أدى ظهور البلاغة الجديدة وانتشارها، إلى الرغبة في إبراز واكتشاف القيمة النوعية المميزة لها في البلاغة العربية؛ بإحياء هذه البلاغة، وتدارس الموروث البلاغي العربي يسمح باكتشاف ملامحا من البلاغة الجديدة فيه، لأنها بلاغة اشتغلت بكل العناصر والمقومات التي تشكل البلاغة الجديدة، وإن كانت البلاغة العربية قد وصفت ببلاغة الأسلوب والعبارة، فإن البلاغة الجديدة قد سلطت الضوء حتى على حجاجية الصورة؛ بالتالي إمكانية نسبة الملامح الحجاجية إليها شرعي، وبما أن البلاغة الجديدة شملت كل الألوان الأدبية، ووزعت قوانينها الحجاجية عليها، فسنفرض أنه كان للعرب وعي في دراسة الخطاب في أبعاده الحجاجية، ونقصد الخطاب هنا كل الألوان الأدبية.

1-              الإقناع قبل الإسلام:

      استراتيجية الإقناع من استراتيجيات الحجاج الفعّالة، والتي من أجلها وُجِدَ الحجاج أصلا، وقد تمظهرت هذه الاستراتيجية في كل الخطابات سواء قبل الإسلام أو بعده، فقبل الإسلام نلفيها حاضرة في السجالات والمناظرات التي كانت بين الشعراء والخطباء قبل الإسلام، واستمر ذلك طبعا بعد الإسلام بشكل قد يكون أكثر تركيزا، لأنه من خلال هذه الاستراتيجية يهمّ المرسل إلى إقناع المرسل إليه بمحتوى خطابه، وقد تمت الإشارة إلى استحضار هذه الاستراتيجية بشكل مركز في الإسلام للرغبة العظيمة في تغيير الفكر والعواطف بدخول هذا الدين الجديد على العرب، فبمجيء الإسلام، كانت الرغبة في بداية الأمر الإقناع به كدين وفكر جديد يجب إتباعه، وبعد ذلك  ظهرت الفرق والنحل، وتوسعت هذه الرغبة، وتعددت اتجاهاتها بتوجه كل فرقة أو نحلة، وبالتالي اتسعت رقعة الإقناع، وظهرت أهميتها القصوى من خلال نجاعتها، لكونها أكثر استراتيجيات الخطاب تأثيرا على المتلقي ونتائجها أدوم وأبقى؛ لأنها تمتاز بحصولها دون إكراه، أو دفع قسري؛ بل تحدث بإقناع المرسل إليه ذاتيا وتكون هذه الاستراتيجية أكثر نفعا إذ اتسعت، إلى جانب قيامها بإقناع المتلقي بإمتاعه؛ فالإمتاع يَهَبُ الخطاب قوة في استحضار الأشياء؛  فتصبح للمتلقي كأنه يراها رأي العين، بالتالي تتنامى قوة الاقتناع لديه، إذ يتأثر عنده الجانب العاطفي، فيؤثر على الجانب العقلي، فيتركز الإقناع عندها.

     بذلك يكون الإقناع والحجاج قد لعبا دورا أساسيا في الحياة السياسية والعقدية العربية والإسلامية، فكان هذا المسار مدخلا لاستحداث علوم جديدة دخلت البنية الفكرية العربية، منها المناظرة بين الفرق الكلامية التي ظهرت أساسا بعد النشاط الحجاجي الذي دار بين أعلام اتجاهات معينة، وكانت علوما لها أصول وأسس معينة تسير عليها، والضابط الأساس فيها هو الحجاج، فقد ظهر داع جديد لتفشي الأساليب الحجاجية، وهو ظهور البلاغة الإعجازية، حيث تنبه علماء الإعجاز إلى إعجاز الخطاب القرآني، هذا المبتغى بالذات يستدعي الاختلاف الذي هو مبدأ ومنشأ الحجاج، فظهرت آراء مختلفة وقد احتكم كل صاحب رأي إلى حجج معينة  تجعل القرآن معجزا في رأيه، من هنا بدأت مسيرة البلاغة العربية من علماء الإعجاز كبلاغة حجاجية، واستمرت عبر مراحلها تستعين بالعناصر الحجاجية في بناء هيكلها، وتقوية مفاصلها، انتقالا مع كل عناصرها طبعا منذ بدايتها المهتمة باللفظ، ومن ثمّ دوره في الحجاج، وصولا إلى الاهتمام بالنظم، ودوره هو الآخر في البناء الحجاجي، إضافة إلى ذلك التمظهر الحجاجي في معاني، وبيان، وبديع البلاغة العربية.

