لم تختلف المدارس النحوية بعضُها عن بعض من حيث الخصائصُ والأسس العلمية هذا إذا سلمنا بتعدد هذه المدارس تبعا لموقعها الجغرافي، وإنما تمايزت لتمايز مناهجها واختلافها في التعامل مع المادة اللغوية ومصادرها تبعا لاختلاف المؤثرات البيئية والفكرية الثقافية، فضلا عما تتسم به اللغة العربية نفسُها من طواعية وقابلية للتأويل والتخريج... إذ رسمت كل مدرسة لنفسها منهجا يميزها عما رسمته الأخرى، وذلك على الرغم من أن الدرس النحوي، واللغوي عامة، كان منذ بدايته إلى عصر الخليل بصري النشأة موحد المنهج، نهل منه الفريقان على حد سواء، إلى أن ألجأت عواملُ خاصةٌ تلميذي الخليل سيبويه والكسائي ومن تبعهما إلى اختلاف السبيل وتباين المنهج.

   وكنا قد وقفنا على ما يمثله العامل السياسي من دور رئيس ونواة مركزية في الخلاف وتوسيع الهوة بين الفريقين، وهو الأمر الذي أذكى الصراع وحفز على تعصب كل فريق لمذهبه فصار التعصب إقليميا ولم يعد نحويا في الغالب، ومثال ذلك ما شهده مجلس الفضل البرمكي وزير هارون الرشيد من مناظرة بين شيخي المدرستين سيبويه والكسائي عُرفت بالمسألة الزنبورية، حيث قضى فيها للكوفة وشيخها الكسائي على حساب البصرة وشيخها سيبويه، ولعل ذلك راجع إلى ما عُرف به المِصران من عثمانية البصرة وعلوية الكوفة، لاسيما أن الكسائي الكوفي كان مؤدبا لأولاد الخلفاء العباسيين خاصة أبناء هارون الرشيد.

   ولعل من مظاهر الخلاف المنهجية خاصة ما عرف عن البصرة من نزوعها إلى الدراسات الفلسفية والكلامية التي أنضجت منه الترجمات جانبا، والصراعات المذهبية جانبا آخر، وغذته روافد الجوار والمجتمع المتعدد العروق والمشارب، وعلى نقيض ذلك الكوفة التي نزعت إلى الدراسات النقلية نزوعا كبيرا فبحكم كونها منزلا للمحدثين والرواة وأصحاب الأخبار والأيام والشعراء والقراء، قلت عنايتها بالدراسات العقلية وزادت هذه العناية بالرواية والنقل. وحين يكون سيبويه في جو البصرة ذاك، والكسائي في جو الكوفة هذا ندرك أثر كل من البيئتين عليهما، يضاف إلى ذلك دراسة سيبويه للفلسفة والمنطق، شأنه في ذلك شأن أغلب رجال مدرسته، إذ صرفته هذه الدراسة إلى منهج في اللغة متأثر بها، يقابله اهتمام الكسائي بالقراءة واختصاصه بقراءة معروفة بحيث توجه إلى الرواية توجها مباشرا.

   ومن اختلاف المنهجين ما عُرف عن البصريين من تشدد في الرواية خلافا للكوفيين المتساهلين الذين أخذوا عن خلف الأحمر وهو بصري بعد موت حماد، إلا أنه كان يلبس عليهم ( ولم يلبس على البصريين ) وينتحل انتقاما لنفسه منهم، ولما صارحهم بما ألقاه إليهم من شعر لم يأبهوا لذلك ولم يصححوا، بل قالوا له:" أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم". أما البصريون فتشددوا في الرواية، ولم يستشهدوا بما كان شاذا، خلافا للكوفيين الذين احتجوا حتى بالبيت وبنصف البيت متوسعين في الرواية وحتى في القياس، بينما لم يقس البصريون إلا على ما كان مطردا.

