الشعر الجزائري في القرن الخامس عشر للميلاد
*بواعث الشعر الجزائري القديم:
قبل كل شيء، يجب التذكير أن دواوين الشعراء الجزائريين، ما تزال في طي الكتمان، ولا نعلم أن واحدا منها، مما يعود إلى العهد العثماني قد جُمع وحُقق، وما نُشر عن المنداسي في هذا الصدد، لا يناقض هذا الرأي، فدواوين: المنداسي، والمقري، وابن سحنون، وابن الشاهد،... وأضرابهم، لم تُنشر أو تُعرف بعد. وكل ما نعرفه عن هذا الشاعر أو ذاك، هو بعض الأبيات أو القصائد المثبتة عرضا، في أحد المصادر التاريخية أو الفقهية أو المتفرقة في الوثائق العامة. ولعل ظاهرة الإهمال للشعر وأهله، تؤكد ما ذهب إليه ابن خلدون، من أن أهل المغرب العربي قد أضاعوا رواية أشعارهم وأخبارهم، فأضاعوا أنسابهم وأحسابهم، ومن العجيب أن هذا الرأي، كان حافزا لعدد من الشعراء على تدوين إنتاجهم، ومن هؤلاء: أحمد بن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، وأبو راس الناصر في (الدرة الأنيقة).
يتحدث ابن حمادوش عن نفسه، بأن له ديوانا في الغزل، والنسيب، والمراثي، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن له شعرا يضم أيضا أغراضا أخرى، كالفخر، والحنين إلى الوطن والأهل، والوصف، ومدح الأمراء... وغير ذلك، ورغم أن (نفح الطيب) و(أزهار الرياض)، قد ضما كمية من أشعار المقري، فإن له أيضا كناشا يحمل اسمه، محشو أدبا أندلسيا وغيره (موجود بالمكتبة الوطنية بتونس)، ولسعيد المنداسي مجموعة قصائد في أغراض مختلفة، ما تزال مخطوطة في المكتبة الوطنية بالجزائر، وينسب إلى سليمان بن علي التلمساني، ديوان ما زلنا لا نعرف محتواه، ولا يزال مخصوصا في إيران.
كانت بواعث الشعر -والجيد منه على الخصوص- قليلة، ومن أهمها بالطبع: الباعث الديني، فالشعراء كانوا يسجلون مشاعرهم في المواسم الدينية المعروفة، كالحج، والمولد النبوي، بنظم الموشحات والقصائد، ولم يكن ولاة الجزائر - باستثناء حاكمين أو ثلاثة - يثقفون الشعر حتى يشجعوا عليه، في الوقت الذي كان فيه الشعر العربي عموما، شعر مدح أو بلاطات.
05
كان النزاع بين الجزائر وإسبانيا، باعثا لعدد من الشعراء، على الدعوة للجهاد وتمجيد النصر، وهو باعث سياسي وديني لا غبار عليه. وهناك أيضا مجال الطبيعة والمدن، والحنين إلى الأهل والوطن، والمرأة، بالإضافة إلى البواعث الاجتماعية، كرثاء عزيز أو تبادل التهاني، وحتى التماجن، لأن المجتمع الجزائري لم يكن منغلقا على نفسه، وكانت أهم المدن مسرحا لتيارات عديدة، أوربية، وإسلامية، وشرقية، وأندلسية، فكانت الخمر رائجة، وكان الفساد الاجتماعي والأخلاقي منتشرا. ويضاف إلى الأغراض المذكورة، عدد من الأغراض التقليدية، والتلغيز، واتخاذ الرجز وسيلة للنظم في التاريخ، والفقه، والتصوف. وهكذا، نجد أن بواعث الشعر الاجتماعية كثيرة ومتنوعة، وأن المجتمع كان متصلا، وفيه ما في المجتمعات الأخرى المشابهة، من عبث، ومجون، وتحلل.
من القضايا التي شغلت بعض الكتاب، هي علاقة الشعر الفصيح بالملحون، وعلاقة الشعر عموما بالحياة والدين، وقد شكا أحمد بن سحنون من غلبة العجمة على ألسنة الناس، ولجوء الشعراء إلى الملحون بدل الموزون أو الفصيح، ثم شكا بمرارة من تخلُّف الشعر، وندرة الجيد منه، وقد اتخذ الناس الشعر الملحون أيضا، أداة للمدح، والهجاء، والدين، والغزل، والمقاصد الأخرى، التي اعتاد أن يطرقها الشعر الفصيح، يقول ابن سحنون في هذا الشأن، وهو يتحدث عن الباي محمد الكبير ومدح الشعراء له: « اعلم يا أخي أن الألسنة غلبت عليها العجمة، وارتفع منها سر الحكمة، فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه يهجون ويمدحون، ولهم في ذلك فنون رقيقة، ومعاني رشيقة، وقد مدحوه بما لا يملك حصره، وذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب، وعلى قلة المعرب في هذا العصر، فقد قيل فيه منه ما لا يأتي عليه الحصر، غير أن منه الفقهي الذي لا يثبت إما لتكسر مبانيه، أو لاختلال معانيه، ومنه ما بلغ الغاية، وصار في لطافته ورقته آية...». من كتاب: (الثغر الجماني) الذي لا يزال مخطوطا في باريس لأحمد بن سحنون. ص 16.
لقد اضطر عبد الرحمن الجامعي المغربي، في شرحه على رجز الحلفاوي في فتح وهران، إلى الاستشهاد بالشعر الملحون، وبرر ذلك بأن المعنى أحيانا يتوقف عليه، وأن الشعراء قد قالوا شعرا كثيرا ملحونا في هذه المناسبة، ثم إنه ما في ذلك من بأس، فإنه في هذا القطر (الجزائر) أساس الكثير من الناس، وقد اتبعه أبو راس في ذلك، فقال بأنه لا بأس من إيراد الشعر الملحون، لأنه قد أصبح لسان الكثير من الناس. من كتاب: (الدرة الأنيقة). مخطوط باريس ورقة2).
06
إن قضية الشعر والدين، أوسع من أن تحصر في شرح الشعر وفقط، صنيع أبي راس مع قصيدة ملحونة مثل (العقيقة)، ففي عصر ساد فيه التصوف، لا نستغرب أن يقف المتصوفة ومن يتصل بهم، ضد الشعر المعروف في أغراضه التقليدية، ما عدا الشعر الديني، فالورتلاني مثلا، قد حكم بمنع الأشعار التي فيها ذكر الخدود والقدود، وتسمية المحبوبة من النساء المرغوب فيها الفساد، أما شعر الوعظ ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حكم بجوازه، بل إنه أجاز كسر الأوزان الشعرية لأجله، واعتبر أن الإصرار على استقامتها هو مذهب المتأخرين، ولا شك أن هذا الرأي، يتماشى مع قدرته هو الشعرية، فإن قصائده كانت في أغلبها مكسورة ومختلة.