      والحقيقة أن مفهوم البلاغة العربية أصلا له علاقة وثيقة بمفهوم الحجاج، لوجود مصطلحات متعلقة بالبلاغة، يغلب عليها طابع البرهان والحجاج، إضافة إلى تعلق بعض المباحث البلاغية في تحليلاتها بالمنحى الحجاجي، كمباحث التمثيل والاستعارة مثلا.

2-              المفهوم الحجاجي للبلاغة:

شكلت ثنائية التواصل والإبلاغ، والجمال والإمتاع أهم جوانب البلاغة العربية، لذلك ما فتئت التعريفات الخاصة بها، تتمحور حولهما، فنجد الجاحظ يركز في تعريفاته للبلاغة، إضافة إلى جانب الجمال والفن على جانب الحجة والإقناع، فيقول: «جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة»، ليشير بذلك إلى أهمية القيمة الحجاجية، فَيُعْلِمَ  أنها إلى جانب القيمة الجمالية تكمل هدف الخطاب .

     إضافة إلى هذا المفهوم الملتبس بالحجاج المخصص للبلاغة العربية نجد هذه البلاغة تعجّ بالمصطلحات الحجاجية منها: الاحتجاج، الاستدلال، الالجاء، الاستدراج، مجاراة الخصم، البصر بالحجة، وغيرها من المصطلحات ذات الأبعاد الحجاجية.

3-             مظاهر الممارسة الحجاجية في الموروث البلاغي العربي:

إذا كان تصور النظرية الحجاجية قائما على أن «النص جملة من الملفوظات المترابطة حجاجيا في مقام  تواصلي محدد، أي  يمكن تفكيكه وإرجاعه إلى جملة من التقنيات الخطابية التي تؤلف مجموعه المنسجم، بالتالي كل نص بلاغي يقوم المتكلم أو الكاتب بإنتاجه أولا في مقام تواصلي، ثانيا يكون موجها إلى متلقٍ ليتأثر به، ويحمل على إنجازه فعل مرغوب منه، ما يجعله يحتوي قيما معينة، تذعن لها نفس المتلقي، ليكون النص في الأخير كياناً مكوناً من تقنيات حجاجية، وبلاغية إضافة إلى قيم وأفكار، ويتم الوقوف على الأمور السابقة الذكر حتى تثبت حجاجيته، والنصوص بشكل عام تحاول تمييز مفاهيم وترسيخ أخرى، وفي النصوص بكل أنواعها، فنحن بصدد الحديث عن حجاجية النصوص بصفة عامة، وإن كان الكلام موجه إلى النص البلاغي بالتحديد، ففي الموروث العربي كل نص هو إرث بلاغي، سواء أكان خطابة، أم مناظرة، أو شعر، ما يجب توضيحه في هذا المقام احتواء كل هذه الأنواع على جوانب حجاجية، حتى يتم الكشف عن مكامن اعتماد البلاغة العربية على المبادئ الحجاجية.

      هذا الطرح يؤكد استعمال اللغة عند العرب بغرض الإقناع، فقد كان العرب على وعي بالدور الحجاجي لآليات البلاغة من استعارة وبديع وغيرهما من الأساليب البلاغية؛ التي كان لها الدور في تغيير الرؤى، وإذعان المتلقي، ولهذا عرفت الاستعارة الحجاجية بأنها «استعارة تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف الفكري أو العاطفي للمتلقي»، ولعل هذا هو الهدف الأساسي للحجاج.

1- حجاجية الخطابة العربية:

قام محمد العمري بدراسة للخطابة العربية وآلياتها الإقناعية، بالرجوع إلى فهم أرسطو، مع الاحتفاظ بالخصوصية العربية، فحاول توظيف مصطلحات بلاغية من فهم العرب، وأدخلها فيما يناسبها ويستوعبها من نظرية أرسطو، ومنها مسألة مقتضى الحال التي تدخل تحت إطارها اعتبارات الأحوال النفسية للخطيب، والتي اهتم بها أرسطو بشكل مباشر.

