الحجاج والخطابة الجديدة(2)، الحجاج عند الأرسطيين الجدد-شايم بيرلمان،لوسي أوليبرخت تيتيكاه
1-مقدمة
تأسست البلاغة الجديدة أو البلاغة الحجاجية منذ 1958 مع رجل القانون التشيكي شايم بريلمان، واللسانية البلجيكية لوسي أولبيرخت تيتيكاه، حيث أصدرا معا كتابهما –مصنف في الحجاج- الخطابة الجديدة – أعيد طبعه منذ ذلك التاريخ طبعات: أعوام 1970، 1976، 1988 و1992. قسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي:
- قسم تناول فيه أطر الحجاج.
- قسم تناول فيه منطلقات الحجاج.
- قسم تناول فيه تقنيات الحجاج.
والغرض من الحجاج عندهما هو الإقناع، والتأثير، والتداول، والتواصل والتخاطب، ومن ثم فالحجاج فعالية تداولية جدلية ديناميكية فعالة، تستلزم وجود أطراف تواصلية بينها قواسم حجاجية مشتركة، إذ يمتلك المرسل الخطيب مؤهلات معرفية وأخلاقية كفائية، ويستعمل في حجاجه اللوغوس الاستدلالي بغية إقناع الآخر.
لا يعتمد الحجاج عند بريلمان على العنف أو التضليل أو التوهيم، بل غرضه بناء الحقيقة عن طريق الحوار البنّاء والاستدلال الذي يكون ذهنيا، فالبلاغة الجديدة هي تلك البلاغة الحجاجية التي تتعارض مع بلاغة الصور الفنية، والمحسنات البديعية، ويمكن اعتبارها بلاغة أرسطية جديدة، لأن بريلمان قد اشتغل على القضايا الحجاجية نفسها لكن في ضوء رؤية جديدة.
لذلك اعتبرت نظرية بريلمان الأشهر والأعمق في المجال الحجاجي المعاصر، على الرغم من صدور كتاب (وجوه استخدام الحجاج ) للبريطاني ستيفن أدلون تولمين سنة 1958، وهي السنة نفسها التي صدر فيها كتاب بريلمان، والذي كان تميزه نابعا من مزجه معارف عدة في تصوراته الحجاجية من جهة، ومحاولته تخليص الحجاج من الاستدلالية إلى محاولات الاستخدام اليومية واللغة المعاصرة للعلوم الإنسانية من جهة أخرى، وهذا ماجعل بريلمان يصرح بأنه يقدم نظرية هي البلاغة الجديدة.
2-الحجاج عند بريلمان المحددات والأطر:
1-تعريف الحجاج:
يعرف بريلمان الحجاج انطلاقا من موضوعه الذي هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم.
2-وظائف الحجاج:
1- الإقناع الفكري الخالص.
2- الإعداد لقبول أطروحة ما.
3- الدفع إلى الفعل.
أما الغاية فيقول عنها:"أن غاية كل حجاج أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها، أو يزيد في درجة الإذعان لتقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب (انجازا له أو إمساكا عنه). بهذا يكون بريلمان قد طابق البلاغة والحجاج.
3- أقسام الحجاج:
يقسم المؤلفان الحجاج إلى قسمين، حسب كيفية العمل على الإذعان إلى:
1.حجاج ذاتي، وهو الحجاج الإقناعي (L'argumentation persuasive) يقع بمخاطبة الخيال والعاطفة، فلا يدع مجالا، لتدخل العقول، وهو يسعى إلى إقناع جمهور خاص.
2.حجاج اقتناعي (l'argumentation convaincante) حجاج يرمي إلى أن يسلم به كل ذي عقل فهو عام، لهذا يتبناه المؤلفان كحجاج للإذعان، الذي أسس لنظريتهما في الحجاج، فهو يحقق مذهبهما في حرية الاختيار على أساس عقلي، وحسب ما يفهم مما جاء في مؤلفهما، فإنّ تحقيق الاقتناع الذي هو غاية الحجاج، يقع في منطقة وسطى بين الاستدلال والإقناع؛ فالاستدلال مجاله المنطق، وهو منطق صوري لا يقبل اللبس، عناصره مشتركة بين جميع الناس، حيث لا يثير تأويلها أي مسائل خلافية، إذ تستنبط من مقدماته نتائج تفضي إليها تلك المقدمات ضرورة بدون أي لبس، فالحقيقة فيه مضمونة وواحدة.
