الشعر الاجتماعي الجزائري القديم (تابع)
4- وصف المنشآت العمرانية:
رغم قلة المنشآت العمرانية والمدنية في العهد العثماني، فإن الشعراء قد مجدوا المؤسسات التي أقامها بعض الولاة، ويدل ذلك، على أن الشعر كان مستعدا للتنويه بالعاملين على نشر العلم والعمران، وقد حظيت المنشآت التي أقامها محمد الكبير، وصالح باي خصوصا، بتنويه الشعراء، فالمدارس والمساجد، عدها الشعراء دليلا على اهتمام الولاة بالشعب والصالح العام. إذن أشاد الشعراء بما بناه محمد الكبير، من الجامع الكبير بمعسكر، إلى المدرسة المحمدية الملحقة به، إلى المحكمة، بل أشادوا بداره الخاصة، ووصفوها وصفا حيا، ففي الجامع يقول شاعر الباي وكاتبه ابن سحنون:
انْظُرْ رَعَاكَ إِلَهُ الخَلْقِ وَاعْتَبِرْ لِمَسْجِدٍ رَائِقٍ قَدْ لَاحَ لِلْبَشَرِ
وفي الجامع نفسه والمدرسة، يقول أحمد القرومي من قصيدة طويلة جيدة:
وَتَرَى المُدَرِّسَ قَدْ عَلَا كُرْسِـــيُّـــــهُ يُلْقِي عَلَى العُلَمَــــاءِ حَبَّ الجَوْهَرِ
تَحْـــوِيـــهِ مَدْرَسَـــةٌ غَدَتْ آثــَـــــــارُهَـا تُحْيِيـــهِ بــِـالعِلْمِ الشَّرِيفِ الأَشْعَـرِي
تَمْحِي رُسُومَ الجَهْلِ مِنْ أَلْوَاحِهِ تَحْمِي شَمَائِــلَهُ مِـنَ الزُّورِ السَّرِي
وكان أبو راس وغيره، قد أشادوا أيضا بمنشآت هذا الباي، من ذلك: وصف أبي راس للمحكمة:
هِيَ الــــقِــــبْــــلَـــةُ الغَــــــــــرَّاءُ عـَـــزَّ نــَــظِـيـرُهَـا تَرَى الـــحُسْنَ فِيهَـــــا مُكْتَسِيًـــا وَعَــارِيَـا
وَلَا عَجَبَ إِنْ فَاقَتْ الشُّهُبَ فِي العُلَا وَقَدْ جَاوَزَتْ فِيهَا المَدَارَ المُضَاهِيَا
بِهَا مِعْمَـرٌ حَـــــازَ الـبـَــهَـــــــاءَ وَقَدْ غَـــــدَا بِهَا القَصْرُ قَدْ فَاقَ المَبَانِي مُبَاهِيَـا
أما منشآت صالح باي في قسنطينة، فلم تحظ بهذه العناية من الشعراء، ويعود ذلك في نظرنا، إلى أن هذا الباي لم يقرِّب إليه الشعراء، وعلى كل حال، فإن أحد الشعراء المجهولين، قد كتب قطعة نقشت على اللوحة التي وضعت عند مدخل المدرسة المعروفة بالمدرسة الكتانية، ضمنها مدحا للباي على صنيعه هذا، يقول الشاعر:
أَحْيَى دُرُوسَ العِلْمِ بَعْدَ انْدِرَاسِهَـــــــا وَبَنَى لَهَا دَارًا زكَى مَبْنَـــاهَــا
يَعْنِي مَدْرَسَةً لَاحَتْ أَشِعَّــةُ نُورِهَــــا لِمَ لَا وَهِيَ الدُّرُّ فِي مَعْنَـــاهُ
جَـــادَتْ بِهَــــا نَفْسُ المُعَظِّمِ صَـالِحُ ذَاكَ المُجَاهِدُ يَبْتَغِـي مَوْلَاهُ
22
وقد أسهم الشاعر ابن علي في ذلك، بوصف مخزن للحبوب، بناه محمد باشا عند باب عزون، فقال أبياتا جميلة ومعبرة منها:
لَئِنْ كَانَتْ الأَهْرَامُ مِنْ مِصْرَ أُودِعَتْ خَـــزَائـِــنـُــهَـــا دُرًّا نـَـفِــيسًــا وَيَاقُوتَـــــا
فَـــــذَا الهَــــــرَمُ الأَعْـــــــلـَـــى أَجَـــــــــــلُّ لِأَنَّـــــــهُ جَمِيعُ البَرَايَا مِنْهُ يَلْتَمِسُ القُوتَـا
من سوء حظ الشعراء، أن العصر كان عصر ركود عثماني، وإلا لانطلقوا يصفون ويمدحون، فكان ذلك سببا في اقتصار الشعر الاجتماعي على الإخوانيات. وإذا كان الشعر مرآة العصر، فإن الشعر الاجتماعي منه، يدل على أن الجزائر في العهد العثماني، لم تعرف من المؤسسات العمرانية والثقافية الرسمية إلا القليل.
