فنون النثر الجزائري القديم (الخطابة)
تعد الخطابة من أبرز فنون النثر في الأدب العربي، وكانت ميادينها وأغراضها متعددة، تشمل: الدين، والسياسة، والاجتماع، والعسكرية،... وغير ذلك، وقد أُلفت في ذلك الكتب، مع وصف دقيق للخطيب، وشروطه، وفن الخطابة، وشروطها، وقد عرف الجزائريون هذا النوع الأدبي، عندما كان ساستهم يتحدثون لغة المواطنين ويحذقونها، وعندما كان علماؤهم متمكنين من قواعد اللغة، متمرسين على استعمالها منذ نعومة الأظفار، فإذا ارتجلوا بها القول أجادوا، مع رباطة جأش، وفصاحة لسان، وقوة كلمة.
مع مجيء العثمانيين، انحصرت الخطابة في ميدان واحد تقريبا، هو الجامع، ذلك أن الساسة كانوا غرباء عن البلاد وأهلها، وعن اللغة التي يفهمها ويتحدث بها الناس، فلا نجد باشا من الباشوات، نهض يخطب في الناس، لا خطبة جمعة، ولا خطبة استثارة للجهاد ونحوه، ولا نجد بايا من البايات، قد خطب في رعيته، يستحثهم على عمل، أو يثير حماسهم لفكرة. كان الباشوات والبايات يتوارون عن الناس، فلا يحدثونهم ولا يخرجون إليهم، فقد يبقى الحاكم ما يبقى، فلا يعرف الناس وجهه، ولا شكله، ولا يسمعون له صوتا، ولا يخرج إلا غازيا أو إلى قبره.
إن صلة الوصل بين الحاكم والشعب، اثنان: الجندي الجاهل، بسلاحه المرعب، وقسوته المتناهية، وشرهه الذي لا يعرف حدودا، والمرابط، الذي يقوم غالبا بدور المسكن للخواطر، والجالب للرعية نحو الحاكم، بأساليبه الصوفية والدينية المتعارف عليها. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك بعض شيوخ القرى وقادة النواحي، ولكن حظ هؤلاء كان في أغلب الأحيان، هو الجمع بين قسوة الجندي وحكمة المرابط.
إذا أبعدنا عن الخطابة الميادين السياسية والعسكرية، فإنه لم يبق أمامنا إلا الميادين الدينية، والاجتماعية، ولا شك أن هذه الميادين ظلت مفتوحة أمام الخطباء في العهد العثماني، فالمناسبات الدينية والاجتماعية كثيرة، وعلى رأسها صلاة الجمعة والعيدين. والخطيب من حيث المبدأ، هو أحد العلماء المعروفين بالعلم واللسن، ولكن هذا الشرط لم يكن دائما متوفرا، فهناك خطباء كان يغلب عليهم العي، حتى كانوا ينيبون غيرهم للقيام بمهمتهم، وهناك من كان الناس يشكون من عدم إبانته، وعدم أهليته لهذه المهمة الجليلة.
17
عدت الخطابة وظيفة من أعظم الوظائف في الدولة، ذلك أن صاحبها كان يجمع إليها الإمامة، وقد يكون من المفتين أيضا، وتُحدثنا المصادر لاسيما التي تناولت حياة العلماء، مثل (تقييد) ابن المفتي، و(منشور الهداية) للفكون، عن جملة الخطباء الذين زانوا الخطبة، وقاموا بها أفضل قيام، كما تحدثوا عن نماذج أخرى، شانت الخطبة، وحطت من قيمتها، فهم إذا رضوا عن أحد العلماء، مدحوه بجودة الخطبة والبراعة فيها، وإذا سخطوا عليه، عابوا عليه النقص في ذلك.
اشتهر مصطفى بن عبد الله البوني بحذق الخطابة وإتقانها، حتى زعم من حضره أنه لم ير أفضل منه في ذلك، من الجزائر إلى مكة، وهذه عبارة محمد بن ميمون في كتابه (التحفة المرضية) فيه، جاء فيها: «يبتدع الخطب جارية الفقر... صدرت له في هذا النوع عجائب أفردته في صنعة الخطابة، وله في الخطب الساعد المشتد، والإلقاء الذي تميل إليه الهوادي وتمتد، والسكينة التي تحدق إليها الأبصار فلا ترتد، ولم أر منذ عقلت بسني، وعلقت خطباته بذهني، أحق منه في طريقة الوعظ والخطابة والإمامة، ولا رأيت من شيوخنا من يتقدم أمامه، لا جرم أنه استحوذ عليها، صناعة استوفى شرطها واستكمل أسبابها... وكذلك هو في وعظه آية من آيات فاطره... زعم من رآه أنه لم يسمع من حضرة الجزائر إلى أم القرى أخطب منه ولا من يدانيه واحد من الأفاضل، لم يكن له بمماثل...».
ولا شك أن الجزائر قد عرفت عددا من هؤلاء الخطباء، أمثال: سعيد قدورة، وسعيد المقري، وأحمد المقري، وعبد الكريم الفكون، وأحمد بن عمار، ولكن خطبهم غير مدونة، فنحن لا نعرف من الخطب المدونة سوى مصدرين حتى الآن، الأول: خطبة أو مجموعة خطب منسوبة لأحمد المقري، والثاني: مجموعة خطب لعبد الكريم الفكون، فقد ذكر الفكون نفسه، أنه هو الذي كتب أول خطبة جمعة للشيخ أحمد بن باديس، ثم أضاف أنها: «مذكورة مع جملة الخطب التي ألفت في غير هذا.»، ولكننا لم نطلع على نصوص هذه الخطب، لنعرف قيمتها الأدبية، واللغوية، وأسلوبها، ويفهم من كلام منشئها، أنها خطب وعظية بلاغية، إذ قال عن الخطبة المذكورة: «ضمنتها التوبة وقبولها وإنعام المولى بها عن العباد، فجاءت حسنة بليغة في معناها.».
كان الخطباء يتفننون في هذه الخطب، فلا يكتفون بالكلام المسجع أو المرسل، بل كانوا يضيفون إلى ذلك بعض القيود، ومحاولة التأثير بها على السامعين، فقد قيل إن سعيد المقري، كتب خطبة عارض فيها خطبة القاضي عياض، التي ضمَّنها التورية بأسماء سور القرآن الكريم، وتبدأ خطبة المقري التي تبدو أنها خطبة جمعة أيضا، بهذا الشكل المذكور في
18
(نفح الطيب): «الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب، سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء وفضلهم تفضيلا»، وهي خطبة مسجعة، يظهر عليها التكلف في أغلبها، وقد كان سعيد المقري خطيبا وإماما في تلمسان مدة طويلة.