بينما الإقناع هو فن المناورة، أو فن الإيعاز ويقع الاقتناع بينهما في مسار حواري (dialogique)، يستخدم أحكام القيمة (برهنة/جدل) فتكون الحقيقة فيه نسبية مرتبطة بالمقام يتوصل إليها عن طريق حرية الاختيار في إعمال العقل وعدم التوجه بالضرورة إلى مخاطبة الخيال والعاطفة، كما هو الحال في الإقناع، لتكون النتيجة، أن الإذعان يحصل بالاقتناع، الذي يخدم توجههما في كون الحجاج «حرية الاختيار على أساس عقلي»، ليتنزل الاقتناع منزلة حجر الزاوية في الحجاج والإذعان، ذلك الإذعان الذي يؤسسان عليه مفهومهما للنظرية الحجاجية.
4-منطلقات الحجاج:
الخطاب الحجاجي قبل أن يستوي كيانا مشكلا من تقنيات حجاجية يواجه بها المتكلم المخاطَب، لإيقاع التصديق، ينطلق من منطلقات حجاجية مدارها على مقدمات، تؤخذ على أنها مسلمات يقبل بها الجمهور، فمنطلقات الحجاج هي ما يتوسل به المتكلم في سياق حجاجه، وما يعينه على بناء استدلاله.
-أهم منطلقات الحجاج:
1- الوقائع: تمثل ما هو مشترك بين عدة أشخاص، أو بين جميع الناس، إن الوقائع لا تكون عرضة للدحض أو الشك، وهي تشكل نقطة انطلاق ممكنة للحجاج، وتنقسم إلى وقائع مشاهدة معاينة من ناحية، ووقائع مفترضة من ناحية أخرى.
2- الحقائق: تقوم على فكرة الربط بين الوقائع، وبذلك فهي تتعلق بالنظريات العلمية والتصورات الفلسفية والدينية المتعالية عن التجربة.
3- الافتراضات: هي أحكام قبلية، أو آراء مسلم بها من طرف المعنيين، ولا يقوى التسليم بها إلا في سياقها الحجاجي، فهي ليست ثابتة، وإنما متغيرة تبعا للوسط والمقام والمتكلم، والسامعين لأنها تقاس بالعادي وهو مختلف ومتغير.
4- القيم: ليست كونية لأنها ذات صلة بتطلعات مجموعات خاصة، وهي إما مجردة مثل العدل والحق، أو محسوسة مثل الوطن.
5- الهرميات: أي خضوع القيم إلى ترتيب وهرمية ما، وذلك يكسب البناء الحجاجي طابعا علميا.
6- المعاني أو المواضع: أي المقدمات العامة التي يلجأ إليها المحاجج لبناء القيم، وترتيبها على أنها مخازن الحجج؛ وهي أنواع:
أ- مواضع الكم: تُعنى بالمفاضلة بين شيئين لاعتبارات كمية.
ب- مواضع الكيف: تبرز خاصيتها الحجاجية في التمايز الحاصل بين الأشياء أو الأفعال فيما بينها.
ت- مواضع أخرى: منها مواضع الترتيب كالاعتبار السابق، مثل المبادئ والقوانين في التفكير غير الاختياري، كالسابق أفضل من اللاحق، وهي وقائع تنتج عن تطبيق تلك المبادئ، ومنها أيضا: مواضع الموجود التي تقول بفضل الموجود والراهن، والواقع على المحتمل، والممكن أو غير الممكن، وعلى هذا ربما بني المثل الشعبي القائل: عصفور في اليد خير من عشرة فوق الشجرة.