5- الألغاز:
كان التلغيز نوعا من الرياضة الأدبية، يتعاطاه الفقهاء والشعراء على السواء، ففي وقت انعدمت فيه -أو كادت- وسائل الترفيه والتسلية، كان اللجوء إلى التلغيز بالشعر إحدى هذه الوسائل، وكان الملغز يعبر عن حادثته بالبيت أو الأبيات. وليس من الضروري، أن ينظم الملغزون ألغازا جديدة، فقد كان بعضهم يعود إلى كتب الأدب العربي، ويأخذ منها نموذجا أو أكثر، ويرسل به إلى زملائه، فيُعملون فيه الرأي والذكاء، محاولين الإجابة التي قلما تكون صائبة.
ليس من غرضنا هنا، تتبُّع هذا النوع من الشعر، لأنه في الواقع يعتمد على النقل من جهة، ولأنه من جهة أخرى قائم على التكلف، غير أننا نذكر بعض المؤلفات، التي عالجت هذا النوع من الشعر، من ذلك: تأليف بركات بن باديس، الذي سماه (نزع الجلباب)، والذي جمع فيه بين الشعر والنثر، وكذلك: تأليف الألغاز الذي ألفه أحمد بن قاسم البوني، والذي لا يُعرف له عنوانا، كما أن عبد الرزاق بن حمادوش، قد ذكر نماذج من الألغاز في رحلته، بعضها لجزائريين، وبعضها لغيرهم. وبالإضافة إلى من ذكرنا، كان سعيد قدورة، وعبد الكريم الفكون، وأحمد المقري، ومحمد بن ميمون، وسحنون بن عثمان، ويحيى الشاوي، قد جربوا التلغيز، ولا شك أن هناك مؤلفات أخرى، جمعت بعض هذه الألغاز، مثل ديوان ابن علي، كما أن معظم العلماء والأدباء، كانوا يتلاغزون، ومن ذلك هذا اللغز:
وَقُلْ لَهُمْ مَـــا سَبْعَـــةٌ خُلِقُـــوا مَعًــــــا وَمَـا سَـــبْعَةٌ فِي ثَـــــوْبِ خَـــــزٍّ مُــــــوَرَّدِ
حَوَاجِبُهُمْ سَبْعُونَ فِي وَجْهٍ وَاحِدِ وَأَعْيُنُهُمْ تِسْــعُـــــونَ فِي خَلْقِ هُـــدْهُـــدِ
أَبُوهُمْ لَهُ حَرْفَانِ مِنْ اسْمِ جَعْفَرِ وَحَــرْفَــــانِ مِــنْ اسْمَـــيْ عَــلِـــيٍّ وَأَحْمَدِ
23
وقد أجاب عنه يحيى الشاوي بقوله:
هُمْ سَبْعَةٌ مِنْ بَيْضَةٍ خُلِقُوا مَعًـا وَمِـــثْــــلُــــهُــــمْ فِي ثَـــــوْبِ خَـــزٍّ مُوَرَّدِ
حَوَاجِبُهُمْ سَبْعُونَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَأَعْيُنُهُـمْ تِسْـــعُـــــونَ صُورَةَ هُدْهُدِ
أَبُـــــوهُـــمْ رَجِـــيـــمٌ مَـــــارِدٌ مُـــتَـــمَــــــرِّدٌ وَقَدْ جُمِعَتْ مِنْ لَفْظِ لُــغْــزٍ مُقَيَّدِ