احتلت الرسائل في كل عصر، حيزا كبيرا من اهتمام الأدباء، والموظفين، والأصدقاء، والأحباء، ومن العادة أن تقسم الرسائل إلى: رسمية (ديوانية)، وأخرى إخوانية، وقبل الخوض في كل نوع، نود أن نذكر بأن الجزائريين كانوا مكثرين في كتابة الرسائل، وبعضهم كانوا مقلين، وهذا بالطبع يعود إلى مزاج كل أديب، ومدى علاقاته الإنسانية، والاجتماعية، فعبد الكريم الفكون مثلا، كانت له علاقات كثيرة، ومراسلات تبعا لذلك، وكذلك كان الأمر مع أحمد المقري، وسعيد قدورة، وأحمد بن عمار.

          جمع محمد بن محمد القالي بين النثر والشعر، وعبَّر بكليهما، ليصل إلى قلب محمد بكداش باشا ويشكو إليه حاله، فمدح الباشا وحكم الأتراك بأحسن المدح، وهذا ما جعل الباشا يخصص له خراجا من أوقاف سبل الخيرات العثمانية بالجزائر، وقد جاء في رسالة القالي لبكداش: «جل الله تعالى مالك الملك، ومقيم قسطاس العدل بما أراده من إعزاز السادات الترك... جمع سبحانه وتعالى بهم كلمة الدين الحنيف، وآثرهم بهذا الملك الكبير وهذا العز المنيف...»، وبعد هذه المقدمة العامة التي تخص الأتراك وحكمهم، انتقل القالي إلى موضوعه الرئيسي وهو مدح الباشا والدعاء له ولدولته بالنصر والتمكين، وأخيرا يخلص إلى غرضه وهو طلب الإعانة والعطايا، وهذه عباراته في هذا الصدد: «...وبعد، فإن الله تعالى من على المسلمين بسيدنا ومولانا سلطان الملوك والأكابر، المخصوص بأفضل الشمائل والمآثر، الإمام العادل، السلطان الفاضل، العالم العامل... أبقى الله تعالى أيامه، وأصحب النصر والتمكين ألويته وأعلامه، وهو نصره الله، أجل من استعين به فكان خير معين، وأعطى مفاتيح فتلقاها باليمين، وأفضل من امتثل قوله (ص): من فرج على أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب الآخرة...».

          إن سيطرة اللغة التركية على الإدارة في الجزائر، قد جعلت الرسائل العربية لا تظهر إلا في النادر، وهي إذ تظهر، لا يراعى فيها الإجادة، بقدر ما كان يراعى فيها التوصيل والفائدة، وكانت أحيانا تأتي متكلفة ركيكة، لأن أصحابها كانوا يحاولون ما ليس من شأنهم، ولذلك لا نجد من الرسائل الديوانية العربية إلا القليل، ومن هذا القليل: ما تبادله يوسف باشا مع العالم محمد ساسي البوني، فقد أرسل الباشا رسالة إلى العالم، حدثه فيها عن عدوله عن حرب الإسبان بوهران، والتوجه بدلا من ذلك إلى قسنطينة وبسكرة لمحاربة المتمردين، وطلب

12

من الشيخ العمل على جلب طاعة الناس، والقيام بدور العلماء في مثل هذه الأحوال، باعتباره عالم تلك المدينة والنواحي المجاورة لها، ويبدو من الرسالة، أن كاتبها أديب بارع، متمكن من صناعة الإنشاء والأساليب البديعية. وقد رد محمد ساسي برسالة من عنده، طالبا من الباشا العفو على أهالي عنابة ونواحيها، وأخبره بأنه يدعو الله أن يغير من أحوال السوء، وأبدى له الأسف عما وقع ضده. وضمن هذه المجموعة من الرسائل الديوانية، توجد رسالة من محمد بكداش إلى أحمد البوني، حفيد محمد ساسي المذكور آنفا، وقد استهلها بمدح وإطراء الشيخ، والاعتراف له بالعلم والولاية، ثم السؤال عنه وعن أهله وعشيرته، وكان الباشا في الواقع، يرد على رسالة وصلته من الشيخ، ذكَّرته بأيام خوال وذكريات عطرات.

