أغراض الشعر الجزائري القديم (الشعر الذاتي)
يعد الشعر الذاتي أصدق ألوان الشعر، لأن الشاعر فيه يستمد وحيه من عالمه الخاص، فلا مغريات، ولا مناسبات، ولا مطالب، تلح عليه لقرض الشعر، والشعر الذاتي ليس كله أو ليس بالضرورة صادقا دائما، فهناك من الشعراء، من كان يتكلف الوصف أو الغزل، فيأتي شعره باهتا باردا لا حياة فيه، ومنهم أيضا، من لا تطاوعه اللغة والخيال، فيقصر عن التأثير في نفوس الآخرين، وقد حفل الشعر في العهد العثماني، بعدد من القصائد الذاتية، التي قيلت في كثير من الأغراض، كالوصف، والشكوى، والحنين، والكشف عن أحوال النفس عند الانقباض والانبساط.
1 - الشعر والمرأة:
لعل غياب المرأة في المجتمع الجزائري، هو الذي جعل شعر الغزل قليلا نسبيا، فالشعراء كانوا لا يتحدثون عن المرأة بعينها حين يتغزلون، وإنما يصفونها من الوجهة المجردة، فكانت صورهم الشعرية، إما مأخوذة من الماضي، وإما غير منطبقة مع الواقع، وإما خيالية قل من يحس بها، وقد عزا بعض الكتاب الأوربيين، ما وجده من خشونة في الطبائع والألفاظ لدى الجزائريين، إلى كون المرأة لا تتحرك وسط المجتمع، ومهما كان في هذا القول من صدق أو من تجن، فإن الذي لا شك فيه، هو أن شعر الغزل عند الجزائريين، يفتقر إلى حرارة الصدق وقوة العاطفة، كما يفتقر إلى الواقعية.
كان القاضي محمد القوجيلي، من أبرز شعراء القرن السابع عشر للميلاد، عالج أغراض الشعر المختلفة، ومن بينها: الغزل، ومن غزل القوجيلي هذين البيتين:
وَالـــــدَّمْـــــعُ بَـــــاحَ بِـــذَا الهَـــــوَى وَأَبَـــانَـــــهُ الحُبُّ صَعْبٌ وَالرَّقِيبُ أَعَانَهُ
وَالحُبُّ يَسْتَدْعِي القُلُوبَ إِلَى الهَوَى فَــتُــجِــيــبُـــهُ مُــنْـــقَـــادَةً وَلْهَــــانَــــــة
2 – وصف الطبيعة:
كثيرا ما كان وصف الحبيبة، طريقا إلى وصف الطبيعة والعكس، ومن شعراء وصف الطبيعة بلا منازع: أحمد بن عمار، فقد وصف الرياض، والمتنزهات، وما فيها من جمال ظاهري، يسحر العين، كما وصف الزهور وغيرها، يقول الشاعر:
أَدِرْ الكُؤُوسَ مَعَ الأَصَائِلِ وَالبِكْرِ وَاشْرَبْ عَلَى نَغْمِ البَلَابِلِ وَالوَتَرِ
25
ولم يكن ابن عمار، وحده في هذه النزهة، بل كان معه جماعة لم يكشف عنهم، ولعلهم أصدقاؤه من الشعراء والأدباء، وهذا ما يبينه البيت التالي:
مَعَ فِتْيَةٍ مُتَعَاقِدِينَ عَلَى الوَفَا فَكَأَنَّهُم فِي مَنْظَرِ الدُّنْيَا غُرَرُ
لا يقتصر الوصف على الطبيعة، فلدينا شعراء قد وصفوا المدن وأجادوا، وصوروا أحوالهم النفسية إزاءها، كما فعل أحمد المقري في وصف تلمسان. ومن أجود قصائد وصف المدن، قصيدة ابن أبي راشد في مدينة الجزائر، وحدائقها خلال الربيع، ولعل هذا الوصف، هو الأول من نوعه في هذه المدينة، التي اشتهرت منذ القديم ببياض بنيانها، وكثرة البساتين حولها، والأبراج، ووفرة الزهور على مختلف الأشكال، يقول الشاعر:
سَقَى المَطَرُ الهُطَالُ أَرْضًا تَشَرَّفَتْ بِمِصْرَ غَدَتْ لِلْفَضْلِ وَالفَخْرِ جَامِعَه
بِمَزْغَنَّـــةَ الفَيْحَــــاءَ تَــظْــهَـرُ مِنْ مَدَى تُرَى كَسَقِيطِ الثَّلْـجِ بَيْضَـــاءَ نـَــاصِــعَــــه
بُـــرْجُ الـــسَّــــمَـــا أَبْـــرَاجُـــهَـــا قَدْ تـَــأَلَّــــقَتْ تـَــرُوقـُـــكَ مِـــنْ أُفْــقِ الأَجِنَّـــةِ طَــــالـِــعَـــــه
قبل أن نختم الحديث عن الوصف، نشير إلى قصيدة إبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي التلمساني، التي قالها في الصيد، ومنافعه، وشروطه، وظروفه، وهي المشهورة بـ (روضة السلوان)، وقد شرحها في القرن العاشر أبو القاسم بن محمد الفجيجي، وفي القرن الثالث عشر أبو راس الناصر، وكان ناظم القصيدة مغرما بالصيد، وتدل متانتها ولغتها، على تمكنه من نظم الشعر، وقد قال ابن عسكر عنها: إنها كانت في أيدي الناس جميعا، وأنها قصيدة معجبة.
