لم تنجب جزائر القرن الخامس عشر الميلادي، شاعرا متميزا مثل ابن خميس في السابقين، وابن علي في اللاحقين، بل إنها لم تنجب أديبا بارزا، يغشى بأدبه بلاطات السلاطين ومجالس الطرب، كما فعل الشاعران: محمد بن عبد الرحمن الحوضي، في غرب البلاد (تلمسان)، وأحمد بن محمد الخلوف، في شرق البلاد (قسنطينة)، الأول: شاعر بلاط الزيانيين، والثاني: شاعر بلاط الحفصيين، وقد اشتهرا بشعر المدح، والشعر الديني أيضا. وشعر هذه الفترة في عمومه، قد اختلط بالتاريخ، كما كان الحال عند التنسي، أو اختلط بالتصوف والمدائح النبوية، كما كان الحال عند الحوضي، أو طغت عليه الشروح والمتون. ومن الغريب أن نتحدث عن التأثير الأندلسي، في الحياة الاجتماعية والثقافية، ثم لا نجد طريقة أندلسية جزائرية في الأدب، تميز بها هذا القرن، وتلاقحت فيها مواهب الأندلسيين وقرائح الجزائريين.

          ترك الحوضي مجموعة أشعار في مختلف الأغراض، منها -زيادة إلى ما ذكرنا- الغزل، والرثاء، والتصوف، وقد حُفظت لنا بعض أشعاره وأراجيزه في مختلف الأغراض، من ذلك: قصيدته الغزلية (الطنانة)، التي أوردها أبو حامد المشرفي، في كتابه (ذخيرة الأواخر والأول)، وقد قال المشرفي عنها: إنها قصيدة تفتح الشهية، وفيها من رقة اللفظ وعذوبته، ما يجعلها صادرة عن شاعرية قوية في ذلك الوقت، ويلغي عنها صفت التصنع التي أُلصقت بها، ومنها هذه الأبيات:

                     أَرُذَاذُ المزْنِ مِــــــنْ عَـــــيْـــنـــِي نَـــــزَلْ        أَمْ دُمُـــوعُ الـــشَّـــوْقِ إِذْ رَقَّ الغَــزَلْ؟          

                     أَبِـــــعَـــــيْـــــنــــــِي دَمْــــــعَـــــــةٌ وَكَــــــــافَّـــــــــــة        أُمُّ شُـــعَـــيْـــبٍ لِلْنَــــوَى مِــنْهَــــا انْتَزَلْ؟

                     لا بَكَتْ عَيْنِي وَلَا أَبْقَــــــى الـــبُكَـــــا        ضَـــوْءَهَـــا عَـــنْ فِعــْــلِهَــا إِنْ لَمْ تَزَلْ

                      دَعْ عَذُولِي اللَّوْمَ إِنِّي شَــــــائِـــــقٌ         رَقَّ طَبْعِي دُونَ صُنْعِي فِي الأَزَلْ

                      أَوَ يَنْسَــى الـــعَــهْــــــــدَ قَلْبٌ دَنَف          وَالهَـوَى قَـــبْـــلَ الـــنَّوَى عَـــنْــــهُ نَــــزَلْ؟

                      لا تـَـلُــمْـنِي دُونَ عِـــلْـــمٍ عَــــــاذِلِي         فَـــبِــسَــمْعــِي صَمَمٌ عَــــمـــَّـنْ عَـــذَلْ

                      إِنَّ فِي نَــــــارِ هَــــــوَاكُـــــمْ جَـــنَّـــتِي          لَــوْ عَــلِــمْـتُ الحَبْلَ مِنْكُـمْ يَتَّصِلْ

                      أَمِّـــنُـــوا رَوْعَـــةَ قَلْبِي بـِـــالـــــلِّــــــقَــــــا          فَــانْتِظَـــارُ الوَعْدِ قُرْبٌ إِنْ حَصَلْ

