تسعى هذه المحاضرة، لدراسة التراث الثقافي في الجزائر، خلال القرن الخامس عشر الميلادي (ق 9ﻫ)، بوصفه التركة التي ورثها العهد العثماني، فإنتاج هذا القرن كان في الواقع خاتمة لإنتاج فترة امتدت ثلاثة قرون، مبتدئة بعهد الموحدين، وكان في الوقت ذاته، فاتحة لإنتاج عهد العثمانيين بالجزائر، وهو العهد الذي انتهى بدوره سنة 1830م، وأثناء دراستنا لإنتاج هذا القرن، سيتضح أنه كان حلقة بين إنتاج عاش في ظل إمارات ضعيفة، وإنتاج عاش في ظل حكم (احتلال) إسلامي مركزي قوي.

          يُعَدُّ إنتاج القرن الخامس عشر، من أوفر إنتاج الجزائر الثقافي، ومن أخصب عهودها، بأسماء المثقفين والمؤلفات. وفي إحصاء سريع لأسماء العلماء المنتجين خلال هذا القرن، وما يليه من قرون ثلاث، نجد أن عددهم فيه يفوق أعدادهم في القرون الباقية متفرقة، ولاسيما القرن العاشر، الذي عرف نقصا كبيرا في عدد العلماء، وفي المؤلفات لأسباب عديدة.

- المؤثرات المختلفة في الحياة الثقافية:

          على الرغم من أن هذا القرن، كان عهد إنتاج ثقافي وفير، فإنه على المستوى السياسي، كان عهد اضطراب وتدهور، ذلك أن الحدود السياسية لجزائر هذا القرن، لم تكن مضبوطة وثابتة، وكلمة الجزائر عندئذ، لم تكن تطلق إلا على مدينة ساحلية صغيرة، ولم تكن تعني بأية حال، القطر الجزائري المعروف الآن، فهذا المفهوم لكلمة الجزائر، لم يصبح معروفا إلا منذ القرن السادس عشر، أي أثناء الحكم العثماني، وتُثبت خريطة القرن الخامس عشر السياسية، أن المغرب العربي كان تحت نفوذ ثلاث دول رئيسية، هي: المرينية، والزيانية، والحفصية. الأولى، كانت تحكم ما هو الآن المغرب الأقصى، والثانية تحكم ما هو الآن الجزائر، والثالثة تحكم ما هو الآن تونس. وكان جزء كبير من الشرق الجزائري اليوم، تحت هيمنة الدولة الحفصية، وكان ما يعرف اليوم بالغرب الجزائري، تحت نفوذ الدولة الزيانية التي اتخذت قاعدتها تلمسان. أما وسط القطر الجزائري الحالي، فقد كان منطقة عازلة بين الحفصيين والزيانيين، ومن ثمة كان منطقة صراع دائم بين القوتين، ولذلك ظهرت فيه إمارات

02

محلية صغيرة، كانت تحتفظ بحيادها أحيانا، ولكنها كانت في أغلب الأحيان تتبع الأقوى.

          يضاف إلى هذا التطاحن الإقليمي، تطاحن عائلي مرير وطويل، فكل أسرة من الأسر المذكورة، كانت في خصومة داخلية مستمرة على الملك، ولم يقتصر هذا الصراع على الإقليمية، بل تعداه إلى الطابع الدولي، ذلك أن عددا من ثغور المغرب العربي، قد احتلها البرتغاليون والإسبان، وأصبحت الثغور الأخرى، وحتى المدن الداخلية، مهددة باحتلالهم، وقد أصبح هؤلاء الأجانب، يتدخلون في الشؤون الداخلية لكل إقليم من الأقاليم الثلاثة، ولكل أسرة من الأسر الحاكمة.        

          كان لهذه الاضطرابات السياسية، وسوء الأحوال الاقتصادية، عاقبة وخيمة على الحياة الثقافية، فهاجر بعض العلماء إلى المشرق والمغرب، وربط آخرون منهم مصيرهم ببعض الأمراء، بينما انزوى بعضهم مفضلا عيشة الزهد، والهروب من نوائب الدهر، صنيع: عبد الرحمن الثعالبي، وتلميذه أحمد بن عبد الله الزواوي الجزائري. وقد خسرت الحياة الثقافية في الجزائر الكثير، من هجرة عالم جليل هو أحمد بن يحيى الونشريسي إلى فاس لأسباب سياسية، والأسباب نفسها حدت بالمفكر محمد بن عبد الكريم المغيلي، إلى الهجرة للسودان القديم. ومن العلماء الذين هاجروا إلى المشرق وتوفوا به، نذكر: الفضل محمد المشدالي البجائي، وأحمد بن يونس القسنطيني.

          ووسط هذه الحالة السياسية المضطربة، كانت هناك بعض المدن تنمو بعدد سكانها، وتشع بمدارسها ومساجدها ثقافة، يتغذى منها المجتمع روحيا وعقليا، ومن هذه المدن نذكر: تلمسان، وقسنطينة، وبجاية، ومازونة، ووهران، والجزائر، وعنابة، وبسكرة، ففي كل مدينة من هذه المدن، عائلات اشتهرت بالعلم، والتأليف، أو بالزهد، والتصوف، ومن هذه العائلات: عائلة المقري، والعقباني في تلمسان، وعائلة ابن باديس في قسنطينة، وعائلة المشدالي في بجاية، وعائلة ابن السكات في الجزائر.

          كان لهجرة الأندلسيين، أثر كبير على المجتمع الجزائري من جميع النواحي، ولعل هذا القرن قد شهد أكبر موجة من موجات هذه الهجرة، ففيه اشتدت وطأة الإسبان على بقايا المسلمين في الأندلس، وفيه سقطت آخر قلعة لهم هناك سنة 1492م. وهكذا كانت المأساة الإنسانية في الأندلس، خيرا وبركة على مجتمع المغرب العربي، فقد احتكر الأندلسيون ميدان التعليم، ونقلوا طريقتهم الخاصة بهم، فلم يقتصروا على تعليم الصبية حفظ القرآن، بل أضافوا إليه تعليم الحديث، والقواعد العامة لمختلف العلوم، كما علموا روايات القرآن، وأنواع قراءاته،

 

03

وقد شمل التأثير الأندلسي أيضا، ميادين النحو والأدب والعلوم والموسيقى.

          أما عن الحالة الأدبية في هذا القرن، فقد كان الشعر وفيرا، غير أن روح التصوف قد طغت عليه، فلا نكاد نجد عالما، إلا وله قصيدة يسمونها غالبا منظومة، في موضوع ديني، أو صوفي، أو في رثاء متصوف أو زاهد، وما شاكل ذلك. أما النثر، فقد ظل يشع من وقت لآخر، في المقدمات السجعية التي كان الكتاب يتفننون فيها، وفي الإجازات التي كان العلماء يتلقونها عن بعضهم، وفي الرسائل الإخوانية التي كانوا يتبادلونها، والرسائل السلطانية التي كانوا ينشئونها ويتصنعون فيها، وفي غير ذلك من الآثار المكتوبة.

 

ملاحظة: للاطلاع أكثر، على واقع الحياة الجزائرية في القرن الخامس عشر: ينظر . أبو القاسم سعد الله . تاريخ الجزائر الثقافي . دار البصائر . الجزائر . الجزء الأول ( 1500م - 1830 م ) . 2007 م .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

04

Last modified: Wednesday, 15 November 2023, 10:06 AM