2-  حجاجية المناظرة:

تتبوأ المناظرة مكانة مهمة في التراث العربي، فهي بقيمتها المركزية في الثقافة العربية، تمثل إسهاما رئيسيا في التنظير لطرائق الحجاج في التراث، والمناظرة حسب طه عبد الرحمان صورة للحجاج الفلسفي التداولي، باعتباره فعالية استدلالية خطابية، مبناها على عرض رأي أو الاعتراض عليه، ومرماها إقناع الغير بصواب الرأي المعروض، أو ببطلان الرأي المعترض عليه ما يعطي طابع المفاعلة؛ إذا يفاعل بين عارض، ومعترض، يتوجه كل منهما بآليات إقناعية «وكل خطاب استدلالي يقوم على (المقابلة والمفاعلة) يسمى مناظرة» ، وإذا لاحظنا تداولية المناظرة يذهب العارض تحت مسمى الإدعاء، بالرجوع إلى مسميات أفعال الكلام (فعل الادعاء)، ومن شروطه حسب طه عبد الرحمان، أن المدعي يعتقد بصدق ما يدعي.

          ويعدّ الحوار خاصية مباشرة للمناظرة، إذ تتحدد المناظرة بوصفها فعالية حوارية، أساسها التداول حول قضايا خلافية، ويتخذ الحوار «صيغة المواجهة الإقتناعية المباشرة؛ إذ تتدخل فيه ذاتان متقابلتان ضمن مشهد تخاطبي فعلي»، وما يثبت حوارية المناظرة الإسلامية قيامها على نظام الأسئلة والأجوبة التي تستدعي حوارا واضحا، إذ يبادر المعترض بطرح إشكال ويجيب المدعي، أو قد يحدث العكس، وهذا شهير وواضح في المناظرة قديمها وحديثها، مثلا نجد في مناظرةٍ لأبي سعيد  السيرافي، ومتى بن يونس، يبادر أحدهما الآخر بالسؤال مثلا يقول السيرافي: «حدثني عن المنطق ماذا تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه، ورد خطئه على سنن مرضيّ وطريقة معروفة» هذا السؤال إيذان ببداية النقاش وبناء المناظرة، وقد أجابه متى:  «أعني به أنه آلة من آلات الكلام، يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح»، قدّم متى مفهوم المنطق عنده، مختصرا الكلام فيه حاصرا إياه في تقنية من تقنيات الكلام، التي تقيس صحيحه من سقيمه، هذا المسلك استدعى ردا ونقاشا مثيرا لمفهوم المنطق، ولعل هذا يمثل دور السؤال في بناء الهيكل الإفادي للمناظرة، حيث ردّ أبو سعيد قائلا: «أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف، والإعراب المعروف، إذ كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل» وطوّر النقاش انطلاقا من كلام متّى مستأنسا بحجج تقوي طرحه وخطابه قال: «وهبْك عرفت الراجح من الناقص، من طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون إنما هو حديد أو ذهب أو شبه»، وهذه أسئلة أخرى ستفتح فيما يستهل من المناظرة أفاقا أخرى للنقاش، بردّ متّى، وإشكالات أخرى طبعا سيتم طرحها كلما طالت المناظرة، وقد سارت المناظرة في التراث الإسلامي على هذا النسق الذي يعضد القوة الحجاجية ببنية المناظرة؛ حيث نجد المناظرات المتأخرة عن المناظرة الفائتة، تبنى على طرح الأسئلة.

 لذلك تستهل معظم المناظرات بسؤال، وفي جمهرة المناظرات التي جمعها السكوني، يتأكد هذا الطرح إذ تفتح المناظرة بالسؤال؛ وطبيعة السؤال هنا ليست استعلامية لأن المناظر يخمن جواب مناظره، ولكنها تقريرية، والتقرير يكون سؤالا عما تعلمه ليقرّ لك به؛ والقصد منه عموما فتح العرض، وشحذ النقاش.

إضافة إلى فنية السؤال والجواب فنية أخرى تبني الحوار وهي أدوار الكلام، والمقصود منه تناوب المتناظرين على الكلام، كل بدوره، هذا الغرض يجعل المناظرة تسير على نسق معين يجعل نمط بنائها منطقيا، حين يقوم طرف المناظرة الأول (المدّعي) بطرح قضية وسرد أدلتها، ويقوم الطرف الثاني (المعترض) بمنع دعوى المدعي، بسرده هو الآخر لأدلة تمنع تلك الدعوة، طبعا تتفرع أدلته بين أدلة تنقض القضية، وأدلة تنقض أدلة المدعي التي عرضها لإثبات قضيته، هذا ما يصطلح عليه بالمنع، وهو ما جعل صورة المقاربة التنسيقية للمناظرة، والتي تستحضر بقيام هذه المحاورة، والمناوبة بين المعترض والمدعي أكثر وضوحا، توضح هذه التنسيقية في المناظرة المنقولة إلينا كتابيا -وجلّها في كتب التراث- من خلال الفعل قال، فنلفي ناقل المناظرات إلينا يوضح انتقال أدوار الكلام من خلال الفعل: قال، أو ردّ مثلا.

