب إلى نفوسهم الظن في أمانته العلمية، قال يونس:" أظن هذا الغلام كذب على الخليل." فقيل له وقد روى عنك أيضا، فاستحضر الكتاب ورأى ما نقله عنه صحيحا، فقال إنه صدق في جميع ما قال.

عظم شأن الكتاب في البصرة حتى صار علما بالغلبة، فكان إذا قيل في البصرة فلان يقرأ الكتاب فلا يفهم السامع سوى كتاب سيبوبه، بل سموه إكبارا له " قرآن النحو"، وهكذا كان الكتاب أعجوبة الدهر الخالدة فإنه منذ ألف استفرغ عناية العلماء به في الطواف حوله، فمن شارح له ومن شارح لشواهده ومن منتقد له واتخذوا حينا وضع كتاب جديد بعده، ولهذا كان يقول المازني: "ومن أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد سيبويه فليستحي".

ومنذ ألف الكتاب ما فارقه النحو وما تخلف هو عنه بل كانا يقيمان معا ويرحلان معا، فطوف معه وانتقل من البصرة إلى الكوفة، ثم بغداد ثم الأندلس والشام ومصر.

 

2- اليزيدي(202 هـ): هو أبو محمد يحيى بن المبارك، نشأ بالبصرة وتلقى عن أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق والخليل ويونس وغيرهم، ثم اشتهر فضله فيها وعرف باللغة والنحو وأخبار الناس. اختصه هارون الرشيد بأدب المأمون كما كان الكسائي يؤدب الأمين، وصار اليزيدي يدرس في مساجد بغداد كما يدرس الكسائي، فتولدت بين الشيخين المنافسة، وتطلع كل منهما لغلب الآخر، فحدثت المناظرات بينهما، وكان اليزيدي مظفرا في أغلبها. كان اليزيدي مع علمه أديبا شاعرا له مجموعة شعرية فيها شعر كثير في مدح النحاة البصريين وهجاء الكوفيين، وله مؤلفات متنوعة، منها مختصر في النحو.

3- أبو زيد الأنصاري(215 هـ): سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، أحد أئمة الأدب واللغة. وهو من ثقات اللغويين، قال ابن الأنباري: كان سيبويه إذا قال"سمعت الثقة" عنى أبا زيد. معظم تصانيفه لغوية منها: كتاب النوادر، والهمز، والمطر، واللبأ واللبن، والمياه، وخلق الإنسان، ولغات القرآن، والشجر، والغرائز، والوحوش، وبيوتات العرب، والفرق، وغريب الأسماء، والهشاشة والبشاشة.

 

الطبقة الخامسة:

1- الأخفش الأوسط(215 هـ): هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة أوسط الأخافشة الثلاثة المشهورين وأشهرهم ذكرا في النحو فلذا ينصرف إليه الحديث عند ذكر الأخفش مجردا من الوصف في كتب النحو، فإن قصد غيره وجب ضم الأكبر أو الأصغر إليه على وفاق المطلوب. أقام بالبصرة لطلب العلم وتلقى مع سيبوبه عن جل شيوخه سوى الخليل، ثم أخذ عنه بعد المشاركة مع كبر سنه عنه فكان أنحى تلاميذه، وكان ضنينا بكتاب سيبويه لنفاسته حتى ظن به ادعاؤه لنفسه لأن سيبويه لم يقرأه على أحد ولا قرأه عليه أحد ما عداه، قال: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا عرضه علي، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه، فتشاور تلميذا الأخفش: "الجرمي والمازني" على الحيلولة بينه وبين ما ظن فيه بترغيبه في المال إذ كان الجرمي مثريا فقرآه عليه وظهر الكتاب، فليس للكتاب طريق إلا الأخفش، فإليه يرجع الفضل في استبقائه كما يرجع للكتاب الفضل في إقبال العلماء على الأخفش.

لما قفل سيبويه من بغداد بعد خذلانه في مناظرة المسألة الزنبورية استشخص تلميذه الأخفش في طريقه إلى الأهواز لما سبق أنه ولى وجهه عن البصرة خزيا، وشكا إليه بثه وحزنه مما هاضه، فتحرش الأخفش بالكسائي ووصل بغداد في الغلس وصلى خلف الكسائي الغداة في مسجد، ثم سأله أمام تلامذته "الفراء والأحمر" وغيرهما وخطأه في إجابته حتى هم التلامذة بالوثوب عليه فمنعهم الكسائي وقال له: بالله أما أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ فقال: بلى، فقام إليه وعانقه وأجلسه بجنبه وأكرم مثواه، فاستحال تحرشه محبة له وأقام عنده ينعم بالحياة السعيدة الجديدة، وبقي في جواره ببغداد بقية حياته، وصار مؤدب أولاده وقرأ له كتاب سيبويه سرا، وقد تغيرت لذلك عصبية الأخفش حتى وافق الكوفيين كثيرا في آرائهم فكان أكثر البصريين موافقة للكوفيين، وكتب النحو ملأى بالمسائل التي وافقهم فيها، فضلا عن كثير من الآراء التي خالف فيها الفريقين. ومما وافق فيها رأيُه رأي الكوفيين:

- إعراب فعل الأمر وجزمه بلام الأمر المقدرة على أنه مقتطع من المضارع المجزوم بها، قال ابن هشام: "وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفا مستمرا في نحو قم واقعد، وأن الأصل. لتقم ولتقعد، فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة".

