فنون النثر الجزائري القديم (الشروح الأدبية)
من الظواهر التي تلفت النظر في الأدب الجزائري، هي أن الأدباء بدل أن يخترعوا القصص والروايات، أو يؤلفوا في الظواهر الثقافية والنقد، عمدوا إلى شرح الأعمال الجاهزة، ونحن هنا لا نقصد شرح الأعمال الصوفية، والتاريخية، والفقهية، ولكننا نقصد شرح الأعمال الأدبية. والشرح الأدبي، قد يكون على قصيدة نظمها الشارح نفسه، وقد يكون على قصيدة أو عمل آخر لغيره، وقد حفل الإنتاج الجزائري بالنوعين، من ذلك: قصيدة سعيد المنداسي المسماة (العقيقة)، التي تداول على شرحها كل من: أبي راس الناصر، وأحمد بن سحنون، وشرح (لامية العجم) لمحمد بن أحمد بن قاسم البوني، وشروح المواعظ والحكم والحلل الحريرية لأبي راس أيضا، ولعل شرح الشواهد النحوية، يدخل أيضا في هذا الباب، كما فعل عبد الكريم الفكون في شرح شواهد ابن يعلى، ولكننا لن نأتي على كل هذه الشروح هنا، وحسبنا التنبيه على أن أصحابها، كانوا يهدفون من ورائها، إلى خدمة الأدب، واللغة، والبلاغة، مظهرين براعتهم القلمية، والخيالية، ومحفوظاتهم، وذوقهم الفني.
عُرِفَ أحمد بن سحنون، أنه من الأدباء البارزين أوائل القرن التاسع عشر، ويظهر ذلك من تآليفه، ومن تقاريظ أدباء العصر له، أما التقاريظ، فسنذكرها في حينها، وأما التآليف فنعرف منها عددا يشهد له بالحذق والمهارة، ويجعله في صدر أدباء وقته، من شرحه الضخم الذي وضعه على (عقيقة) المنداسي، والذي سماه (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة)، وقد بذل في هذا الشرح جهدا لا يعرفه إلا من وقف عليه، واطلع على ضخامته. و(العقيقة) قصيدة في مدح خير الأنام وصحابته، كتبها المنداسي بالعامية الفصحى أو الفصحى العامية، وهي ليست قصيدة بسيطة، لا في لغتها، ولا في معانيها، لأنها احتوت على تراكيب غريبة، وعلى تواريخ وحوادث، تحتاج إلى توضيح واطلاع واسع، وقد سلك فيها الشاعر مسالك بلاغية معقدة، ومسالك لغوية أكثر تعقيدا، وكان المنداسي ينظم بالفصيح والملحون، وكان مقصده من كتابة العقيقة بالعامية، تقريب معانيها من العامة، مع الاحتفاظ بمستوى لغوي، وأدبي، وتاريخي، لا يدركه إلا الخاصة.
ولولا أن المنداسي من الشعراء العلماء، لما أقدم ابن سحنون على شرحه الكبير، فالقصيدة في نظره، موجهة -بالدرجة الأولى- إلى العلماء، لأن العامي لا يفهمها، وقد أورد للمنداسي أيضا، عدة قصائد من الشعر الفصيح المتين، وكأن ابن سحنون أراد أن يكون في
07
مستوى الشاعر في العلم والأدب، فملأ شرحه بالأخبار الأدبية، والتاريخية، سيما تاريخ الإسلام الأول، الذي تعالجه القصيدة، ولم يقسم الشرح إلى فصول، وإنما شكل كل بيت من (العقيقة) قسما أو فصلا مستقلا، فهو يذكر البيت، ثم يشرحه لغويا وأدبيا، ويأتي إليه بالشواهد والأخبار، وهذا هو سبب الاستطراد والطول، ويدلنا مطلع الشرح، على ذوق ابن سحنون ومراميه، ورغم أن ابن سحنون، قد تمنى أن لا يكون عمله من الدفاتر المهملة، فإننا إلى الآن، لم نقرأ أن هناك من تناول هذا المخطوط الهام بالتعريف أو التحقيق.
ولأبي راس عدة شروح أدبية أخرى -علاوة على شرحه للعقيقة- نذكر منها: شرحه على مقامات الحريري، الذي سماه (الحلل الحريرية في شرح المقامات الحريرية)، وقد ذكر في (فتح الإله)، أن له شرحين من ذلك، هما: الكبير والأكبر، ومهد لشرحه بمقدمة هامة، عن حالة الأدب في عصره، وعن دافعه إلى شرح المقامات، كما ذكر من سبقوه إلى شرحها. والواقع أن عمله هذا، عبارة عن خزانة أدب، أظهر فيه براعته في المحفوظات، وذكر العجائب، والغرائب، واللطائف، والنوادر، والأشعار، والحكايات، من تاريخ الأدب العربي، ولاسيما القديم والوسيط منه، وقلما تعرض أبو راس لأهل عصره فيه.
كما نذكر لأبي راس، شرح قصيدة الصيد المسماة (روضة السلوان)، للشاعر أبو القاسم بن محمد بن عبد الجبار الفجيجي، وهو محشو أدبا وأخبارا ولطائفا، وقد سمى شرحه هذا (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية)، وكان أبو راس يسير في هذا الشرح على النمط نفسه، الذي سار عليه في شروحه الأخرى، فيذكر اللطائف، والغرائب، والفوائد، والتنبيهات، واعتذر في آخر الكتاب، على أنه قد يكون فاتته معاني بعض الكلمات لغموضها وغرابتها. ولأبي راس أيضا، شرح أدبي لغوي هذا موضعه، فقد ألف مسلم بن عبد القادر، كتابا صغيرا في الحكم، والمواعظ، والآداب، والأمثال، رتبه على حروف المعجم، وجعله فصولا مختصرة، لا تدل على براعته المعهودة، ولا على غزارة حفظه.
ولا شك أن هناك عددا آخر من الشروح الأدبية، التي تتناول قصائد أو مقامات أو نحوها من الأعمال، ذات الطابع اللغوي والبلاغي، ولم نقصد بذكر النماذج السابقة، سوى إعطاء فكرة عن الميادين التي كان النثر الفني يستعمل فيها، فالأدباء كانوا يظهرون براعتهم في عدة ميادين، ومنها الشروح الأدبية، التي كانت تعطيهم فرصة لاستعراض محفوظاتهم، وذوقهم الأدبي والنقدي، ومدى اطلاعهم على تاريخ الأدب والحضارة بوجه عام، وكان هؤلاء الأدباء، لا يقصدون إلى السجع، إلا في المقدمات أو الديباجة للعمل الذي يدرسون، فالعبارة
08
عادة مرسلة، مع طول الجملة، وتعثرها أحيانا بالاعتراضات والاستطرادات، كما أن الشروح الأدبية تعكس ثقافة العصر، فأصحابها كانوا غالبا ما ينمقون أسلوبهم بالمأثور من العبادات الدينية والحكمية. ومهما كان الأمر، فإن هذه الشروح في نظرنا، تمثِّل شكلا من أشكال النثر الأدبي، الذي شاع في العهد العثماني.
09