النثر الجزائري في القرن الخامس عشر للميلاد
يقصد بالنثر في هذه المحاضرة، النثر الفني أو الأدبي، وهو يشمل: المقامات، والرسائل الرسمية (الديوانية)، والرسائل الإخوانية، والوصف، والتقاريظ، والتعازي، وعقود الزواج التي تفنن فيها أصحابها، والإجازات المنمقة، والشروح الأدبية، والقصص، والخطب. وكان الأدب الجزائري في العهد العثماني، غنيا ببعض هذه الفنون، كالرسائل، ولكنه في المقابل، كان فقيرا في بعضها، كالخطب، والقصص.
إن معوقات نمو اللغة وانتشار الأدب، كانت أقوى من المشجعات، فالولاة كانوا لا يفقهون العربية، ولا يتذوقون أدبها، ولا نتوقع ممن هذه حالته، تشجيع الأدباء والشعراء، وتذوق إنتاجهم وتقديره، حقا إننا وجدنا بعض الباشاوات، مثل: محمد بكداش، يجمع حوله نخبة من المثقفين، باعتباره كما قيل: "قد جمع النظم، والنثر، والخطابة، والشعر"، ولكن حكمه لم يزد عن ثلاث سنوات، وشجع الباي محمد الكبير، حركة النسخ والتأليف بالعربية، فازدهرت هذه الحركة في عهده، وظهرت أسماء من الأدباء والعلماء، كانوا مدينين له بالمساعدة المادية، ولكن الحركة اختفت باختفائه.
بالإضافة إلى ضعف مستوى الثقافة، وإلى منافسة اللغة التركية وبعض اللغات الأوربية، التي كان بعض الباشوات يتقنونها، فإن هناك بعض اللهجات المحلية، التي كانت أيضا تزاحم اللغة العربية، فبعض مناطق الأوراس، وجرجرة، وميزاب، كانت تتكلم اللهجات المحلية، ولم يكن هذا مقصورا على الطبقة العامة، بل كان موجودا عند العلماء أيضا، فالورتلاني يحدثنا أن هناك من كانوا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتناولون التصوف باللهجة المحلية، وقد تمنى هو أن يكون كلامهم بالعربية، حتى تُدْرَكَ حلاوته، وقوة إبداع أصحابه، وضرب لذلك مثلا بـ: علي بن درار وسعيد القاني.
يضاف إلى ذلك، أن الفئة المثقفة، قد انحصر نشاطها في بعض الوظائف الرسمية، التي لا علاقة لها بالأدب، وتذوُّقه، وتشجيعه، فالقضاة، والمفتون، والمدرسون، كانوا راضين بالمستوى الذي كانوا عليه، ولم يكونوا يطمحون إلى مستوى أفضل منه، لعدم الحاجة إليه، بل إن الباشوات والولاة عموما، كانوا يفضلون المستوى الثقافي الأدنى على المستوى الأعلى، لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا مثقفين، وكان يرضيهم من الموظف، أن يكون في مستواهم أو أقل منهم، أما الجزائريون الطموحون إلى المزيد من العلم والأدب وذوو المواهب
05
الدفينة، الذين كانوا راغبين عن الوظائف الجامدة، والتبعية الذليلة، فقد اختاروا طريق الهجرة، إلى حيث يجدون الرعاية والاعتراف بإنتاجهم وفضلهم، وكان هذا مصير أديبين كبيرين، هما: أحمد المقري، وأحمد بن عمار، كما كان مصير الشاعر سعيد المنداسي.
لقد أدى موقف الولاة، ومنافسة اللهجات واللغات، وشيوع الجهل، وضعف المستوى الثقافي، وجمود الوظيفة، وهجرة أصحاب المواهب، إلى شيوع اللحن على ألسنة الكتاب والمدرسين، حتى من الذين لم نتوقع منهم ذلك، لكثرة تآليفهم ووفرة علمهم، أمثال: أبي راس الناصر، وقد تحدث هو عن هذه الظاهرة في الإنتاج، كما تحدث عنها أحمد بن سحنون، والورتلاني، وشاع الخطأ، خصوصا في الشعر، حيث كثر ما يسمى بالشعر الملحون، والشعر الفصيح المكسور، وكان اللجوء أحيانا إلى الشعر الملحون أو الشعبي، يبرره التلغيز الذي يقصده الشاعر، ليغطي هجومه على الأوضاع السياسية، والأخلاقية، وكان بعض الشعراء يتبسطون لكي يسهل على العامة فهم مرادهم، وقد احتج أبو راس في شرح (العقيقة)، بأن محمد الهواري كان يلحن في كتاباته، وأن المنداسي قد كتب بالملحون، ولم يكن عاجزا عن الإعراب، وإنما نظم العقيقة بالشعر الملحون، «لتسهل للعوام كما تسهل للخواص.» (من كتاب: شرح العقيقة لأبي راس، ورقة 4-5، مخطوط باريس رقم: 5028).
06