: الحجاج واللسانيات في النظريات الغربية، الحجاج اللغوي عند أوزفالد ديكرو
الحجاج اللغوي أو اللساني:
نظرية الحجاج اللغوي تطور لنظرية الأفعال اللغوية عند سورل وأوستين، وتداولية إميل بينفست، التي انطلقت من محورية التلفظ في الخطاب، فاللغة لا وجود لها إلا بالتلفظ مشروطا بطرفين: المتكلم والمتسمع، فإن الخطاب لا وجود له بغيرهما.
وتتمثل هذه النظرية بشكل كبير في أعمال أوزفالد ديكرو، وجون كلود أنسكومبر، فالحجاج عندهما لم يعد نشاطا لسانيا من بين أنشطة أخرى، ولكنه أساس المعنى نفسه، وأساس تأويله في الخطاب "نحن إذن إزاء، مفهوم لساني نصي للحجاج، تحققه متواليات من الأقوال/الحجج التي تفضي إلى أقوال أخرى/نتائج.
لقد عمل ديكرو، وأنسكومبر على بلورة المبادئ التي ينهض عليها الحجاج في اللغة، وهي ثلاثة:
المبدأ الأول: الوظيفة الأساسية للغة هي الحجاج.
المبدأ الثاني: المكون الحجاجي أساسي، والمكون الإخباري ثانوي.
المبدأ الثالث: عدم الفصل بين الدلاليات، والتداوليات.
نظرية الحجاج اللغوي عند ديكرو:
بنى ديكرو وزميله أنسكونميبر، نظريتهما في الحجاج اللغوي على اللغة ذاتها، حيث سعيا إلى إثبات تجذّر الحجاج في اللغة، فالخطاب عندهما ليس وسيلة فقط بل غاية، فهو وسيلة إخبارية غايتها التأثير في المتلقي بشكل من الأشكال، فقد أسس ديكرو وزميله مفهوما جديدا للحجاج يختلف عن مفهوم بريلمان وتيتيكاه؛(مفهومهما قائم على تقنيات وأساليب في الخطاب، تكون شبه منطقية، أو شكلية، أو رياضية)، فباعتبار وجود صنفين من الخطابات اللغوية، أحدهما يهدف إلى نقل المعلومة كما هي دون جهد للإقناع بها وغالبا ما تكون أخبارا يومية، أو نظريات علمية يكون فيها المرسل مثل الصحفي يتحرى الصدق والموضوعية، فيكتفي بجهد نقل المعلومة كما هي فقط، أما الآخر فيدعو بنقل الخطاب إلى القيام بفعل أو تركه، وهما يقدمان هذا على مجرد الإخبار في الخطاب(تقديم الحجاجية على الإخبارية)، وقد اهتم الرجلان بمفهوم التوجيه في نظريتهما هذه، إذ حصرا فيه غاية الحجاج ووظيفته، فحينما نقول لشخص ما: إن هذا الطريق جيد معبّد وخالٍ من المطبّات؛ فنحن نوجهه إلى ذلك الطريق، الإخبارية هنا ثانوية بالنسبة للوظيفة الحجاجية. هذه التوجيهات الحجاجية تجعل ملفوظا معينا يتبع ملفوظا آخر، وتوصل إلى نتيجة في الأخير،
منطق اللغة عند ديكرو:
من بين ملاحظات ديكرو أن بين بعض الأقوال اللغوية المتوالية تتشكل تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، تكون تلك المتواليات من الأقوال بمثابة الحجج اللغوية وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج، هذا ما يمنح اللغة سمة المنطقية، من خلال وجود علاقات بين الملفوظات للغة الطبيعية بحيث إذا قبلت تلك الملفوظات نكون مجبرين على تقبل بعضها الآخر، هذا يشبه إلى حدّ كبير المنطق والاستدلال في الفلسفة، لكن وجب التفريق بينهما فالاستدلال عملياته منطقية صرفة مستوحاة من المنطق الأرسطي، حيث يُتوصل إلى النتائج انطلاقا من مقدمات معينة تكون من صفاتها أنها يقينية في حين أن الحجاج لا يعدو أن تكون مقدماته احتمالية، أورد العزاوي مثالا عن ذلك:
1- كل اللغويين علماء
-زيد لغوي
-إذن زيد عالم
2- انخفض ميزان الحرارة
-إذن سينزل المطر
المثال الأول متعلق بالقياس المنطقي نتيجته حتمية، أما الثاني فنتيجته احتمالية. فالأول استدلال والثاني حجاج.
أساسيات نظرية الحجاج اللغوية:
1- نظرية السلالم الحجاجية: تتأسس هذه النظرية على الطرح اللساني للحجة، فالحجاج من هذه الوجهة، مجموعة من العلاقات النصية في الخطاب، والخاصية الأساسية للعلاقة الحجاجية أن تكون درجية، أو قابلة للقياس بالدرجات؛ أي أن تكون واصلة بين سلالم.
واذا كانت العلاقات الحجاجية متدرجة فهذا يقتضي تلازما بين القول والحجة، والنتيجة المترتبة عليه، ومن الممكن تبعا لمقتضيات السياق، وخصوصية المقام أن يصرح بالنتيجة التي أفضت إليها الحجة أولا، فتبقى حينئذ ضمنية استنتاجية.
