فنون النثر الجزائري القديم (القصص والمقامات)
لم يشع في الأدب الجزائري، ما يسمى بالأدب القصصي إلا قليلا، وتذكر المصادر أن الأدب الشعبي كان غنيا بالحكايات، والقصص التاريخية البطولية، أو الملحمية، ولكنها كانت شفوية، ولا يوجد من المكتوب منها إلا القليل النادر، وكانت تستوحي موضوعاتها من التاريخ الإسلامي، والعربي، وألف ليلة وليلة، وعنترة بن شداد، وسيرة بني هلال، وحتى من تاريخ الجزائر في العهد العثماني، ومن هذا الأخير: قصة غرام عروج مع زافرة زوج سليم التومي، فقد وجد بعض الباحثين نسخة خطية من هذه القصة عند أحد المرابطين، وهو أحمد بن حرام، ولكننا لا ندري ما إذا كانت لغة هذه القصة فصيحة أو عامية.
كانت رواية القصة الشعبية، نوعا من الترفيه الاجتماعي، وكان أداؤها يجمع بين المسرحية أو التمثيلية والحكاية، وكان المؤدون لها، سواء اعتبرناهم ممثلين أو رواة، يؤدونها في الساحات العامة، أو في المقاهي، أو في خيام خاصة، وهم في ذلك، يصعدون على منصة أو يتصدرون الحلقات والجماعات، ويحكون للسامعين بأسلوبهم المؤثر المليء بالمبالغات، ما جرى لأبطالهم من مغامرات وأهوال وانتصارات، وبعد الانتهاء من أداء هذا الدور، تُجمع التبرعات المالية.
مما يؤسف له، أن المصادر المحلية قليلا ما تعرضت أو سجلت هذه الظاهرة الفنية الاجتماعية، فكأن هذه المصادر كانت مترفعة عن تسجيل مثل هذه الآثار الشعبية، فهي لا تسجل إلا أعمال الولاة، وأهل الدين، والعلماء، والأغنياء،... وغير ذلك، ولكن الشعراء الشعبيين، قد تركوا في أزجالهم وقصائدهم الملحونة، تسجيلا لهذه الظاهرة، أما الموضوعات التي كانت تطرقها القصة الشعبية، كانت تُعرض أصحابها إلى غضب السلطة أحيانا، لأن أصحابها كانوا يتحدثون أيضا عن الحرية، والوطنية القبلية، ومناصرة فريق دون فريق، في الخصومات والثورات، بالإضافة إلى الموضوعات المشار إليها آنفا، ومع ذلك، فإن هؤلاء القصاصين كانوا محبوبين، لدرجة أن بعض الضباط العثمانيين، كانوا يستدعونهم إلى المجالس لقص أخبارهم والاستماع إليهم.
20
إذا عدنا إلى المصادر النثرية، التي تسجل القصص والحكايات الشعبية، فإننا لا نكاد نجد من ذلك شيئا، وأقرب صيغة موجودة هي: المقامة. وقد أسهم الجزائريون في هذا الميدان، ولعل أشهر من أسهم فيه منهم، حتى قبل العثمانيين، نذكر: محمد بن محرز الوهراني، صاحب المقامات أو المنامات، غير أن موضوعات الوهراني كانت مشرقية، لأنه عاش معظم حياته الفنية في المشرق.
يعد محمد بن ميمون، أظهر كاتب استخدم المقامة، في ترجمته لحياة الباشا محمد بكداش، والغريب أنه سمى كتابه في ذلك: (التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية)، ولم يسمه مثلا: المقامات المرضية، أو نحو ذلك من التسميات، حتى تتسق مع المحتوى، وقد جمع ابن ميمون ذلك، في ست عشرة مقامة، وجعل كل مقامة عبارة عن فصل من سيرة الباشا وأعماله.
إن عمل ابن ميمون هذا، أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب، أما النواحي الأدبية منه، فهي شكله وأسلوبه، فقد جعله على شكل المقامات، والمقامة من أنواع الأدب، كما أن أسلوبه مسجع رقيق، وأما عنصر الحكاية والخيال الضروري للمقامة الفنية، فيكاد يكون منعدما، لأنه حاول أن يجعل كل مقامة، عبارة عن وحدة قصصية، تخص موضوعا معينا، ولكنه كان مجبرا، وهو يتناول شخصيات تاريخية وأحداثا واقعية، أن يكتب التاريخ لا الأدب، وأن يسجل الوقائع لا الخيالات.
وأقرب مثال إلى المقامة التقليدية، مقامة أحمد البوني، المسماة (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، موضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة، والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات أهل العصر، وهي بدون شك، تقرب في أسلوبها وطريقتها، من أسلوب وطريقة المقامة المعروفة، وفيها كثير من الخيال والإغراب والتهويل، ولكنها مع ذلك، تقص أمرا واقعا، وتذكر أشخاصا حقيقيين، وتقع المقامة في أربع صفحات. ورغم أن صاحبها كان من العلماء الفقهاء، فإن مقامته قد ظهر عليها الطابع الأدبي القوي، والعبارة المتينة، ولكنها تظل تفتقر إلى عنصر الرمز والخيال البعيد.
أما مقامات عبد الرزاق بن حمادوش، فقد جمعت كل ما غاب عن المقامات السابقة، وهي ثلاث كتبها على ما يبدو وهو في المغرب. الأولى سماها (المقامة الهركلية)، وقد وصف فيها مبيته التعيس بأحد فنادق مكناس، المسمى فندق الرحبة، وما سمعه من جلبة وضجيج أثناء الليل الدامس، وتشاجر القوم رجالا ونساء، وختم المقامة بسبعة أبيات شعرا في المعنى نفسه. وتناول في مقامته الثانية، حالته عند خروجه من تطوان وتوجهه إلى مكناس،
21
وقد وصف فيها متاعبه وهدفه من زيارة المغرب، بمرافقة اثنين من التجار، والطريق الصعبة التي مروا بها، والأخطار التي تعرضوا لها، ممن يسميهم العربان، وغرائب ما شاهد أثناء الطريق. أما المقامة الثالثة، فسماها (المقامة الحالية)، وهي رمزية، وصف فيها حالته مع الناس والدنيا والرحلة، وخسارته التجارية، ودنو أجله كما قال نتيجة كل ذلك، وكان ابن حمادوش في هذه المقامة، يتحدث عن شخص رمزي، تعلق بحبه (لعلها زوجته)، ومع ذلك، سببت له التعب والنكد، وختمها كالأولى بالشعر والدعاء.
من الواضح أن مقامات ابن حمادوش، من الوجهة الفنية المحضة، تعد الأكمل والأفضل، إذ لا ينقصها عنصر الحكاية، ولا الخيال، ولا طرافة الموضوع، ولا الرمز، ثم إنها تجمع النثر إلى الشعر، والذي يعيبها في نظرنا، أن ابن حمادوش من الرياضيين والأطباء، وليس من الأدباء، ولكن يكفيه في هذا الميدان، أنه كتب ذلك، في الوقت الذي لم يتناول فيه الأدباء المعروفون، كابن ميمون، وابن عمار، وابن سحنون، وابن علي، هذا اللون الأدبي الطريف.
22