كان الدين - بأوسع معانيه - من أهم الأغراض التي طرقها الشعراء الجزائريون، لاسيما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، والتشوق إلى زيارة قبره، وإحياء مولده. ويشمل ذلك أيضا: الشعر الصوفي، والتوجه إلى الله وقت الشدة، ومدح ورثاء الأولياء الصالحين...، ونحو ذلك. ولا شك أن الشعر الديني -وخصوصا المدائح النبوية- من أقدم الأغراض الشعرية، وتحتفظ الوثائق بقصيدة نادرة في مدح المدينة المنورة، قالها الشاعر الصوفي أبو محمد عبد الله بن عمر البسكري، وهي القصيدة التي أكثر الكتاب من تداولها، والنسج على منوالها، لجودتها وصدقها، فذكرها ابن عمار في (الرحلة)، وابن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، ومنها هذه الأبيات:

                   دَارُ الحَبِــيــبِ أَحَـــقُّ أَنْ تَهْـــــوَاهَــــــــا          وَتَحِـــنُّ مِـــنْ طَـــرَبٍ إِلَى ذِكْـــرَاهَـــا

                   وَعَلَى الجُفُونِ مَتَى هَمَمْتَ بِزُورَةٍ          يَا ابْنَ الكِرَامِ عَلَيْكَ أَنْ تَغْشَاهَـــــا

                   فَـــلَأَنْتَ أَنْتَ إِذَا حَلَلْتَ بـِــطَـــيْــــبَــــةٍ          وَظَلَلْتَ تـَــرْتَـــعُ فِي ظـِــلَالِ رُبَاهَـا

                   مَعْنَى الجَمَالُ مُنَى الخَوَاطِرُ وَالَّتِي        سَلَبَتْ عُقُولَ العَاشِقِينَ حُلَاهَــــــــا

                   لا تَحْسَبِ المِسْكَ الذَّكِيَّ كَتُرْبِهَـــــا          هَيْهَــاتَ أَيْنَ المِسْكُ مِنْ رَيَّـاهَـــــــا

                   طَابَتْ فـَإِنْ تَبْغِ التَّطَيُّبَ يَا فَتَــــى           فَأَدِمْ عَلَى السَّاعَاتِ لَثْمَ ثَرَاهَـــــا

          وقد أورد أحمد المقري في (نفح الطيب)، نماذج من المديح النبوي، قالها الشاعر محمد بن محمد العطار الجزائري، من ذلك قصيدة له في عشرين بيتا، في المدينة المنورة أيضا، مطلعها:

                    أَهْدَتْ لَنَا طَيِّبَ الرَّوَائِحِ يَثْرِبُ           فَهُبُوبُهَا عِنْدَ التَّنَسُّمِ يُطْرِبُ

          وقد أكثر بعضهم من النظم في هذا الغرض، حتى أنهم خصوه بديوان كامل، ومن هؤلاء: عبد الكريم الفكون، ولا غرابة في ذلك، لأنه كان أمينا على ركب الحج الجزائري مدة طويلة، وقد وصفه العياشي بأنه كان يذهب كل سنة حتى بعد أن تقدمت به السن، ووصف العياشي هذا الديوان، وقال إن الفكون قد رتبه على حروف المعجم، وكتب عليه: "مما يمدح به عند الغمة، وساعة الغياهب المدلهمة". وكان الفكون قد نظم هذا الديوان، بعد أن أصيب بمرض غريب ألزمه الفراش سنة كاملة، وشل نصفه الأيسر، ولم يكن يرجو برءا منه، فشفاه الله. وللفكون قصائد أخرى في التوسل وغيره.

10

          وكل من ابن حمادوش وابن عمار، قد تحدث عن عادة أهل مدينة الجزائر في المولد النبوي، ونعرف مما ذكراه، أن البلاد كانت تحتفل بهذه المناسبة احتفالا كبيرا، يتلى فيها البخاري طوال الليل، وتضاء الشموع الضخمة، ويطوف القراء وغيرهم الشوارع، وهم حاملون المصابيح. وإذا كان ابن حمادوش، قد ركز في وصفه على المظاهر الاجتماعية والدينية عند الاحتفال، ليلة ختم صحيح البخاري، فإن ابن عمار، قد أعطانا صورة حية عما كان يفعله الشعراء، بالخصوص أثناء الاحتفال بالمولد النبوي، فهو يقول إنه كلما دخل شهر ربيع الأول، شرع أدباء الجزائر وشعراؤها، في نظم القصائد والموشحات النبوية، وكان ابن عمار من بين ثلاثة شعراء، اشتهروا بنظم الموشحات والقصائد المديحية في هذه المناسبة، فقد أنشأ موشحا عند حلول شهر ربيع الأول وتاقت نفسه للحج، قائلا في فاتحته:              

