مصادر المدارس النحوية
لم تختلف مصادر النحو عن مصادر الدرس اللغوي بصفة عامة، ولذلك عول النحويون على ما عول عليه اللغويون مما نُقل مِن كلام مَن يوثق بفصاحته نقلا صحيحا، فركزوا على السماع أو النقل، قال ابن الأنباري في كتاب لُمع الأدلة في أصول النحو:" اعلم أن النقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول بالنقل الصحيح الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة. وعلى هذا يخرج ما جاء شاذا من كلام غير العرب من المولدين وغيرهم، وما جاء شاذا في كلامهم." فهذا الموصوف هو أهم ما اعتمد عليه النحويون -على اختلاف اتجاهاتهم ومدارسهم- وقد فصل ذلك السيوطي أثناء حديثه عن السماع بقوله:" أعني به ما ثبت فى كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكلام العرب قبل بعثته وفى زمنه وبعده، إلى زمن فسدت الألسنة بكثرة المولدين، نظما ونثرا، عن مسلم أو كافر."
فمصادر النحو التي اهتم بها النحاة -على اختلاف أسسهم في الاستقراء والسماع والقياس- متمثلة في: القرآن الكريم، القراءات القرآنية، الحديث النبوي الشريف، كلام العرب الشعري والنثري، وهي مصادر اختلف النحاة في التعامل معها تبعا لمنهج كل نحوي أو مدرسة.
1- القرآن الكريم: المراد بالقرآن الكريم النص القرآني المدون في المصحف، وهو عند اللغويين والنحاة أعلى درجات الفصاحة، لأنه أفصح الكلام وأبلغ التعبير، ولذا وقفوا منه موقفا موحدا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه وقدموه على ما سواه.
2- القراءات القرآنية: القراءةُ لغةً: مصدر (قرأ). وأمَّا القراءات اصطلاحاً، فهي:" علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو النّاقلة ". أي: هي علمٌ ثابتٌ بعزو النّاقلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مصدر له سوى النقل. وذهب الدكتور عبد الهادي الفضلي إلى أنَّها:" النّطق بألفاظ القرآن كما نطَقها النّبي، أو كما نُطِقَتْ أمامه فأقرّها."
أمَّا أبو حيّان الأندلسي، فرأى أنّها:" الوجوه المختلفة التي سمح النّبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة نصّ المصحف بها قصداً للتّيسير، والتي جاءت وفقاً للهجةٍ من اللهجات العربيّة "
ومهما يكن الأمر فإنَّ القراءات القرآنية توزّعت بين المقبولة والشاذة، ولكن ماذا عن هذه القراءات، المقبول منها والشاذ؟ وماذا عن موقف النّحاة منها؟
ينبغي الإشارة إلى أن بعض متقدمي اللغويين والنحاة كانوا يترددون في الاحتجاج بما لم يرد إلا في قراءةٍ، فقد حكم ابن جني(ت392هـ) بشذوذ ( وَدَعَ) ماضي يَدَعُ لعدم سماعها عن العرب في علمه! ولم يخرجها من الشذوذ بقراءة {مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [ الضحى/ 3] التي قرأ بها ابن عباس وعروة بن الزبير، -وودع هنا مثل ترك وزنا ومعنى-، ولا ببيت أبي الأسود الدؤلي:
ليت شعري عن حبيبي ما الذي غاله في الحب حتى وَدَعَه
كما عُرف عن المبرد (ت285هـ) تعصبه لمقياسه النحوي الذي رد به قراءات لم توافق ذلك المقياس، ومن ذلك قراءة نافع { وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعائِشَ}- [ الأعراف/ 10- الحجر/ 20] حيث اعتبر لفظة معائش غلطا ورمى القارئ بالجهل بالعربية، وقال: لو قرئت هكذا وأنا أصلي وراء الإمام لم أصل خلفه أبدا! ومن ذلك أيضا موقفه من قراءة { ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ } [الحج / 15] بتسكين لام الأمر بعد ثم، وقراءة { هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ } [ هود / 78] بنصب أطهر، حيث قال: هذا خطأ فاحش!. فهو قد " أخضع القراءات المشهور منها والنّادر إلى مقياسه النّحوي ضارباً الصّفح عن سنّتها متعلّلاً بضرورة التّحليق بأسلوب القرآن، وحَمله على أشرف المذاهب في العربيّة. إضافة إلى ذلك دعا لتجنُّب الأخذ بالقراءات الشاذة لما في ذلك من ضرر على اللغة والنّحو، ومن هنا كان قوله المعروف:" إذا جعلت النّوادر والشّواذ غرضك كثرت زَلاتك ". ومع ذلك فإنَّ رفض المبرّد بعض القراءات ـ حتّى المشهور منهاـ ووصفه لها باللَّحن، والغلط، والقبح، وعدم الجواز، وحَمْل بعضها على الضّرورة الشعريّة لا يعني أنّه لم يرتض قراءات أخرى، فهو ارتضى كلّ ما وافق مذهبه. فقراءة ابن عباس: { لَم يَمْسَسْهُ نارٌ } [النور/ 24] بعدم إلحاق تاء التّأنيث للفعل مقبولة عنده؛ لأنَّ فاعله مؤنّث غير حقيقي.
وصفوة القول: إنَّ المبرد قَبِلَ ما وافق مذهبه النّحوي، ورفض ما لم يوافقه، ووقف من بعضها موقف الحذر، واحتجَّ لِمَا أخذه أحياناً بالقرآن والشّعر."