5-تقنيات الحجاج:
تتوزع التقنيات التي يقوم عليها الحجاج بالمفهوم الذي وضعه لها بيرلمان وتيتكاه على نوعين من الطرائق؛ طرائق الوصل أو الاتصال (Procèdes de liaison)، وطرائق الفصل أو الانفصال (Procèdes de dissociation) المقصود بالطرائق الاتصالية، الطرائق التي تقرب بين العناصر المتباينة في أصل وجودها، لتدخل ضمن بعضها فتشكل بنية واضحة، حصر الباحثان هذه الطرائق في ثلاثة أنواع من الحجج هي:
1- الطرائق الاتصالية:
1.حجج شبه منطقية.
2.حجج مؤسَسَة على بنية الواقع
3.حجج مُؤسِّسَة لبنية الواقع
1.الحجج شبه المنطقية (Argument quasi logique): وهي أدلة تستمد طاقتها الإقناعية من مشابهتها للطرائق الشكلية والمنطقية والرياضية في البرهنة، وهي تعتمد البنى المنطقية، مثل التناقض (Contradiction ) والتماثل التام، أو الجزئي (Identité totale au partielle)، كما تعتمد العلاقات الرياضية، مثل علاقة الجزء بالكل، وعلاقة الأصغر بالأكبر.
أما الحجج شبه المنطقية المعتمدة على البنية المنطقية فتتلخّص في:
1. التناقض وعدم الاتفاق (التناقض):
هو توفر قضيّتين، إحداهما نفي للأخرى، (ينزل المطر، لا ينزل المطر)، بينما يعني عدم الاتفاق أو التعارض، اختيار إحدى القضيّتين، وطرح الأخرى استنادا إلى الواقع، والظروف أو المقام، يوضح بيرلمان ذلك بمثال «موقف من يحجر قتل الكائن الحي، ويدعو رغم ذلك إلى معالجة مريض يشكو التهابا»، الجراثيم هي المسببة للالتهاب، والجراثيم كائنات حية، استعمال مضادات حيوية تقضي على الجراثيم، وهنا تتعارض أطروحتا حجر قتل الكائن الحي، ومعالجة المريض، سيكون الفرق بين التناقض والتعارض هو كون التناقض يدخل داخل نظام واحد، أما التعارض، فيحدث في علاقة الملافيظ بالمقام.
2.التماثل والحدّ في الحجاج: يدور هذا النوع المنطقي للحجة، على حدود التعريف (Définition) من حيث هو تعبير عن التماثل بين المعرّف والمعرِّف وهما يتماثلان لفظا، الأمر الذي يجعلنا، نعتبر اللفظ الثاني محمولا على المجاز. ذلك لتجنب اعتبار العبارة الثانية ضربا من الحشو. ومثل ذلك الصيغ القائمة على التماثل، ويتم استعمال التماثل لتقويم الأشياء تقويما إيجابيا، أو سلبيا بواسطة الحشو، كقول القائل: «حين أرى، ما أرى، أفكر فيما أفكر»، الملاحظ هنا حشو الكلام، وتكراره، غير أنّ الدلالة المقصودة تكمن في اللفظ الثاني، ومن ذلك اعتبار الدلالة المحصلة من هذا الحجاج، دلالة محددة سلفا، لكن لا يتم نسبة هذه الدلالة إلى الحجاج، إلا إذا ارتبطت بالمقام، فلا يمكن استنتاج المساعي الحجاجية في كلام محشو ومكرور، إذا لم يكن في سياق ومقام معين يضمن له مكانته الدلالية والحجاجية.
3.الحجج القائمة على العلاقة التبادلية (Arguments de récprocité): تحاول هذه الحجج الموائمة بين حجج عكسية، فتجعلها متماثلة إلى حد تطبيق قاعدة العدل (La règle de justice) مثل الحجج القائمة على التناظر، الذي يطبّق فيه قاعدة العدل من قبيل قولنا: «ضع نفسك مكاني»، (Mettez vous à ma place) فهي إذا حجج تتحقق بعكس القضايا، شرط توخي قواعد العدل.