3 – الحنين والشكوى:
حين نتحدث عن الحنين إلى الوطن عند الشعراء الجزائريين في العهد العثماني، فإننا نتحدث عن هذه العاطفة، التي تقف بين الحنين إلى موطن القبيلة، وموطن العلم والقوم، فقد شعر الجزائريون خارج قطرهم، بعاطفة تجذبهم إلى المدينة التي كبروا فيها، والشيوخ الذين درسوا عليهم، ثم وسعوا هذا المفهوم الضيق، فأصبح يشمل القطر الجزائري بأسره.
من أوائل من نظم الشعر في هذا المعنى: أحمد المقري، وشاع ذلك عند أحمد بن عمار، وابن حمادوش وغيرهما، لأن الشعور بالغربة في الخارج، والحنين إلى الوطن، والالتفات إليه، قد شاع عند الجزائريين، بسبب هجرتهم طلبا للعلم، وهروبا من اضطراب السياسة، فإذا بهم يشعرون أن الحبل يتقطع بهم، وأن الديار تبعد، والأحباب يختفون، بل إن بعضهم كان يحس أنه لم يجد ما كان يصبو إليه من التقدير والاحترام، وقد عبر المقري عن ذلك بقوله:
26
ترَكْتُ رُسُومَ عِزِّي فِي بِلَادِي وَصِرْتُ بِمِصْرَ مَنْسِيَّ الرُّسُومِ
والشكوى من الزمان وأهله، شائعة في الشعر الجزائري، ولا نكاد نجد قصيدة لشاعر، دون أن يضمنها شيئا من هذا المعنى، مهما كان الغرض الذي يتناوله، ومن أبرز قصائد الشكوى الجزائرية، نذكر: قصيدة سعيد المنداسي في تقلبات الزمان، وهي قصيدة طويلة، وعميقة، ومتينة، تقع في أكثر من أربعين بيتا، وقد نالت حظا وافرا من عناية الأدباء، كأختها (العقيقة)، ومطلعها:
سُرُوجُ العُلَـــى لِلْحـــَرْبِ تَشْتَدُّ بِالــحَـــزْمِ وَسَيْفُ الوَغَى يَبْلَى شَبَاهُ لَدَى السِّلْــمِ
فَلَا يَتَأَنَّى المَرْءُ فِي بـَـسْـطــَـةِ الرِّضَى فَإِنَّ الزَّمَانَ الـــصَّعْـبَ يُـــرْصَـدُ بِالحِلْمِ
تعد قصيدة المنداسي، من أحكم الشعر وأقواه في وقتها، ولعل هذه النغمة، توضح لماذا غادر المنداسي الجزائر ساخطا واستقر بالمغرب، رغم أننا لا ندري هل قال هذه القصيدة قبل هجرته أو بعدها، وبالإضافة إلى ذلك، فإن ديوان ابن علي، يحتوي على بعض الشعر في الشكوى والاستغاثة، ومن ذلك: قطع لجده ووالده في الشكوى، وشعر آخر لمحمد سعيد الشباح التلمساني، في الاستغاثة ونحو ذلك، ومن الشعراء الذين اشتكوا أيضا من الزمان وأهله بمرارة، المفتي الحنفي ابن علي، وكان من أقوى شعراء عصره.
27