الشعر الاجتماعي الجزائري القديم (تابع)
3- الرثاء:
إذا كانت الحياة رابطة قوية بين الشعراء، فإن الموت أيضا كان يقوي تلك الرابطة، بل يكشف عن أصالتها أو زيفها، فكما تبادل الشعراء الإخوانيات أثناء الحياة، جادوا بالشعر عند وقوع مصاب بأحد العلماء أو الشيوخ، وشعر الرثاء الجزائري على خلاف شعر المدح قليل، ومما يُذكر لا نكاد نجد قصيدة فيما يمكن أن نسميه بالرثاء السياسي، ذلك أن جميع المراثي على قلتها، لا تخرج عن بكاء بعض الشيوخ ورجال الدين، فكأن نهاية الحاكم، كانت تعد بشرى للأمة، وليس نكبة قد حلت بها، لأن نفاق الحياة قد جعل الحاكم مهابا أثناء حكمه، عندما تكون يده مبسوطة للعطاء، ولكن الموت ينهي كل ذلك، وتبقى الأبيات التي وجدت على ضريح صالح باي، دون ذِكْرٍ لصاحبها، من النماذج النادرة التي تدخل تحت الرثاء السياسي، يقول صاحبها:
ضَرِيحٌ لَاحَ فِي أَوَجِّ السَّعَــادَةِ كَمَـــا عِقْدُ الجَوَاهِرِ فِي النَّضَــــادَةِ
بـَــايُ الــــزَّمَــــانِ أَخُـو المَـــعـَـالِي بِــــهِ قـَــــدْ رَاحَ صَــــالِحُــــــهُ رَشَــــــــادَهُ
أَمِيرٌ عَاشَ فِي الــدُّنْيَــا سَعِيدَا وَعِنْدَ المَوْتِ قَدْ حَــــازَ الشَّهَـــــادَة
فَكَمْ مِنَنٌ لـَــــهُ فِي اللهِ جَــــلَــــتْ وَكَـــمْ أَجْرَى لِـــطَــــاعَتِــــــــــهِ جَـــــوَادَه
لا شك أن الرثاء يكون أصدق، إذا قيل في الشيوخ، والأصدقاء، والأقارب، ولكننا لا نجد من هذا إلا القليل، ومن ذلك: رثاء مصطفى الرماصي القلعي لشيخه عمرو التراري بن أحمد المشرفي، وهي قصيدة جيدة وطويلة (150 بيتا)، ويقال إن صاحبها قد نسج فيها على منوال أبي حيان في رثاء شيخه أيضا، في وزنها، وقافيتها، وعدد أبياتها، وتبدأ قصيدته هكذا:
خَلِيلَيَّ عُوجَا بِي عَلَى طَلَلٍ عَفَا مَـــــعَــــــالِمُــــــهُ قـَــدْ غُيِّرَتْ وَمَـــعَــــاهِــدُهُ
وَأَسَفَتْ عَلَيْهِ السَّـــافِيَــاتُ بُعَيْدَنَـــــا دَقَائِقُ الحَصَا فَانْحَطَّ مِنْهَا أَجَالِدُهُ
أما سعيد قدورة، فقد رثى شيخه محمد بن علي آبهلول المجاجي، بقصيدة طويلة ذكر فيها أن شيخه قد توفي شهيدا، بعد أن طعنه رجل من بني نائل، الذين قال عنهم إنهم قوم خوارج، وأشاد فيها بنسب شيخه، وشرفه، وعلمه، وأنه كان بالخصوص عالما بالنحو، والفقه، والمنطق، ومطلع هذه القصيدة:
مُصُابٌ جَسِيمٌ كَادَ يُصْمِي مَقَاتِلِي وَرِزْءٌ عَظِيمٌ قَاطِعٌ لِلْمَفَاصِلِ
20