غير أن هذه المواقف السلبية لبعض النحاة المتقدمين- خاصة من البصريين- الذين حاولوا إخضاع القراءات إلى قواعدهم وأقيستهم، لا تترجم جملة مواقف النحاة، لأن كثيرا منهم -خاصة من الكوفيين- احترم القراءات مقدما إياها على القاعدة، واتخذها منطلقا للتقعيد لكونها سنة متبعة، فطالما صح سند القراءة وجب الاعتداد بها، لأن السماع مقدم على القياس، وممن عُرف بذلك الكسائي، فهو " كغيره من النّحاة ما كان يطعن في القراءة ـ ولو كانت بعيدةـ بل كان يجد لها مخرجاً يجعلها مقبولة في الاستعمال النّحوي واللغوي"، وقال تلميذه الفراء: اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة القراء أحب إلي من خلافه. وهذا الموقف المذعن للقراءات -ولو كانت شاذة- هو الذي صار إليه النحويون بعد ذلك.
3- الحديث النبوي الشريف: لا شك في كون الحديث النبوي مصدرا من مصادر الدرس اللغوي بصفة عامة ما دام صادرا عن أفصح الخلق -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤثر عن النحويين استبعادهم إياه، غير أن " المشهور بين الباحثين أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها "، فقد شاع بين كثير من الدارسين أن اللغويين قد استشهدوا قليلا بالحديث لكن النحاة على اختلاف مذاهبهم -خاصة من البصريين- لم يستشهدوا به، خلافا لاستشهادهم بالقرآن الكريم وكلام العرب!، وقد كانت حجتهم في ذلك أن كثيرا من الحديث قد روي بالمعنى لا بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن بعض رواته كانوا من الأعاجم، وعلى ذلك درج النحاة، إلى أن خرج على نهجهم بعض الأندلسيين المتأخرين كابن خروف وابن مالك، كما يزعم أبو حيان الأندلسي إذ يقول:" إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل بن أحمد، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك " أي الاحتجاج بالحديث، وهو قول غير سديد يرفضه كثير من الدارسين كأحمد مختار عمر.
4- كلام العرب: يعتبر كلام العرب الأوائل –شعرا ونثرا- أهم رافد عول عليه النحويون الأوائل -على غرار اللغويين- في درسهم بعد أن ضيقوا مجال الاحتجاج بالقراءات القرآنية والحديث النبوي على الرغم مما أحيط به هذان المصدران المنقولان من توثيق في الرواية. ويقصد بهذا المصدر كما -قال السيوطي- ما يوثق بفصاحته من كلام العرب نظما ونثرا قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة في الحواضر ثم البوادي بسبب المولدين، وهذا النوع هو الأعم الأوسع الذي لا يكاد يحد.
غير أن ذلك لا يعني أن النحاة تساهلوا في التعامل مع كلام العرب، إذ ليس كل ذلك الكلام فصيحا، وليس الفصيح منه على درجة واحدة من الفصاحة، ولا يمكن أن يبقى الفصيح فصيحا في كل زمن، وهي حقائق ترتب عنها ما يشبه المسلمات لدى النحاة، فليس كل كلام العرب عندهم حجة، وليست كل القبائل العربية حجة، وليس كلامهم حجة في كل زمن. وقد ركز النحويون –على غرار اللغويين- في تعاملهم مع كلام العرب -بعد أن صرف كثير منهم نفسه عن القراءات والحديث- على ما كان نقيا أصيلا موغلا في البداوة غالبا، وقد وجدوا ضالتهم في الشعر بالدرجة الأولى خاصة ما كان منه رجزا، وفي النثر بدرجة أقل، قال أبو حاتم (248 هـ) للأصمعي(216 هـ):" إنك لتحفظ من الرجز ما لم يحفظه أحد، فقال: إنه كان هَمَّنا وسَدَمنا."
وقد لاقى الشعر اهتماما كبيرا من اللغويين( ومن النحويين) الأوائل –خلافا للنثر-واعتبروه الدعامة الأولى لهم، حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه. وقد كان الكتاب لسيبويه خير ما مثل إقبال النحاة على الشعر خلافا للنثر، بل وللقرآن والحديث، وقد " اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أنها غير منسوبة لامتناع سيبويه عن تسمية الشعراء، لأن منها ما يروى لشاعرين، ومنها ما لم يُعرف قائله لقدم العهد به. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها."
واشترط النحويون -مثلهم مثل اللغويين- شروطا وضوابط لقبول المادة التي يستشهد بها من كلام العرب الأوائل –شعرا ونثرا- كالتقدم في العصر، والبداوة، وعلم قائله بالعربية، وبصحة نسبته إليه، وهي شروط تفاوت المتقدمون من النحاة في الالتزام بها تبعا لاختلاف أسسهم المنهجية، لأن ما يراه البصري ويلزم به نفسه غيرُ ما يراه الكوفي.
وقد تنوعت تلك الضوابط والنطُق الخاصة بفصاحة ما يستشهد به من كلام العرب " فكان منها القَبَلي، والقبلي المكاني معا، ومنها الزماني، والزماني المكاني معا -والصلة بينهما جد وثيقة- ونستطيع أن نوجز تلك النطق في أنه ينبغي -لكي يكون الكلام حجة في العربية- أن يكون صادرا عند نشأته الأولى -أو مرويا- عمن يحتج به من أهل قبائل معينة، في مناطق مكانية محددة، وفي ما لا يتجاوز نطاقا زمنيا معينا."