لم يرتبط الشعر بالسياسة في الجزائر خلال العهد العثماني، إلا في مناسبات محدودة، نستطيع حصرها في الجهاد ضد الأجانب، وخصوصا الإسبان، ومدح بعض الأمراء طمعا في مالهم، والموقف من الأتراك مدحا وذما. وقد عرفنا أن الأمراء لم يكونوا يتذوقون الشعر، فلم يشجعوا على قوله، كما أن بقاءهم في الحكم كان مرهونا بظروف طارئة، فهم لا يبقون فيه إلا فترات قصيرة، تكون عادة مليئة بالصراعات، وغالبا ما تنتهي نهاية دموية، والشعر السياسي -عادة- يعيش في ظروف هادئة، يدوم فيها حكم الأمير فترة معقولة، يعرف الناس خلالها أخلاقه ومواقفه، ليمدحوه عليها أو يذموه. وكان عبد الكريم الفكون، قد انتقد علماء وقته في تقربهم إلى الولاة، وتنافسهم على رضاهم وخدمتهم، ومن الواضح أن هؤلاء العلماء، كانوا يتنافسون عن طريق الدس، والفتنة، والوشاية، وليس عن طريق الكلمة المكتوبة نثرا أو شعرا.

          شكلت ذكريات سقوط الأندلس، وأثر ذلك على المسلمين هناك، وتهديد الإسبان باحتلال المغرب العربي، العمود الفقري للعاطفة الدينية والسياسية التي نسميها الجهاد، ورغم أن الجهاد عموما يُقصد به هنا، مجابهة غير المسلمين، وردهم على أعقابهم، فإنه قد انحصر تدريجيا، في رد غارات الإسبان خصوصا، وطردهم من الجيوب التي نزلوا بها على السواحل، لاسيما وهران ومرساها. وقد قيل الكثير من الشعر في التحريض على الجهاد، وفي التهنئة بالنصر، فمن الذين مدحوا حسن بن خير الدين باشا، على فتح حصن مرسى وهران الأعلى، وهروب الإسبان إلى الجزء الأسفل منه، الشاعر عبد الرحمن بن موسى، في قصيدته التي مطلعها:

                     هَنِيئًا لَكَ بَاشَا الجَزَائِرِ وَالغَرْبِ      بِفَتْحِ أَسَاسِ الكُفْرِ مَرْسَى قُرَى الكَلْبِ

          والشاعر من أوائل المؤيدين لجهاد العثمانيين ضد الإسبان، ولكن حسن باشا لم يستطع أن يطردهم نهائيا، وظل وجودهم يثير مشاعر الشعراء، كلما حانت المناسبة، واتجهت الهمة من جديد إلى الضغط على الإسبان، وظهرت علامات الاستعداد لحربهم، وكان ذلك في عهد حسين خوجة الشريف باشا، الذي أظهر استعدادا منقطع النظير، لذلك انطلق الشعراء يستحثونه، ويصفون سوء أحوال المسلمين تحت حكم الإسبان، لاسيما النساء، استثارة للعواطف النفسية والدينية، ومن هؤلاء: الشاعر البارع محمد بن محمد علي، المعروف بابن

13

آقوجيل، فله في ذلك قصيدة طويلة ومؤثرة، بلغت نحو سبعين بيتا، هنأ فيها أولا الباشا بتوليته الجزائر، وقدم فيها نصائح له، ووصف أحوال العلماء السيئة، ثم التفت إلى الغرض المقصود في قوله:

                 جَـــهِّـــزْ جُـــيـُــوشــًــا كـَـــالأُسـُــودِ وَسَــرِّحْــنَ          تِلْكَ الجَوَارِي فِي عُبَابِ بُحُورِ

                 أَضْــرِمْ عَـــلـَى الكُـفَّـارِ نــَـارَ الحَـرْبِ لَا          تـُــقْـــلــِــعْ وَلَا تُمْـــهِـــلــْـهُـــــمْ بـِــفـُــتُـــــورِ

                 وَبِــقُـــــــرْبِــــــنـَــــــا وَهْــــــرَانُ ضِــرْسٌ مُــــــؤْلِـمٌ           سَهْلُ اقْتِلَاعٍ فِي اعْتِنَاءٍ يَسِيرِ

                 كَمْ قَدْ أَذَتْ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَـــمْ سَبَتْ           مِـــنْـــهُــــمْ بِـــقَـــهْــــرٍ أَسِيرَةً وَأَسِــيـرِ

          من أبرز الشعراء الذين وقفوا موقفا مضادا للأتراك في الجزائر، وهجوهم هجاء مرا، نذكر: الشاعر سعيد المنداسي، فقد وصفهم بأبشع الأوصاف، واتهمهم بالفحش والشره في حب المال، وارتكاب الجرائم، كما تحدث عما عانت تلمسان منهم، وعرض بالمفتي التلمساني في عهده أحمد بن زاغو، الذي انقاد في نظره إلى الترك، واتهمه بالضلال في الدين، وأنه قد هدم دار العلم، ولا غرابة بعد ذلك، أن يموت المنداسي في الخارج، هاربا من الأتراك، بسبب قصيدته الهجائية جملة وتفصيلا للأتراك، يقول الشاعر:

                فَمَا دَبَّ فَوْقَ الأَرْضِ كَالتُّرْكِ مُجْرِمٌ         وَلَا وَلَدَتْ حَوَّاءُ كَالتُّرْكِ إِنْسَانَا

          لم يكن المنداسي وحده في ذم الأتراك، فقد كان هناك غيره، ولكن الحكم العثماني لم يسمح لهذا الشعر أن يظهر طبعا، غير أن الكتب والوثائق قد حفظت لنا، نماذج أخرى من الشعر المعارض للأتراك، ومن ذلك: قصيدة سيدي السنوسي بن عبد القادر، في الشيخ محيي الدين والد الأمير عبد القادر، عندما أخذه حسن باي وهران، شبه أسير هو وابنه ليمنعه من التوجه إلى الشعر، وقد ذكر أبو حامد المشرفي صاحب كتاب (ذخيرة الأواخر والأول) هذه القصيدة، غير أنها في جزء مفقود من الكتاب، ولا شك أن الناس قد تناقلوا هذه القصيدة السياسية بأفواههم، لأنها جاءت في وقت اشتد فيه النزاع، بين سلطة العثمانيين والطرق الصوفية.

          ولو تتبعنا الشعر السياسي الجزائري إبان الحكم العثماني، لوجدناه على قلته غنيا بالتجارب، ولكن طموحات الشعراء فيه ظلت محدودة، لأن أصحاب الحل والعقد في الدولة، كانوا لا يهتمون ولا يحفلون بالشعر، فكيف يهتمون بأهله؟.

 

 

 

14

آخر تعديل: الأربعاء، 15 نوفمبر 2023، 9:38 AM