فنون النثر الجزائري القديم (التقاريظ والإجازات والعقود)
من أشكال النثر الأدبي في الجزائر، نذكر: التقاريظ، وبعض الإجازات، والعقود، والتعازي،... ونحو ذلك، مما كان النثر فيه وسيلة للتعبير دون الشعر. وفي التقاريظ، تسيطر الروح الإخوانية على الأسلوب، وتبرز ثقافة الكاتب الأدبية واللغوية، ولدينا جملة من التقاريظ، التي كان يتناولها العلماء والأدباء على حد سواء، وكانت في موضوعات فقهية، كما كانت في موضوعات أدبية، أو غيرها. أما الإجازات، فتتناول السند، وسرد أسماء الشيوخ، ومواد الدراسة، ولكن صيغة بعض الإجازات، رغم موضوعها وثبوتها على شكل واحد تقريبا، كانت أقرب إلى الأسلوب الأدبي، لأن أصحابها كانوا من أمهر الأدباء، فيضفون عليها طابعهم وذوقهم، وبذلك تصبح الإجازة أيضا قطعة أدبية، من حيث الأسلوب على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، كان الكتاب يتفننون في كتابة العقود، لاسيما عقود الزواج، ويظهرون براعتهم اللغوية والأسلوبية حتى أصبح العقد النموذجي يقلد في المناسبات المشابهة.
في أغلب الأحيان، كان المقرظ يمزج بين النثر والشعر، ويحفل العهد العثماني بعدد من هذه التقاريظ، ونذكر منها: تقريظ أحمد بن عمار (الدرر على المختصر)، الذي وضعه ابن حمادوش في المنطق، وكان ابن عمار من أقطاب الصنعة الأدبية، نثرا وشعرا، لاسيما الشعر، ومما جاء في تقريظه للكتاب المذكور نثرا، قوله:«ناهيك به مؤلفا جموعا، مبذولا خيره لا ممنوعا، قد أحكم فيه الرصف والالتئام، واستخدم لطائف المعاني في بديع الكلام...».
ومادام الطابع الأدبي هو الغالب على ابن عمار، فإن إجازته أيضا قد اصطبغت بهذا الطابع، وقد منح لغيره عدة إجازات، مثل: إبراهيم السيالة التونسي، وعبد الستار بن عبد الوهاب الهندي، ولديه إجازة لمحمد خليل المرادي الشامي، وهي رغم قصرها، جيدة النسج، قوية العبارة، ومسجعة في أغلبها. ونود أن نسوق نموذجا ثانيا من الإجازات الأدبية، ونعني بذلك: إجازة عمر المانجلاتي إلى ابن زاكور المغربي، وهي بالطبع أقدم زمنا من إجازة ابن عمار، واستهل إجازته بالسجع ثم استرسل، فكأن السجع مثل الشعر، يقصده الكتاب للتعبير عن خلجات النفس، فإذا تناولوا الحقائق المجردة، عمدوا إلى النثر المرسل، وهذا نموذج من الجزء المسجع من الإجازة: «وبعد، فقد اجتمعت بالشاب الأديب، الأريب الحاذق اللبيب... فرأيت من حرصه واعتنائه واشتغاله بما يعنيه ما أعجبني... فطلب مني أن أجيزه فامتنعت لأني في نفسي لست من أهل هذا الشأن... فألح علي المرة بعد المرة لظنه الجميل،
10
أني من هذا القبيل... فأسعفت طلبته حرصا على جبر خاطره، خشية من كسر قلبه، فأجزته أن يروي عني ما رويته عن أشياخي من الفنون التي أسردها بشرطها المعتبر، عند أهل النظر...».
وفي رحلة ابن حمادوش، نصوص لعقود زواج مختلفة، منها الفقهي التقليدي، ومنها الأدبي الاجتماعي، ومنها الذي كُتِبَ لبكر، والذي كُتِبَ لثيب، ومنها القصير، ومنها المطول، وجميعها تصلح نموذجا لدراسة الحياة الاجتماعية. ومما أورده ابن حمادوش، كصيغة لعقد زواج بكر، العقد الذي كتبه العالم الأديب محمد بن عبد المؤمن، وقد لاحظ فيه بأن صيغة هذا العقد، قد أصبحت محل تقليد الموثقين عند كتابة عقود الزواج، ومن أبرز من قلد هذه الصيغة: القاضي محمد بن المسيسني، عند كتابة عقد زواج حفيد إبراهيم باشا بالجزائر عندئذ. وهذا جزء مما كتبه محمد بن عبد المؤمن أثناء زواج عبد الرحمن المرتضى، يقول فيه: «وبعد هذا القول الذي أشرقت أنواره في رقم هذا الرقيم، وسقى أرضها الأريضة من در عنصر البلاغة من نثر البراعة ما أبان عن فضل العلم الموهوب من الحكيم العليم، فنمق أديمها بسطره الأبهج، وعطر أنفاسها بتنميق زهره الأبلج... فإن النكاح جالب اليسار، حافظ الحسب والمقدار...». ويشغل العقد من رحلة ابن حمادوش، حوالي خمس صفحات، وكله على هذا النحو من الأسلوب، مع تفصيل الصداق، وتدقيق في ذكر الالتزام من الطرفين، وبعد أن أورده ابن حمادوش، ذكر أن "عليه عادة بلادنا وبمثله جرى العمل عندنا".
ورغم ذلك، فإنه يبدو أن صيغة هذا العقد متكلفة ومصطنعة، مع طول الجملة، واستعمال السجع الثقيل، ورتابة الإضافات، ومن جهة أخرى، فإن تقليده من قبل الموثقين الآخرين، يدل على العجز أكثر مما يدل على الإعجاب به، فقد طغى الأسلوب الفقهي عندهم، فبدا لهم هذا العقد وكأنه شيء عجب، ولعل شمول هذا العقد لنواحي الالتزام ودقته، كانت من بين الأسباب التي جعلته نموذجا عند المقلدين. والذي نخلص إليه، هو أن التقاريظ، والإجازات، والعقود، كانت ميدانا خصبا لإظهار تفوق الكتاب والقضاة، وبيان مقدرتهم الأدبية، بالنثر المسجوع والمرسل.
11