4.حجج التعدية (Arguments de transivité):
تقوم على استنتاج علاقات معينة، انطلاقا من توظيف قيمة عنصر ثالث، يتم المرور عبره، لتأكيد العلاقة بين العنصرين، الأول، والثاني، مثل قولنا: «عدوّ عدوّي صديقي»، فالحكم الأخير من خلال علاقة عدوي بعدوه، فعدوه بالضرورة يكون صديقا لي، إذ نشترك في عداوة نفس الشخص.
أما الحجج شبه المنطقية التي تعتمد العلاقات الرياضية فمنها:
1.إدماج الجزء في الكل: أي ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء.
2.تقسيم الكل إلى أجزاء: يتم تقسيم الكل إلى أجزائه المكوّنة له حتى يشحن كل جزء على حدة، بشحنات حجاجية، على هذا التصوّر تبنى حجج تسمى «حجج التقسيم « ، أو التوزيع كقولنا: «الكلام اسم وفعل»، البرهنة على الأجزاء المكوّنة للكل، تقود حتما إلى البرهنة على ذلك الكل، تسعى الحجج الشبه منطقية إلى البرهنة على موضوعاتها، بواسطة طرق عقلية، ومنطقية، ورياضية.
2. حجج مؤسسة على بنية الواقع (Les argument bases sur structure de réel): هي من قبيل الربط السببي، وحجة السلطة؛ تستخدم هذه الحجج الحجج شبه المنطقية المذكورة آنفا، للربط بين أحكام مسلّم بها، وأحكام يسعى الخطاب لجعلها أحكاما مسلّما بها، هذه العلاقة تؤسس لمشروعية نعتها بالحجج الاتصالية، إذ تضع الأحكام المسلّم بها، والأحكام غير المسلّم بها، في نطاق واحد بعد وصلها. من أنواع هذا الاتصال في الأحكام:
-الاتصال التتابعي (Liaison du succession): يصل بين ظاهرة ما وبين نتائجها، أو مسبباتها، وله عدة أوجه:
أولا: الوصل السببي: له ثلاثة أضرب من الحجاج؛ حجاج يرمي إلى الربط بين حدثين متتابعين.
وحجاج يقع بواسطة رابط سببي: زرع فحصد (السببية). وحجاج يرمي إلى أن يستخلص من حدث ما وقع سبباً أحدثه وأدى إليه: حصد لأنه زرع.
وحجاج يرمي إلى التكهّن بما سينجز عن حدث ما من نتائج.
هو يزرع فسيحصد – من قبيل الحتمية
الملاحظ في الحجاجات السابقة اعتمادها على نتائج الأحداث، فتكون قوة حجاج الحدث بالنظر إلى النتائج التي يحققها، والتغيير في سلوكات متلقيها ليفتح بابا كبيرا، يشتمل علاقة الحجاج بأفعال الكلام.
ثانيا: حجة التبذير (L'argument de gaspillage): تقوم على الاتصال والتتابع، يقول بيرلمان ممثلا لهذه الحجة: «بما أننا قد بدأنا في إنجاز هذا العمل، وضحينا في سبيله بالكثير، فإننا نكون إن أعرضنا عن إتمامه، لكان ذلك مضيعة لجهودنا، وبالتالي فإنه علينا أن نواصل إنجازه»، استعمال هذه الحجة يعتمد على جانب الاتفاق على استهجان فكرة التبذير في كل المسائل.
ثالثا: حجة الاتجاه (L'argument de direction): تقوم على فكرة التحذير، كالتحذير من إتباع الإنسان سياسة التنازل في بعض الأمور، لأنّ سلسلة التنازل إذا بدأت فلن تتوقف، أيضا التحذير من مغبّة انتشار ظاهرة ما؛ وهو ما يسمى بحجة الانتشار أو حجة العدوى، حيث تنتشر هذه الحجج بسرعة، عندما تأخذ القيم من حجج أخرى لتصبح مثلها، سواءً كانت تلك القيم سلبية، أو إيجابية، لهذا وسمت هذه الحجج بحجج الاتجاه؛ لأنها تؤثّر في باقي الحجج، وفي اتجاهها بالأخص.