فالسلم الحجاجي هو الترتيب بين الحجج التي تنتمي إلى فئة دلالية محددة، وهو مشروط بأمرين
1- أن قول/حجة يرد في درجة ما من السلم يكون القول الذي يعلوه دليلا أقوى منه بالنسبة إلى نتيجة القول المراد الإقناع بها، أو الوصول إليها، ويمكن التمثيل لذلك بالشكل التالي:
ف(ب)أقوى حجية من (أ)، و(ج) أقوى حجية من (أ)، و(ب) بالنسبة إلى (ن).
2-إذا كان القول (أ) يؤدي إلى (ن) نتيجة؛ فهذا يستلزم أن القول الحجة (ب) وكذلك القول الحجة(ج) اللذين يعلوان القول (أ) يؤديان إلى النتيجة ذاتها والعكس غير صحيح.
السلم الحجاجي هو علاقة ترتيبية للحجج يمكن أن نرمز لها كالتالي:
ن
د
ج
ب
"ن": النتيجة "ب"، و"ج" و "د": حجج وأدلة تخدم النتيجة، وعندما تقوم الحجج المنتمية إلى فئة حجاجية ما على علاقة ترتيبية معينة فإن هذه الحجج تنتمي إذّاك إلى نفس السلم الحجاجي، فالسلم الحجاجي هو فئة حجاجية موجهة.
مثالا عن ذلك: جملة: عمر ناجح متميز؛ فهو دائم الحضور، دائما ما يراجع محاضراته، فهو مجتهد جدا، هو الأول على مستوى دفعته.
عمر ناجح متميز في دراسته ن-النتيجة
عمر الأول على دفعته ح2-الحجة الرابعة
عمر مجتهد ح3-الحجة الثالثة
عمر يراجع محاضراته ح2-الحجة الثانية
عمر دائم الحضور ح1-الحجة الأولى
تكمن أهمية السلم الحجاجي في معرفة البناء والترتيب الذي أخضعه المحاجّ لحججه بغية إقناع مخاطبه بأمر معين والتأثير فيه، وهي تمثل بامتياز تصور ديكرو في تجاوز المحتوى الخبري؛ فالقيمة الحجاجية لا يتم الحكم عليها بالصدق أو الكذب، لكن قيمة القول الحجاجي تتحدد من كونه يدعم نتيجة ما، ويترتب ضمن تراتبية معينة أساسها قوة وضعف الحجج
2- الروابط الحجاجية: هي روابط تربط بين قولين، أو بين حجتين، وتسند بكل قول دورا معنيا داخل الإستراتيجية العامة للحجاج، فكلمة إذن تقع بين ملفوظين يكون الثاني بينهما نتيجة للأول، وكلمة لكن إذا توسطت ملفوظين فإنها تفيد أن الملفوظ الأول يحمل وجهة حجاجي معاكسة للملفوظ الثاني.
يمكن التمثيل لهذه الروابط بالأدوات التالية (لكن، بل، حتى، إذن، بما أن، لاسيما)
3-العوامل الحجاجية: هي ملفوظات تحاول توجيه الإمكانيات الحجاجية للملفوظات، وأما من حيث تموضعها في الخطاب، فإننا لا نجدها تربط بين متغيرات حجاجية، أو بين حجة ونتيجة ، أو بين مجموعة حجج، ولكنها تقوم بحصر وتنفيذ الإمكانيات الحجاجية التى تكون لقول ما ، وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل: ربما، تقريبا، كاد، قليلا، كثيرا، ما ،إلا، وجل أدوات القصر.
4-المواضع الحجاجية: حسب ديكرو وانسكومبر، فإن الانتقال الخطابي من ملفوظ/حجة/إلى ملفوظ/ نتيجة يتم بتطبيق جملة من المبادئ العامة، اختارا لها تسمية مواضع، والمواضع عندهما ،هي عماد الحجاج، والخلفية التي ينبني عليها النشاط الحجاجي، إنها قواعد عامة مقبولة، جماعيا، تعكس الجهد المبذول من طراف المتكلم لتبرير وضعية ما، أو موقف أو فعل، وجعله مقبولا، الأمر الذي يعني أن كل علاقة حجاجية تتطلب وجود موضع بين الحجة والنتيجة، أي مسارا معين دون غيرها ،يعني اختيارا لتطبيق موضع دون غيره.
5- الاتجاه الحجاجي:
إذا كان الحجاج يقتضي تسلسلات خطابية ، وأشكالا من التتابع تقود إلى استنتاجات ،فإن التوجيه الحجاجي يعني اسناد اتجاه معين لقول ما، بغاية بلوغ نتائج محددة، ولا يخفي أن هذا التوجيه الذي يوسع أو يضيق الاحتمالات الحجاجية ليقودها في اتجاه معين تحدده البنية اللغوية للخطاب، هذا الأخير يتضمن قرائن حجاجية تشكل وسائل لغوية مختلفة يوظفها المتكلم لتوجيه خطابه، وتنظيم العلاقات في حجاجه .
6- القوة الحجاجية :
إن الحجج المنتمية لنفس القسم الحجاجي تتفاوت لأنها ترتبط فيما بينها بعلاقة تراتب، ففيها حجج قوية، وحجج ضعيفة، وهذا التدرج في الحجج هو ما يكسب الحجاج في اللغات الطبيعية إمكانياته الغنية والواسعة، ويجعله مخالفا للبراهين المنطقية والرياضية، فاعتماد الحجاج على الحجة ،وليس على الدليل البرهاني، أو الحجة كما أقرّ ديكرو، تؤكد النتيجة ولا تفرضها مادام الغرض يلغي التعدد كما التفاوت.