من أعلام الأدب الجزائري القديم (أحمد بن عمار)
إذا كان المقري قد وجد بعض من ترجم له، وعرَّف به، خاصة بين المشارقة، فإن أحمد بن عمار لم يجد من يفعل ذلك، فقد اكتفى بعض معاصريه وتلاميذه بوصفه بأوصاف الاحترام، كما فعل الورتلاني، وابن حمادوش، وأبو راس، وتلميذاه: إبراهيم السيالة التونسي، وأحمد الغزال المغربي، وكان ابن عمار حريصا على الترجمة لغيره، سواء في كتابه المفقود (لواء النصر في فضلاء العصر)، الذي قيل إنه ترجم فيه لعلماء قرنين، أو في رحلته (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب)، التي تعد في حكم المفقودة أيضا، لولا نبذة منها سلمت من الضياع، فابن عمار إذن، ما يزال -رغم مكانته الأدبية والفقهية- مجهولا، ويكفي لتوضيح جهلنا به، أننا إلى الآن لا نعرف حتى متى ولد، ولا متى وأين توفي، وكل ما نعرفه عنه، أنه من أهل القرن الثامن عشر للميلاد.
لقد أصبح من الضروري، أن نبحث عن حياة ابن عمار، في مختلف المصادر، وأن نلتقط أخباره من هنا وهناك، لعلنا نستطيع أن نقدم صورة واضحة نوعا ما، عن مساهمته في مدرسة النثر الفني، فأقدم مصدر يحدثنا عنه في الجزائر، هو صديقه عبد الرزاق بن حمادوش، في الجزء الثاني من رحلته، حين عده من العلماء المنصفين، الذين لا يحملون حسدا ولا ضغينة. وعلى كل حال، فقد تولى ابن عمار وظيفة الفتوى على المذهب المالكي، وفي (نحلة اللبيب)، ذكر ابن عمار أنه تبادل الشعر ونحوه مع شيخه محمد بن محمد، المعروف بابن علي، وكان أيضا زميلا للحسين الورتلاني، الذي قال عن ابن عمار: «الفاضل بالاتفاق والعلامة على الإطلاق». ونعرف من مصادر أخرى، أن أحمد الغزال المغربي قد جاء إلى الجزائر، في شأن صلح بين الجزائر والمغرب، وحضر درسا لابن عمار في الجامع الكبير، وهو يومئذ متولي الفتوى المالكية، وأعجب بعلمه، فمدحه بقصيدته التي منها: هلموا إلى مأوى المفاخر هلموا إلى الأسمى ابن عمار أحمد
كان ابن عمار محسودا لعلمه، وقلمه، واستقلاله، ونعلم أن بعض العلماء المغاربة الواردين على الجزائر، قد أشادوا به، وقد رفع أبو راس من قيمة ابن عمار كثيرا، فوصفه بأنه شيخنا «الذي ارتدى بالنزاهة يافعا وكهلا، وكان للتلقيب بشيخ الإسلام أهلا.»، ومدحه أيضا بتخريج «الأساتيذ من التلاميذ والفقهاء النحارير والعلماء الجماهير.»، كما مدحه بالنبوغ في علوم الفقه، والحديث، والسند، والأصول، والبيان، بالإضافة إلى الزهد، والنزاهة.
26
ألف ابن عمار عددا من الكتب، التي لم تكن تتماشى مع ما كان يفعله علماء وقته، من عدم الخروج عن الحواشي والشروح، ونحن نذكر ما اطلعنا عليه منها، أو ما وجدناه منسوبا إليه: لواء النصر في فضلاء العصر (في التراجم)، وقد ألفه على ما يظهر في الجزائر، (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب)، حاشية على الخفاجي في شرح الشفاء للقاضي عياض، رسالة في تفسير قوله تعالى: ﴿إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك﴾، رسائل، وإجازات، وتقاريض، وقطع في الوصف ونحوه، ديوان شعر في المدائح النبوية، والوصف،... وغير ذلك.