3-  الحجاج والشعر العربي:

الملاحظ أن جلّ الدراسات المتناولة لمسألة الحجاج والشعر، تستهل دراستها بنفس الطرح، وهو الاختلاف حول مسألة وجود علاقة بين الشعر والحجاج، فمن الباحثين من نفى وجود علاقة بينهما وهو مذهب الباحث الأمريكي –تولمين- (toulmin) الذي ذهب إلى أن الشعر والحجاج متعارضان، وعلل رأيه بقوله إن الحجاج يقوم على الابتذال، أما الشعر فيصدر عن رؤية فردية،  وقد قام أبو بكر العزاوي بمناقشة هذا الرأي عندما درس الحجاج في نصوص شعرية قديمة ومعاصرة، كما تبرز في هذا المسار دراسات سامية الدريدي، وفي دراسة أجراها محمد عبد الباسط رأى فيها أن المفهوم المخصص للشعر، جعل ماهيته ووظيفته مختلفتين عن ظرفية الحجاج وعمل الإقناع، في مذهب البعض طبعا، لأن الغرض هنا إثبات عكس هذا الفرض، وتمثُّل وظيفة حجاجية للشعر، وهذا المفهوم حسبه قد رسخته عوامل معينة:

1- هي مسألة نقدية بامتياز، وهي قضية الطبع والصنعة، هذه الإشكالية النقدية أخذت مساحة واسعة في الدراسات النقدية العربية، ما يهمنا في هذا المقام هو تأثيرها على نسبة الحجاج في الشعر  ففي بدايات التخلي عن مبادئ عمود الشعر القديم، وقعت تصادمات بين الشعراء وكذلك النقاد  و«لقد هيمن مفهوم الطبع على ما عداه، مُقْصِيًّا من دائرة الشعرية كل قول يرتكز على التدبير الفكري، وهو ما اختزله الجدل بين القدماء والمحدثين في العصر العباسي في ثنائيتي الطبع والصنعة» ، رفض إدخال عناصر جديدة لمكون القصيدة كعنصر التدبر الفكري، سيجعل الصبغة الحجاجية للنص الشعري تنخفض، وقد أشار محمد عبد الباسط إلى تراجع الوظيفة الحجاجية في النص الشعري، رابطا ذلك ببداية الجدل المنطلق في العصر العباسي بين ثنائيتي الطبع والصنعة.

 2-  الحد الذي خصّ للشعر في التراث العربي، يجعل مسلكه غير مسلك العقل، يخاطب عاطفة المتلقي، ولا يتقدم إلى مخاطبة عقله، فهو: «كلام مخيّل مؤلف من أقوال موزونة، متساوية، وعند العرب مقفاة، والمخيّل هو الكلام الذي تُذعن له النفس، فتبسط عن أمور وتنقبض عن أمور، عن غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا، نفسانيا غير فكري، سواء كان مصدّقًا به أو غير مصدّق»، هذا يجذب صفات المبالغة والحلاوة والكذب، حسب التعبير النقدي (أعذب الشعر أكذبه) ويستبعد الصفات العقلية، والاستدلالية «فالشعر لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجّة، ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة»، بل بالحلاوة والطلاوة، وبديع القول الذي يلمس العاطفة مباشرة دون إعمال الفكر، وقد أشارت سامية الدريدي إلى أن هذا الإقصاء للشعر من دائرة المنطق، وسحب إمكانية إعمال العقل، أنها مسألة متعلقة بتحديد الأجناس الأدبية، فتصور القدماء أن الشعر إذا دخل باب المنطق لاَنَ وضعفت طاقته الشعرية، بالتالي يصير مثل الخطبة تماما.