- جواز رفع الوصف فاعلا ظاهرا من غير اعتماد للوصف وكذا الظرف قال الرضي"والأخفش والكوفيون جوزوا رفع الصفة للظاهر على أنه فاعل لها من غير اعتماد على الاستفهام أو النفي نحو: قائم الزيدان كما يجيزون في نحو: "في الدار زيد" أن يعمل الظرف بلا اعتماد".

وله مؤلفات كثيرة منها في النحو: المقاييس، والأوسط، توفي ببغداد.

2- قطرب(206 هـ): هو أبو علي محمد بن المستنير، نشأ بالبصرة وتلقى عن "عيسى بن عمر وسيبويه" وغيرهما إلا أن اتصاله بسيبويه أكثر، كان كلما خرج سيبويه من بيته سحرا وجده على بابه فقال له: إنما أنت قطرب ليل، فأطلق عليه ولصق به، حذق الجدل والكلام ومال إلى مذهب المعتزلة النظامية، له تصانيف كثيرة، منها في النحو "كتاب العلل"، توفي ببغداد.

 

الطبقة السادسة:

1- الجرمي(225 هـ): هو أبو عُمر صالح بن إسحاق، نشأ بالبصرة فتعلم عن شيوخها النحو واللغة، وسمع من "يونس والأخفش الأوسط" ولم يلق "سيبويه"، وزامله في عصره وتلقيه المازنيُ، وإليهما انتهت الرياسة النحوية، وسبق أنهما ذوا الفضل في إظهار الكتاب على يد شيخهما الأخفش، كان الجرمي أديبا شاعرا ديِّنا صحيح العقيدة، وله مناظرة مع الفراء، ومصنفاته كثيرة، منها في النحو مختصره المشهور لدعائه له بالبركة، وكتاب "فرخ كتاب سيبويه" ورد بغداد وأقام فيها حتى قضى نحبه.

2- التوزي(238 هـ): هو أبو محمد عبد الله بن محمد مولى قريش من توز "بلد بفارس"، أخذ عن "الجرمي" كتاب سيبويه، واشتهر باللغة والأدب فكان أعلم بالشعر من المازني والرياشي، توفي ببغداد.

3- المازني(249 هـ): هو أبو عثمان بكر بن محمد، ولد بالبصرة، وتربى في بني مازن بن شيبان فنسب إليهم، وأخذ عن "أبي عبيدة وأبي زيد والأخفش" وغيرهم، مع مشاركة رفيقه الجرمي، وما لبث أن صار علم البصرة الخفاق، وبها توفي.

وقال الناس: لم يكن بعد سيبويه أعلم من المازني بالنحو، ساعده على نبوغه قوة بيانه وأدبه، فكان مقدما في الحجاج، وقد تغلب على شيخه الأخفش مع تلقيه عنه.

والمازني على طول باعه أبى التصنيف في النحو إجلالا لكتاب سيبويه، إذ كان يقول:" من أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيي". لكنه ألف كتابا في علل النحو، وكتاب التصريف، وله كتب أخرى في غير النحو.

4- أبو حاتم السجستاني(250 هـ): نشأ بالبصرة، وأخذ عن "أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة" وقرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش، ثم نبه شأنه فانتفع الناس بدراسته، إلا أنه لم يكن حاذقا بالنحو، من مصنفاته إعراب القرآن، وكتاب الإدغام.

5- الرياشي(257 هـ): لقب بالرياشي لأن أباه كان عبدا لرجل من جذام اسمه رياش فانتقل اللقب من أبيه بعد الشهرة إليه. نشأ بالبصرة وأخذ النحو عن المازني وسمع منه كتاب سيبويه، واللغة عن الأصمعي، ثم صار من كبار النحاة واللغويين، له تصانيف ليس منها كتاب نحو، توفي بالبصرة.

 

الطبقة السابعة:

1- المبرد أبو العباس محمد بن يزيد(285 هـ): ولد بالبصرة وأخذ عن "الجرمي والمازني وأبي حاتم" وغيرهم إلا أن أغلب تلقيه عن المازني، ثم نبه قدره في البصرة وانتهت إليه الرياسة حتى قال الناس: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه.

آراؤه في النحو مستفيضة في الكتب. وقد كان غير متقيد برأي المذهبين: البصري والكوفي، متى بدا له رأي آخر.

استشرفت نفسه بغداد فاتصل بالخلفاء والأمراء ينافس ثعلبا إمام الكوفيين ذا المكانة في بغداد فوقعت بينهما العداوة والبغضاء،

وجرت بينهما مناظرات، ودام النفور بين الإمامين حتى لقي المبرد ربه فرثاه ثعلب.

ولقد خلف مصنفات في علوم متنوعة برهنت على أدبه الجم وعلمه الغزير، منها في النحو: المقتضب، وشرح شواهد سيبويه، والرد عليه، وله كتاب الكامل، وفي تاريخ النحاة له: طبقات النحويين البصريين وأخبارهم. توفي ببغداد.

Modifié le: vendredi 6 décembre 2024, 00:07