يعد أحمد المقري، واحدا من الأدباء الجزائريين، المتميزين بغزارة الإنتاج، والتأثير على المعاصرين، ولو حاولنا الترجمة له ترجمة تقليدية، لضاق المجال، لأن إنتاجه وفير، وحياته خصبة، وتأثيره كبير، وانطلاقا من هذا، سنركز على علاقته بالجزائر، خلافا للمترجمين الآخرين، الذين ركزوا على حياته في المغرب والمشرق، فجعلوه وكأنه لا صلة له بالجزائر وأهلها، وسنعتمد على مجموعة من المصادر، هي ما رواه عن نفسه، وما رواه عنه معاصروه، سيما عبد الكريم الفكون، وعلي بن الواحد الأنصاري.

          ولد المقري ونشأ وتثقف في تلمسان، وظل وفيا لهذا التكوين الأصلي، حتى وهو يتمتع بالجاه والحظوة، في القاهرة ودمشق، بدأ في تأليف كتاب لم يتمه عن تاريخ تلمسان وأهلها، سماه (أنواء نيسان في أنباء تلمسان)، وكان يذكر محاسن تلمسان وجمالها، وهو في المغرب والمشرق، وكان يقارنها بفاس ودمشق، ولا غرابة في ذلك، فهو بالإضافة إلى أصوله العائلية، حيث أجداده ووالده، وجمال تلمسان الطبيعي، كان هناك عمه سعيد المقري ، هذا الأخير الذي أسهم في تكوينه تكوينا أدبيا موسوعيا، بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة.

         على الرغم من وجود كتاب له، مثل: (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) فإن حياته في المغرب ما زالت مجهولة. حقا إن هناك أشعارا وكناشات تنسب إلى المقري في المغرب، وتلقي على حياته هناك بعض الضوء، ولكنها لا تجيب عن كثير من الأسئلة المتعلقة بحياته ونشاطه بالمغرب، ويبدو أن طموح المقري كان بلا حدود، فقد قال عن نفسه:

                      وَلِي عَزْمٌ كَحَدِّ السَّيْفِ مَاضٍ         وَلَكِنَّ اللَّيَالِي مِنْ خُصُومِي

          إن حنين المقري لم يكن لتلمسان وحدها، إذ أنه طالما ردد حنينه أيضا إلى مراتع صباه بالمغرب الأقصى، رغم أن حياته في فاس، جعلته -كما قال- لا يفكر فيها إلا في هم أو هول. والذي يطالع مقدمته لـ(نفح الطيب)، يدرك أن الرجل كان كثير الشوق إلى وطنه، رغم ما وجده في المشرق، ولاسيما في الشام، من حفاوة وتكريم. وكان المقري كثير التمثل بالأشعار، وبعبارة "الحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار "، و"حب الوطن من الإيمان"، وبذلك يكون المقري، من أوائل المثقفين الجزائريين في القرن السابع عشر، الذين كرروا موضوع الحنين إلى الوطن بهذه القوة.

23

          ويبدو أن طموحه والخوف من العودة إلى المغرب، بسبب الأوضاع السياسية المتردية، هما اللذان كانا وراء بقائه في المشرق، أين عاش حياة حافلة بالنشاط العقلي، فقد ألف معظم كتبه هناك، لاسيما موسوعته (نفح الطيب)، وألف عددا من الكتب الدينية في المدينة المنورة، مثل: (فتح المتعال)، واتصل بالوجهاء والعلماء، ولعله اتصل أيضا ببعض الأمراء، ومدح هؤلاء بالشعر، وأظهر حفظه الواسع، وموهبته الأدبية، فوجد تقديرا كبيرا.

          ألف المقري معظم كتبه التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا، عندما كان في المشرق، وباستثناء (أزهار الرياض) و(روض الآس)، فإننا لا نعرف أنه قد ألف في المغرب أو في تلمسان، وقد ألف معظم كتبه الدينية في الحجاز، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق. ولا يُعرف عنه أنه ألف شيئا عندما كـان في القدس، التي أكثر من الترداد عليها.  

          إن أهم كتاب للمقري مطبوع على الإطلاق، هو (نفح الطيب)، الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه، ويبدو أنه كان قد شرع في مشروعه منذ كان في المغرب، ذلك أن موضوع الكتاب الرئيسي، وهو لسان الدين بن الخطيب والأندلس، قد طرقه أيضا في (أزهار الرياض)، حتى أن كثيرا من لوحاته في الكتاب الأخير، قد أعاد إنتاجها في (النفح). أعجب المقري بلسان الدين بن الخطيب، فنسج على منواله، و اتبع طريقته في تحرير العبارة، وانتقاء الألفاظ، والسجع الجميل، وتوشيح النثر بالشعر، وحتى في اختيار عدد من الموضوعات، وقد هدف المقري إلى أن يكون كتابه مرجعا للشعراء، والأدباء، وطلاب الموعظة.

          شرح المقري طريقته، وقال إنه قد أورد فيه النظم والنثر، وأخبار الملوك والرؤساء، سواء في ذلك من أحسن أو من أساء، وذلك للعبرة، كما جاء فيه بالهزل، والمجون، للترويح على القارئ، بالإضافة إلى المواعظ، والنصائح، وحكايات الأولياء، والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أوقعته هذه الطريقة في عدة مزالق، يرفضها الذوق اليوم، كالاستطرادات الكثيرة، والتكرار الممل أحيانا، وذكر القصص، التي ليس لها أهمية، والأشعار الضعيفة، مع إهماله حادثة سقوط الأندلس، كما أنه أثقل عباراته بالسجع، الذي أصبح مع طول الكتاب مزعجا.

          بقي القول، إن المقري رغم أدبه وشعره وطموحه، كان متدينا عن عقيدة، وليس مجاراة لأهل العصر، ولا شك أن النثر الفني، قد تقدم على يديه، في وقت كادت لا تكتب الأقلام غير شروح الفقه، ومنامات التصوف، وكان وراء المقري تراث من أسرته، فجده محمد المقري شيخ ابن خلدون، كان من المؤلفين الأدباء البارزين، وعمه سعيد المقري، رغم عدم

24

شهرته بالتأليف، كان شاعرا وأديبا رقيقا، وكانت تلمسان على عهده بقايا من تقاليد العهد الزياني، كل ذلك كان يمده بتجربة جيدة، في الصياغة النثرية، والأساليب الأدبية. ويعد المقري علاوة على كل الذي قلناه، مجددا وناقلا للمدرسة الأندلسية، من المغرب العربي إلى المشرق العربي، وهذه الزاوية من مساهمته، ما تزال -حسب علمنا- غير مدروسة أيضا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

25

Last modified: Wednesday, 15 November 2023, 10:22 AM