ما يهمنا في هذا المقام، أن نعرض لرحلته ولطريقته الأدبية وتأثره بغيره، يقول أبو راس في وصف أستاذه: إنه «صاحب الرحلة الجمة الفوائد، حلوة الموائد، عذبة الموارد، الجليلة القدر، المستودع لما يفوت الحصر.». ورغم غموض عبارات أبي راس، فإنها لا تدع مجالا للشك، في أن ابن عمار قد كتب رحلتـه وانتهى منها أثناء حياته، وأنها قد أصبحت معروفة عند الأدباء، وأصحاب الأخبار، وأنه قد أصبح مشهورا بها، حتى أصبح يدعى "صاحب الرحلة". ومع ذلك، فإن هذه الرحلة مفقودة الآن، إلا جزءا يسيرا منها، سماه ناشره "نبذة" من المقدمة، التي وضعها ابن عمار لها.
إن ظروف تأليف هذه الرحلة، مرتبطة بكثرة شوق صاحبها إلى البقاع المقدسة، وكثيرا ما نظم الشعر والموشحات في ذلك، وحين حانت الفرصة للحج اغتنمها، وبدأ تأليفه بمقدمة، تناول فيها ما جادت به قريحته قبل التوجه للحج، وغرض مقصود، تناول فيه ما يحدثه السفر إلى الإياب وحط الرحال، وبمعنى آخر: أن هذا هو أساس الرحلة، ثم خاتمة، خصصها للحديث عما نشأ عن ذلك بعد السكون.
كان ابن عمار عند وعده فيما كتب، فقد بدأ بذكر دواعي تأليف الرحلة وتسميتها، وبيان ضرورة الحج شرعا، مع الاستشهاد بالقرآن، والأحاديث، والأشعار، والتعبير عن شوقه إلى ساكن الحجاز، وتأزمه الروحي، ولكنه استطرد كثيرا في ذلك، بإيراد الأشعار له ولغيره، ثم بالغ في الاستطراد، فذكر عادة أهل مدينة الجزائر في المولد النبوي، وموقف الفقهاء من ذلك، وأطال في ترجمة أحمد المانجلاتي، والشاعر ابن علي، والشريف التلمساني، وذكر الموشحات الطويلة له، ولهم، ولغيرهم، في المولد أيضا، ثم جاء بأشعار من مختلف شعراء المشرق والمغرب، في الأزهار، والخمر،... وفي أغراض أخرى، وهو لا يسوق كل ذلك مرتبا كما ذكرناه، بل كان يذكر الشيء، ثم يقطعه، ويعود إليه، وهكذا. وهذه الطريقة، وإن كانت شائعة بل مطلوبة في عصره، فهي عندنا الآن ممقوتة، لأنها تشتت الذهن، وتوزع الجهد،
27
وتضيع الوقت.
إذا حكمنا من المنشور من الرحلة، ومن بعض رسائله وتقاريظه، فإن ابن عمار كان معجبا بابن الخطيب، والفتح بن خاقان، وكان يهتم بالجملة ومقاطعها، واللجوء إلى السجع في أغلب الأحيان، وتنميق العبارة، ولكن لقوة بيانه، لا يظهر أنه كان يتكلف ذلك، فقد شاعت طريقته بين معاصريه، حتى وصفه أبو راس بأنه «سلس اللسان والعبارة، مليح التصريح والإشارة.»، وكان لا يسجع في تناوله القضايا الدينية، وتوضيح المواقف، وعند الاستشهاد، وما شابه ذلك. وكان السجع عنده، جزءا من الشعر، يلجأ إليه عند وصف أحوال النفس، والحديث عن الأدب، والعاطفة، كما أن السجع عنده، كان مدخلا للتأليف، وميدانا للرسائل.
والواقع، أننا مهما أفضنا في الحديث عن دور ابن عمار الأدبي، فلن نوفيه حقه في هذا المجال المحدود، ومن عوائقنا في ذلك، عدم اطلاعنا على معظم آثاره، التي ما تزال على ما يبدو، موزعة بين الجزائر، وتونس، والقاهرة، والحرمين، ورغم مكانته الأدبية وفكره المستقل، فإن ابن عمار كان إذا حكمنا من آراء معاصريه فيه، مثالا للاستقامة، والتواضع، والأخلاق الكريمة، وقد ترك تلاميذ في كل مكان حل به. وكان ابن عمار موسوعيا أيضا، ولكن الأدب ظل ميزته الأصيلة، رغم براعته وتقدمه في غيره.