وقد شكا قدورة من الدهر، الذي أذل العلماء بحكم الجهال وتطاولهم عليهم، وبكى شيخه آبهلول على لسان الأرامل، واليتامى، والضعفاء، والأسرى المسلمين الذين كان الشيخ المجاجي يساعد على افتدائهم، كما بكى فيه العلم والتقى، وذكر أن الطلبة كانوا يشدون الرحال للقراءة عليه في زاويته:
لِمَنْزِلِهِ كَانَتْ تُشَدُّ رِحَالُنَا فَمِنْ رَاكِبٍ يَسْعَى إِلَيْهَا وَرَاجِلِ
وأخيرا، وجه قدورة خطابه إلى قاتل الشيخ، وتوعده بسوء الخاتمة والعاقبة، وقال عنه إنه "خارجي"، لا يدين بدين المسلمين:
أَحـَــــقًــــا قـَــتَـــلـْــتَ الأَلْمَـــعـِــيَّ مُحَـــمَّــــدَا عَلَى قَوْلِ حَقٍّ لَا عَلَى قَوْلِ بَاطِلِ
قَتَلْتَ امْرُءًا مِنْ شَأْنِهِ العِلْمُ وَالتُّقَى فـَــيــَـــا خـَــيْـرَ مَـــقْــتُولٍ وَيَـا شَرَّ قَـاتِـلِ
فَــــإِنـَّــكَ مِـــنْ أَشْـــــرَارِ قَـــــوْمٍ خَــــــوَارِجِ بَـنِي نــَـائِـلٍ لَا فـُــزْتَ يَـــوْمًــا بــِـنـَــائِـــلِ
وقد حظي عبد الرحمن الثعالبي، بعدد من المراثي ليس في عصره فقط، ولكن حتى في عصور متأخرة، ومن ذلك: قصيدة القاضي محمد بن مالك فيه، وهي قصيدة جيدة وطويلة، لولا أن النسخة المتوفرة منها قد أساء إليها النُّسَّاخُ أيَّما إساءة، وقد بدأها صاحبها بالغزل، جريا على العادة، رغم أنه قاض، وغزله فيها رقيق على كل حال، ثم تخلص من ذلك إلى مدح الثعالبي وأخلاقه، وكون مدينة الجزائر قد أصبحت به، مأوى الأولياء، وموطن السعادة، كما عدَّد مؤلفات الثعالبي، وأسانيده، وقدرته على رواية الحديث، ووصف ضريحه ومقامه في نفوس الناس، وبعد ذلك، انطلق في مدح خير الأنام، وتعداد معجزاته، مستنجدا به ومستنصرا، قال ابن مالك:
وَمَـــا صَبْوَتِي فِيمَنْ رَأَوهُ حَقِيـقَــةً وَلَـكِنَّنِي أَصْبُو لِحُبِّ إِمَامِ
أَبُو زَيْدٍ القُطْبُ الأَجَلُّ الثَّعَالِبِي إِمَامُ الوَرَى طَرَا بِكُلِّ مَقَامِ
وقبل أن نترك المراثي، قمين بنا الحديث عن مرثية محمد القوجيلي، في المفتي أحمد الزروق بن عمار بن داود، وقصيدة عبد الرزاق بن حمادوش، في رثاء شيخه أحمد بن المبارك المغربي، ومن جهة أخرى، رثى الورتلاني بعض رجال التصوف، مثل أحمد زروق البرنوسي، وذلك في قصيدته الطويلة التي أخبر عنها في رحلته، بأنه نظمها: «لتزول عنا حجب الغفلة، وكدرات النفس وغطاء البشريات، ولعلي أرقى إلى مراتب التجليات، وأشرب من عين اليقين، وأتحلى بحلية المعارف.»، يقول الورتلاني في قصيدته:
أَلَا أَيُّهَا القُطْبُ الهُمَامُ تَعَلَّقَتْ مَجَامِعُ قَلْبِي بِالسَّعِيدِ المُنَوَّرِ
21