                               يَا نَسِيمًا بَاتَ مِنْ زَهْرِ الرُّبَــــا           يَقْتَفِـي الرُّكْبَـانَ

                              احْمِـــلْـــنَ مِـــنِّي سَلَامًــــا طـَــيِّـــبَـا           لِأَهِـــيـــلِ الــبَــانِ

          ورغم أن ابن عمار، قد لاحظ أن الشعر القريض (الموزون والمقفى)، الذي يتناول المدائح النبوية قليل في عصره، فإنه قد ذكر أن أحمد المانجلاتي، قد برع فيه وفي الموشحات أيضا. فقد اعتبره ثالث اثنين، هما: البوصيري، وابن الفارض، في القصائد النبوية، ومن الموشحات الجميلة التي جادت بها قريحة المانجلاتي، نذكر موشحه (نلت المرام)، الذي يقول فيه:

                    بِاللهِ حَـــادِي القْــطَـارْ        قِفْ لِي بِتِلْكَ الـدَّارِ            وَاقْرَ السَّـــــلَامِ

                    سَلِّمْ عَلَى عَرَبِ نَجْدٍ        وَاذْكُرْ صَبَابَةَ وُجْدِي          كَيْفَ يُــــــــــــلَامِ

                    مَنْ بَادَرَتْـــهُ الـــدُّمُـــوعُ        شَوْقًـــا لِـتِـلْـكَ الـــرُّبُــــوعِ            مَـــعَ المـــقَــــامِ         

          والواقع، أن معظم الشعراء والأدباء المعروفين، قد نظموا في المدائح النبوية، والفرق بين شاعر وآخر، هو في الجودة وصدق العبارة، فابن سحنون الذي تفرغ لخدمة الباي محمد الكبير، لم ينس المدينة المنورة، فأورد قصيدة طويلة في ذلك، في شرحه على (العقيقة)، وحين افتخر ابن حمادوش بأنه لم يجعل شعره في مدح الأمراء، أشار إلى أنه قد جعل شعره في أغراض أخرى، منها: مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.

           لا شك أن التوسل إلى الله برسوله (ص)، يدخل في هذا الباب، وقد شاع عند المتصوفة عموما، وعند بعض الفقهاء، وحتى عند الشعراء، وللفكون في هذا الجانب عدة قصائد، منها: (سلاح الذليل في دفع الباغي المستطيل)، و(شافية الأمراض لمن التجأ إلى الله بلا اعتراض)، وللمفتي محمد بن الشاهد قصيدة في هذا المعنى، جاء فيها:

11

                    بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى فَتَحْتُ تَوَسُّلِي    وَمِنْكَ رَجَوْتُ العَفْوَ أَسْمَى مَطَالِبِي

          مما يدخل في هذا المعنى، نظرة بعض رجال الدين إلى الإنسان، كونه ريشة في مهب الريح، ليس له خيار فيما يختار، وقد شغلت قضية الإنسان، مجبرا أو مخيرا، حيزا كبيرا من مناقشات الفلاسفة والمتكلمين، منذ أمد سحيق، ولكن الشعراء لم يبقوا بمعزل عن هذه المناقشات، وممن نظم شعرا في كون الإنسان مجبرا على فعل ما يفعله، نذكر الشاعر أحمد البوني، الذي تنسب إليه بعض الأبيات في هذا المعنى، يقول الشاعر:

                         كُلُّ الأُمُورِ لِمُبْدِيهَا وَخَالِقِهَـــا        فـَــمَـا عَلَى العَبْدِ تَخْـيِـيـرٌ وَتَـدْبِــيــرُ

                         فَاللهُ يَعْلَمُ مَا لِلْعَبْدِ مَصْلَحَةٌ         فِيهِ وَقَدْ يَصْحَبُ التَّعْسِيرَ تَيْسِيرُ

          ومهما يكن من أمر، فإن الشعر الديني بجميع أغراضه، كثير في هذا العهد الذي ندرسه، ولم نأت منه هنا، إلا على نماذج للتعرف على غرضه، وقوة أو ضعف الوسيلة التي قُدِّمَ بها. ومن نافلة القول، إن هذا الشعر كان مرآة لثقافة أصحابه، وبقي أن نشير إلى أن المراثي الأخرى العامة، سنتناولها في الشعر الاجتماعي، وليس في الشعر الديني، لأنها إلى ذلك أقرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Last modified: Wednesday, 15 November 2023, 9:35 AM