          إذا انتقلنا إلى الرسائل الإخوانية، فإن هناك العديد منها، بعضها قد فقد نصه، ولم تبق إلا الإشارات إليه، في التراجم ونحوها، وبعضها الآخر، ما زال موجودا لحسن الحظ. وممن اشتهر بين معاصريه بكثرة المراسلات مع غيره: أحمد المقري، وعبد الكريم الفكون، وأحمد بن عمار، وكانوا يتبادلون الرسائل في أغراض شتى، كإعراب مسألة، والإخبار بكتاب ألف، والتعزية في فقيد، والتهنئة بحادث سعيد، والاعتذار، والتوصية على قريب،... ونحو ذلك من الأغراض الاجتماعية، وكانوا في العادة، يضمِّنون رسائلهم النثرية بعض الشعر، من البيت إلى الأبيات، ويتنادرون ويظهرون براعة الحفظ، وأحيانا كانوا يجاملون بعضهم البعض، فيكتفون بالثناء والإطراء، على النقد وإظهار الحق.

          كانت لعبد الكريم الفكون، مراسلات مع عدد من علماء عصره، منهم الجزائريون وغير الجزائريين، فقد ذكر هو أنه كان يتراسل مع سعيد قدورة، وأحمد المقري، وتاج العارفين العثماني، وإبراهيم الغرياني التونسي، وأورد المقري في (نفح الطيب)، رسالة بعثها إليه الفكون من قسنطينة، أخبره فيها أنه متجه إلى الله، هروبا من نفسه الأمارة بالسوء، وقد علق المقري على ذلك بقوله: إن الفكون «مائل إلى التصوف، ونعم ما فعل».

          ومن رسائل الفكون أيضا، ما راسل به محمد تاج العارفين، وتذهب رسالته إلى أن الدنيا قد كثر فيها الأشرار، وكسدت فيها أسواق العلم والعلماء. وهي رسالة تذكرنا بنغمة كتابه (منشور الهداية)، الذي كان عندئذ يجمع مادته، فالرسالة إذن من الأدب الوعظي، وهي طويلة تقع في ثلاث صفحات، وفيها الكثير من القدرة الأدبية، واللغوية، والدينية.

 

 

 

13

          وفي رحلة ابن حمادوش، نص رسالة تعزية، عزاه بها المفتي محمد بن حسين عند وفاة أحد أبنائه، وقد اعتذر المفتي عن عدم حضور الجنازة شخصيا، وضمَّن رسالته آيات قرآنية وأحاديث نبوية، في الحث على الصبر والتحمل عند الفجائع، والرسالة مسجعة، ولكنها غير ثقيلة ثقل بعض القطع النثرية حينئذ، ومما جاء فيها قول المفتي: «فقد بلغنا ما أحار الأذهان وأشجاها، وأطار النور من الأجفان وأبلاها، وأضرم لواعج الأشواق، وأذكى زواعج الاحتراق... حتى أدركتني محنتك وموت ولدك فأخذتني الصدمة، وهيجت لي المحنة، فلقد رمانا الدهر بسهام صروفه فأصمانا، وتعهدنا خطبه فهد عروشا وأركانا، فاصبر له صبر الأجواد، إنما صبر الكريم على الرزية أجمل...».

          ولعل فيما ذكرناه من النماذج، للرسائل الديوانية والإخوانية، كفاية في توضيح الصورة التي نحن بصددها، فالأدب الجزائري في هذه الفترة، غني بهذا النوع من التعبير، ونعتقد أن ما ذكرناه من الرسائل ومصادرها، سيكون حافزا للدارسين الآخرين على المضي في طريق البحث والاستزادة.

Last modified: Wednesday, 15 November 2023, 10:14 AM