أولى العرب قديما الكلام والتخاطب عناية كبيرة، فقسموا وجوه الكلام، ومناسبته، وصفته تناسبا مع متلقيه أيا كان، ومهما كانت طبقته.

1-              الحجاج عند الجاحظ:

للجاحظ دور هام في التأسيس للبلاغة العربية، وقد اهتم الرجل ببلاغة الإقناع، منطلقا من التوجيه المنهجي، فقد كان منخرطا بشكل واضح في زمرة تعتبر أن اللغة والبلاغة هما سلاح المناظرين، والمجادلين الذين يتوخون نصره مذهبهم والإقناع به. لذلك برز في توجهه بهذا بالدور الجسيم للكلام في مقارعة الرأي بالرأي، ومواجهة الخطاب بالخطاب، ما جعل بلاغته مرتبطة بأهداف إقناعية.

          وربط البلاغة بالإقناع تجلى في فكر الجاحظ من خلال العناية الخاصة التي أفردها لوظيفتي الإفهام والإقناع في القول، ثم من خلال تركيزه على عنصري المقام والملتقي/المستمع.

-         الإفهام في بلاغة الجاحظ:

يعرف الجاحظ البيان بأنه «اسم جامع لكل شيء كشف  لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته...لأن مدار الأمر والغاية التي يجرى إليها القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام فبأي بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع».

الإفهام إذا ينطوي على استحضار الآخر من جهة، واعتبار الوظيفة التواصلية للقول من جهة أخرى. وهو وظيفة مركزية للبلاغة من منظور الجاحظ، فلا قيمة للوجوه الأسلوبية «إلا إذا كانت تساعد على الإفضاء إلى البغية، وتعين على تحقيق الغرض، فالجاحظ مقتنع بأن مدار الأمر على البيان والتبيين، وعلى الإفهام والفهم، وكلما كان اللسان أبيّن كان أحمد.

-         الإقناع والحجاج في بلاغة الجاحظ:

انتبه الجاحظ إلى سلطان الكلام، وعارضة الاحتجاج وما لهما من مفعول قوي في الاستمالة، وجلب انخراط المستمعين لذلك ربط البلاغة بالإقناع حيث يقول: «جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة » فالبلاغة تغدو وسيلة للتأثير على المستمع والظهور عليه وإقناعه بالرأي، وقد لخص الدكتور محمد العمري الأغراض الإقناعية التي يحققها القول حسب تصور الجاحظ في:

1.    استمالة القلوب.

2.    ميل الأعناق.

3.    التصديق وفهم العقول.

4.    إسراع النفوس.

5.    الاستمالة و الاضطرار والتحريك وحل الحبوه.

هذه الأغراض ينجزها  الخطاب متى سلم أصحابه من العيّ والحبسة وتوقف اللسان وضيق الصدر.

كل تلك الشروط وغيرها وضعها الجاحظ لتحقيق الحجاج في الخطاب، إضافة إلى مراعاة البعد المقامي الذي له دور هام في الإقناع في بلاغة الجاحظ فهو ليس مظهرا تجميليا أسلوبيا فقط.

2-              الحجاج عند السكاكي:

إذا كانت بلاغة الإقناع لدى أرسطو غير منفصلة عن مشروعه في الجدل والمنطق، فإن رفد البلاغة بالمنطق عند السكاكي، جعل بعض جوانب بلاغته إقناعية، وذلك ما يفصح عنه تصوره للبلاغة ومباحثها، واهتمامه بالمقام والمستمع، وانتباهه للاستدلال واللزوم في البيان.

البلاغة إذا عند السكاكي علم الأدب، وأنواع هذا العلم عنده، هي الصرف وتمامه، وعلم النحو، فهو المعاني والبيان، وأما تمام علم المعاني والبيان فهو علم الحدّ والاستدلال، هذا الاهتمام يتقاطع مع اهتمام الدراسات الحجاجية المعاصرة التي تركز على علاقة البلاغة بالنحو، ولعل أبحاث ديكرو حول الروابط والعوامل الحجاجية تشكل نموذجا دالا على ذلك.

3-              الحجاج عند بن وهب الكاتب:

أبو إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب وكتابه المسمى" البرهان في وجوه البيان"، وقد استند البيان عند بن وهب في كتابه هذا إلى الاستدلال والإقناع، ومن ثم ارتبطت بلاغة بن وهب. وبلاغة الجاحظ بالاتجاه الخطابي، ويظهر الاهتمام بصحة الإقناعية في دفاع بن وهب عن البيان المعرفي، حين اعتبر بأن وجوه البيان تشفّ عن العملية العقلية وتعكس نشاطها.

فهو لا يفتأ على امتداد البرهان يردد بأن الحجة هي الوسيلة المتاحة في تحصيل المعرفة، أو تحقيق الاعتقاد في "التثبت" أو "النفي".

ففي تعريف الجدل يقول: «وأما الجدل والمجادلة فهما قول يقصد به إقامة الحجة فيما اختلف فيه اعتقاد المتجادلين،...» وفي هذا السياق وضح كيف يتقدم البليغ بالحجة في الجدل، «فقد أجمع العلماء، وذوو العقول من القدماء على تعظيم من أفصح حجته، وبيّن حقه (...) ووصف الله عز وجل قريشا بالبلاغة في الحجة، واللّدد في الخصومة فقال عزّ وجلّ: (وتنذر به قوما لدّا) مريم، الآية 97.

فإن بن وهب عضد تفكيره البلاغي بالفلسفة اليونانية، فقدم العقل، واعتمد القياس للوصول إلى الإقناع، وعلى امتداد مشروعه البياني ظل محتفيا بالحجة ومالها في إرساء برهانية وإقناعية البيان عنده. 

Last modified: Tuesday, 3 December 2024, 10:34 PM