لعل هذا المذهب نشأ أصلا من دخول الفكر اليوناني في الثقافة العربية، وتأثرها به، حيث ميّز أرسطو بين الخطابة والشعر فجعل الخطابة أقوالا إقناعية، والشعر أقوالا تخييلية، إلّا أن هذا قد لا ينطبق على الشعر العربي، باعتباره شعرا مختلفا عن الشعر اليوناني «فلو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضعها(...) لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية»، إضافة إلى الاختلاف في مهمة الشعر عند الفريقين؛ فحسب الفلاسفة المسلمين إن للشعر إضافة إلى مهمة الإمتاع مهمة الفائدة والقيمة الأخلاقية، وهم لم ينظروا إلى الشعر بوصفه فعلا تطهيريًا خالصًا، بل قرنوا التخييل الشعري بالتصديق البرهاني، بل وأكثر من ذلك ذهب ابن سينا إلى أن الخيالات في الشعر تفعل فعل التصديق، وأن القياس الشعري وإن كان غير مُصدق به، فإنه لا بد أن يجري مجرى القياس المصدق به، بسبب التأثير الذي يحدثه في النفس من قبض وبسط، في حين أنه من المنظور الأرسطي، لا يعدو التخييل الشعري أن يكون مغالطة وتلاعبا بالعقول، وهناك من صنف الشعر في آخر السلم المنطقي، في حين جمع الناقد العربي حازم القرطاجني بين الشعر والخطابة، لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو «إعمال الحيلة في إلقاء الكلام في النفوس بمحل القبول، لتتأثر بمقتضاه» مع الاحتفاظ طبعا بالاختلافات في طبيعة الفنين، ومميزات كل واحد منهما، ثم إن البلاغة العربية قد اهتمت بالكلام وخصائصه وقوانينه بعيدا عن التصنيفات الأجناسية، ومن هنا استأهلت اسم العلم الكلّي على حدّ تعبير حمادي صمود، لأنها تجاوزت ثنائية نثر/شعر إلى ثنائية أعم، كلام بليغ/ كلام عادي.

وقد يحسن القول هنا بوجود بلاغة إقناعية بحتة خاصة، وبلاغة أخرى أسلوبية إقناعية، وفي البلاغة الأسلوبية «لا يحصل الفهم بكليته فيتعطل الإقناع، وقد يصل توقف البلاغة عند حدود الإمتاع، وقد أشار بروتاغوراس بقوله «وهم الشعراء الذين لا نستطيع أن نطلب منهم ما يقصدون بما قالوا»، لأن القول الشعري آفاقه واسعة لا تحصر في معنى واحد، والتسليم بأن الأقاويل إنما تستعمل «في مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء ما، باستقرار إليه، واستدراج نحوه» عندئذ لا يكون التأثير والانجازية في البلاغة الأسلوبية، إلا بحصول الإقناع، ووقوع الأسلوب الشعري من السامع موقع النهوض بالفعل وانجازه.

- توشيح الجمال بالحجاج في الشعر العربي:

إن الشعر العربي يكشف عن توشيح الجمال والإقناع، فهما مرتبطان، لا يكاد أحدهما ينفصل عن الآخر، أو يقوم بغير الآخر، فالجمال خير رافد للإقناع، ولا فضل في حجاج منطقي صارم، يفتقر إلى جمال يوشيه، ويدعم فعله في النفوس.

إن دراسة بنية القصيدة العربية -التقليدية- والتوصل إلى سماتها، ومنها وحدة القصيدة المُرامة في كل النصوص الشعرية، وقد يوطد مفهوم هذه السمة من خلال البحث في الوظائف الحجاجية للقصيدة التقليدية باعتبار «أهم سمة من سمات الخطاب الحجاجي الانسجام، وانعدام التناقض»؛ فمنتج الخطاب إذا أراد لخطابه أن يكون حجاجيا عليه انتقاء أجزائه، والوصل بينها، حتى يصل إلى ذهن المتلقي ويقنعه، وقد ذكر هذا الشرط  في صناعة النظم في نقدنا القديم في غير موضع عند العسكري، وابن رشيق، وغيرهما.

          لعل ما يعطينا مشروعية تصور حجاجية الأقاويل الشعرية، توفرها على حجج في تركيبها، أي بنيتها الداخلية، ومنها:

-الحجاج بالأنموذج: وهو «ضرب من الحجج المؤسسة لبنية الواقع، إنها حجج لا تتأسس على الواقع، ولا تنبني على بنيته، بل هي التي تؤسس الواقع وتبنيه أو على الأقل تكمله، وتظهر ما خفي من علاقات بين أشيائه، وصلات بين مكوناته» وهذا دأْبُ الشعر العربي، إذ يعتمد على هذه التقنية في بناء الواقع، والتأسيس له بواسطة الحالات الخاصة، وجعلها نماذج عامة.

حيث «يتخذ الشاعر أنموذجا معينا، Idol، مثلا أنموذج الفضائل والقيم إذا كان الأمر مدحا، أو فخرا، أنموذج للرذائل والمعايب إذا كان الغرض هجاء، وأنموذجا للجمال والحب إذا كان الغرض غزلا» فهو على حد تعبير أوليفي روبول: «المثال الذي يظهر بمظهر يستوجب تقليده» ومن المؤكد أن لهذه الآلة الحجاجية فنيّات تستند عليها في بناء نفسها.

Last modified: Tuesday, 3 December 2024, 9:06 PM