          كتب الحوضي أيضا في الرثاء، مثل قصيدته في رثاء شيخه محمد بن يوسف السنوسي، وهي قصيدة طويلة استهلها بقوله:

08

                     مَا لِلْمَنَازِلِ أَظْلَمَتْ أَرْجَاؤُهَا        واَلأَرْضُ رُجَّتْ حِينَ خَابَ رَجَاؤُهَا؟

ومن شعره في المديح النبوي، قصيدة تُذَكِّرُ بقصائد ابن الفارض في التصوف، فيها مزجٌ بين حب النبي والعشق الإلهي، ومنها هذه الأبيات:

                     لا تَسَلْ عَنْ غَرَامِ قَيْسٍ وَلَيْلَى           وَاسْتَمِعْ سُورَةَ الهَوَى كَيْفَ تُتْلَى

                     آيـَـةُ الحُـبِّ فِي المحِـبِّـينَ وُجْـدٌ           مَــعَــــهُ لا تـُـــــرَى الحَـــــيــَـــــاةُ بـِـأَوْلَى

                     أَنَــــــــا صَـــبٌّ مُــتَــيَّــمٌ مُــسْــتَــهَـــــــامٌ            لَمْ يَـدَعْ لِي مَــــنْ أُحِـــبُّــــهُ عَـــقْـــلَا

                     قَدْ سَرَى حُبُّهُ بِكُلِّي وَبَعْضِـــي            كَيْفَ أَسْلُو وَكَيْفَ لِي أَتَسَلَّى؟

          وله في هذا المعنى، قصيدة على وزن بردة البوصيري وقافيتها. إذن، كان الشاعر الحوضي، شاعر القصر وشاعر الحب النبوي في الوقت نفسه، ولا شك أنه كان بين تيارين: تيار دنيوي تتجاذبه السياسة، والجاه، والحياة الأدبية، وتيار أخروي، بدأت تسيطر عليه عقائد الصوفية.

          إذا انتقلنا إلى معاصره أحمد الخلوف، ألفيناه كذلك محتارا بين التيارين، فالزركشي صاحب كتاب (تاريخ الدولتين)، قد "حلاه ونوه به ونقل من شعره" في شرحه لبعض القصائد. ولكن يبدو أن الذي نوه به الزركشي، هو شعر المدح السياسي، الذي قاله الخلوف في السلطان الحفصي عثمان. ومهما يكن من أمر، فإنه بإمكاننا القول، إن جزءا من شعر الخلوف (شعر المدح خاصة) لم يضع، وأنه ما زال مخطوطا في تونس. كما أن ديوان الخلوف، في المدائح النبوية أو الشعر الديني لم يضع أيضا. ويبدو فيه أنه قد سار على سيرة الحوضي، فقد وضع في الديوان عناوين للقصائد، مثل: قطر الغمام في مدح خير الأنام، ومثل: استرواح القبول بمدح طه الرسول، ومثل ذلك كثير. وقد أخبر عبد الرحمن الجيلالي، أنه يملك من هذا الديوان نسخة تقع في 246 صفحة، واعتبر قصائد الخلوف فيه من عيون الشعر، وأنها طويلة، حتى أن القصيرة منها لا تقل عن مئات الأبيات.

          ويبدو أن الخلوف قد تولى مناصب سلطانية كالكتابة، وكانت له موهبة في الشعر والأدب ظهرت مبكرة، وقد ترك إلى جانب أشعاره، كتابا في العروض، وآخر في البديع، ورجزا في الصرف. ويتبين من هذه الآثار، أن الخلوف كان أكثر اهتماما بالاتجاه الدنيوي من زميله الحوضي، الذي غلب عليه كما لاحظنا، التصوف وبالأخص في أخريات أيامه، ولعل ذلك يعود إلى ثقافة كل منهما، وأثر العصر والبيئة في كل منهما.

 

 

09

Modifié le: mercredi 15 novembre 2023, 09:32