الشعر الشعبي الجزائري القديم
إن الهدف من الحديث قليلا عن الشعر الشعبي أو الملحون هنا، هو تحديد علاقته بالثقافة، وتحديد علاقتها به، وليس الغرض دراسة هذا الشعر في حد ذاته، لأن ذلك يهم غيرنا أكثر، ذلك أن الثقافة التي نتناولها، تعني نتائج الفكر، والذوق، والشعور، بعد الصقل بالدراسة والجهد، وطلب العلم بجميع أنواعه، وتحصيل الملكة عن طريق الممارسة، ولا يحتاج الشعر الشعبي إلى كل ذلك أو شيء منه، بل أن ضعف الثقافة هو الذي ساعد الشعر الشعبي على الانتشار، وبذلك يكون رواج الشعر الشعبي، دلالة على ضعف الثقافة الأدبية في البلاد.
إن ظاهرة شيوع الشعر الشعبي بدل الشعر الفصيح، وضعف الثقافة الأدبية، قديمة ولا تخص العهد العثماني وحده، فقد لاحظ ابن خلدون ذلك، وعزا عدم عناية المغاربة بأنسابهم، إلى شيوع الشعر الشعبي، الذي لا يحفظ كما يحفظ الشعر الفصيح، ولكن الضعف استمر وازداد، وقد تفاقم أيام العثمانيين.
كان الشعر الشعبي يدوِّن ما يجري في جميع المستويات تقريبا، ويصف ردود الفعل بآلة تسجيل أمينة، غير أن القارئ وإن وجد فيه الفعل ورد الفعل، فإنه لن يجد فيه المتعة الروحية، ولا الجمال الفني، الذي يجده في الشعر الفصيح، لاسيما إذا بَعُدَ العهد، ذلك أن لكل فترة مفاهيمها اللغوية، وتعابيرها في الأدب الشعبي، وليس الحال كذلك بالنسبة للفصيح.
خاض الشعر الشعبي في عديد الأغراض، مثل: هجومات الأجانب على الجزائر والانتصار عليهم، حالة السكان الاقتصادية والمعاشية، والأزمات الاقتصادية، والنكبات الطبيعية، وأحوال التصوف والمتصوفين، ورثاء رجال الدين ورجال السياسة، ونحو ذلك من الأغراض. كما أن الشعر الشعبي، قد وقف أحيانا مع العثمانيين، وأحيانا ضدهم، وأكثر ما بقي من الشعر الملحون، هو الذي يمجد انتصارات العثمانيين، ومن الجدير بالذكر، أن الشعر الملحون قد دخله التحريف، فمن الصعب القول بأن ما بقي منه هو بالضبط ما قاله أصحابه، ثم إن كتابته نفسها تختلف عن إنشاده، فهو شعر قيل لينشد وتتناقله الأفواه، لا لكي يسجل على الورق ويدوَّن.
28
إن اختلاف اللهجات، يجعل من الصعب فهم قصيدة شعبية، قيلت مثلا في وهران من أهل قسنطينة والعكس، ومن ثمة كان الشعر الفصيح أيسر وأخلد. ومن جهة أخرى، فإن الاهتمام بالشعر الشعبي، لا يخدم فكرة الوطنية ولا القومية، فهو في عصرنا يخدم في الواقع، الجهوية، والقبلية، والإقليمية، ولذلك استغله الاستعمار استغلالا بشعا، ضد الفكرة الوطنية في الجزائر، وضد الفكرة القومية في الوطن العربي.
من أقدم القصائد الشعبية الموالية للعثمانيين، والتي سجل صاحبها -وهو الأكحل بن خلوف المشهور بالأخضر- المعركة التي دارت بمرسى مستغانم بين المسلمين والإسبان، وهي المعروفة بـ"وقعة مزغران"، وكان الشاعر متحمسا لانتصار المسلمين فيها انتصارا باهرا، وقد استهلها بقوله:
يَا سَايَلْنِي عَنْ طْرَادْ الرُّومْ قَصَّةْ مَزَّغْرَانْ مَعْلُومَة
أما الشعراء الذين وقفوا ضد العثمانيين، مستعملين الشعر الملحون وسيلة وسلاحا، فهم أيضا كثيرون، وحسبنا أن نذكر هنا: ابن السويكت، الذي سجل انتصار أهل سويد بالغرب الجزائري على العثمانيين، في حروب طويلة قاسية، وهذه الحروب تعرف جماعيا باسم (ثورة المحال)، التي كانت تتقد تارة، وتخبو تارة أخرى، حوالي قرنين، وللشاعر في ذلك عدة قصائد، منها تلك التي يقول فيها:
التُّرْكْ جَارُوا وَاسْوِيْدْ عْقَابْهُمْ طَافْحِينْ وَالتُّرْكْ شَارْبِينْ الهْبَالْ فِي سَطْلَة
وكما اهتم الشعر الشعبي بالحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، اهتم أيضا بالدين ورجاله، فقد عرفنا أن شاعرا كبيرا في الفصيح، وهو سعيد المنداسي، عالج المدائح النبوية وغيرها من النواحي الدينية، في قصيدة ملحونة تعرف بـ (العقيقة)، وهي التي شرحها أبو راس، وابن سحنون، وكانت موضع حديث الناس، مثقفين وغير مثقفين. وكتب موسى اللالتي قصيدته المشهورة (حزب العارفين) بالملحون أيضا، تعرض فيها ليس فقط لرجال التصوف وأهل الصلاح، ولكن أيضا إلى رجال السياسة، أو من سماهم برجال الشر والطلاح. وقد اشتهر في تلمسان خلال القرن الثاني عشر، ثلاثة شعراء شعبيين، هم: محمد بن مسائب، وابن التريكي، والزناقي، ونظموا جميعا بالخصوص في المسائل الدينية، كما نظم كل منهم رحلة حجازية.
29
على الرغم من أن الشعر الشعبي ليس من أهداف هذه الدراسة، لخروجه عن الثقافة الأدبية كما لاحظنا، فإن دراسته تكشف عن كثير من الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية للبلاد في العهد العثماني، فالقصيدة الشعبية من هذه الزاوية، وثيقة هامة تُدرس من خلالها الحياة، كما صورها الشاعر، وتؤخذ منها المعلومات والمواقف. والشعر الشعبي مهم من حيث تسجيله لمشاعر الناس، ضد أو مع العثمانيين في تلك الفترة، ومواقف الجهاد ضد العدو الخارجي، وتطور الحياة الدينية، فالعودة إلى الشعر الشعبي، ضرورة من ضرورات البحث، ولكنه لا يُدرس كنموذج أدبي أو فني، نستشف من خلاله رقي الثقافة، وسمو الذوق، والمشاعر، وجمال التعبير والتصوير، أو نستدل به على تقدُّم الشعب ورقيه.
30