   وكثيرا ما كان الشاهد من حيث القوة والضعف سببا في الخلاف، ففي كتاب الإنصاف مثلا ينقل أبو البركات الأنباري احتجاج الكوفيين بشاهد في مسألة ما فيرده البصريون لضعفه أو شذوذه أو لكون محل الشاهد فيه ضرورة شعرية أو لكون صاحبه غير معروف أو لعدم إجماع الرواة عليه، ومثال ذلك إبطال الأنباري ما ذهب إليه الكوفيون من إعمال (كما) عمل (كيما) من خلال استشهادهم ببيت عدي بن زيد:

اسمع حديثا كما يوما تحدثَه.... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا.

فقد أبطله بضعف روايتهم، لأن الرواة أجمعوا على روايته بالرفع، والإجماع حجة.

اسمع حديثا كما يوما تحدثُه.... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا.

وبسبب تساهل الكوفيين في الرواية جوزوا التعجبَ من البياض والسواد( ما أبيضه! وما أسوده!) خلافا للبصريين الذين يمنعون التعجب من الألوان كلها بما في ذلك الأبيض والأسود لعدم سماعهم ما يدل على جواز ذلك.

ومن ذلك أيضا تجويزهم ل: خُماس وسُداس وسُباع وثُمان وتُساع قياسا على المسموع وهو: ثُلاث ورُباع، أما البصريون فلم يجيزوا ذلك لأن المسموع على وزن (فُعال) في العدد إنما هو ثلاث ورباع فقط.

ومن ذلك أيضا تجويز الكوفيين دون البصريين عطف المفرد ب (لكن) بعد الإيجاب نظير (بل) بعده، كتجويزهمtriste جاءني زيد لكن عمرو) حملا على (بل) في قولناtriste جاءني زيد بل عمرو) وهي للإضراب، وليس لهم في ذلك شاهد !! حيث حمل الكوفيون (لكن) على (بل)، والحقيقة أنها تستعمل للاستدراك لا للإضراب إلا بشرط النفي كقولنا: (ما جاءني زيد لكن عمرو)

   ومن مظاهر الخلاف أيضا استقلال كل فريق بمصطلحات نحوية خاصة، وهي سمة تميز بها النحاة الكوفيون بشكل خاص لكونهم مسبوقين رغبة في التميز، كتسميتهم حروفَ العطف حروفَ النسق، وتسميتهم الصفةَ نعتا، والنفيَ جحدا، والبدلَ ترجمة، ولا النافية للجنس لا التبرئة، والمفاعيلَ أشباه المفاعيل باستثناء المفعول به...

   وعلى العموم فإن أبرز ما يتسم به منهج البصريين الأخذُ بالقياس، والتحري عن العلة، واصطناع التعليل، واتباع التأويل البعيد، وينبني على هذه الأسس عدم الالتفات إلى ما خالف القياس وإن كان لغة أو قراءة أو شعرا فصيحا. وينبني على ذلك أيضا استخدام العقل والمنطق في تفسير الظاهرة اللغوية، وإن سببَ هذا الاستخدام مخالفة نص مروي!

   وأبرز خصائص منهج الكوفيين الاعتداد بالرواية، والاهتمام بالمنقول والمأثور، واحترام النص قراءةً أو شعرا أو مثلا، والأخذ بقليل من القياس والتعليل، وجر هذا المنهج إلى الأخذ بالشاهد اليتيم والاعتماد عليه، وباللغة المتطرفة وإن خالفت الأكثر، والتمسك بالنادر المروي وإن شذ.

   أما منهج النحاة البغداديين فكان منهجا انتخابيا خلط فيه أصحابه المذهبين، ولذلك ضم الخصائص المنهجيه للمدرستين معا فضلا عن أخذهم بمصطلحات الفريقين. أما فيما يتعلق بالرواية والاحتجاج بالشعر فقد احتج كثير منهم بأشعار الطبقة الرابعة كاستشهاد البغدادي المتأخر محمود بن عمر الزمخشري (538هـ) وهو إمام في اللغة والتفسير بشعر أبي تمام( 231 هـ) جاعلا إياه من علماء العربية معتبرا ما يقوله بمنزلة ما يرويه.

Modifié le: jeudi 5 décembre 2024, 23:54