-الاتصال التواجدي (Laison de coexistence):
يكون هذا النمط من الاتصال بين الشخص وأعماله «التداخل بين العمل والشخص»، وهو الآخر ذو وجوه متنوعة:
أولا: الشخص وأعماله: يرتبط مفهوم «الإنسان وأعماله» من حيث هما مفهومان مترابطان، لا يمكن الفصل بينهما، فالإنسان هو «مجمل المعلوم من أعماله، أي بتعبير أدق هو العلاقة بين ما ينبغي أن نعتبره جوهر الشخص، وبين أعماله التي هي تجليات ذلك الجوهر»، تكشف هذه الأعمال عن جوهر الشخص، وهو بدوره بفضل نشاطه في السياق، يعرفنا ويفهمنا أعماله؛ إذ يحتل السياق مكانا هاما في توضيح قصد الشخص ونيّته، ومعرفة نية الشخص تمثل مناط الحجاج، إذ ما يشترك في تكوين الحجاج وتقويمه، معرفة الشخص، ومعرفة جوهره، وكذلك معرفة عمله ضمن سياق معين، وذلك كله المقصود بمعنى التداخل بين الشخص وعمله.
ثانيا: حجة السلطة (Argument d'autorité): تستمد هذه الحجة وجودها من سلطة معينة، سواءً سلطة المتكلم، أو سلطة المحتج له، أو حتى سلطة الحجة في ذاتها، إذا كانت مستعملة من قبل من طرف شخصية لها سلطة، وقد تكون حجة السلطة صادرة عن «إجماع» أو عن «رأي عام» أو «علماء» أو «فلاسفة» أو «أنبياء» أو عن عقائد، أو علوم يقينية، المهم أن تكون ذات سلطة، تجعل الجمهور معترفا بها مذعنا لها.
ثالثا: الاتصال الرمزي: هذا النوع من الاتصال التواجدي يحدد قيمة الرمز ودلالته من خلال إدراكه للترابط الزمني، بين الرامز، والمرموز إليه؛ حيث تكون تلك العلاقة علاقة مشاركة وتبرير (Rapports de participation motivation) يقوم هذا الوصل «على الانتقال من الرمز إلى ما يرمز إليه، مثلما ينتقل من العَلَمِ إلى الوطن ومن الصليب إلى المسيحية...» ، تشير الأمثلة السابقة إلى علاقة المشاركة بين الرمز، والمرموز إليه، وهي غالبا ما تكون عبارة عن عواطف تثار لتظهر تلك العلاقة.
3.حجج مُؤسِّسة لبنية الواقع (Les arguments qui fondent la structure de réel) وهي حجج تستخدم الحالات الخاصة شأن الشواهد والأمثلة، تقوم هذه الحجج على مستويين:
أولا: تأسيس الواقع بواسطة الحالات الخاصة: كالمثل (l'exemple) يؤتى به لتأكيد فكرة مطروحة، يستعمل للحجاج عادة في حال خلاف بارز في إحدى الفرضيات الحجاجية، يأتي بالمثل لدعمها، وإقناع الجمهور بها، إضافة إلى المثل نجد الاستشهاد بالنصوص ذات القيمة السلطوية، كالمقولات الدينية، ومقولات الخالدين عند الجمهور «لأنّ قيمة الشخص المعترف بها سلفا من قبل السامعين، يمكن اعتبارها مقدمة حجاجية مهمة، توظف في تحقيق العديد من النتائج»، ولهذا دور بارز في تقوية العملية الحجاجية في الخطاب، هذه الحالات الخاصة كما عبر عنها بيرلمان، هي حجج تستنبط من الواقع.
ثانيا: الاستدلال بواسطة التمثيل (analogie): يذهب بيرلمان وتيتكاه إلى أن التمثيل في الحجاج ينبغي أن تكون له مكانته، باعتباره أداة برهنة فهو ذو قيمة حجاجية، وعبارة عن تماثل قائم بين بنى معينة.
يقدم عبد الله صولة مثالا يوضع فيه تلك البنى، والعلاقة بينها، في قوله عزّ وجلّ: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾.سورة العنكبوت، الآيه:41.
لدينا البنى: أ.المشركون
ب.أولياؤهم
ج.العنكبوت
د.بيتها
يصف بيرلمان مثل هذه العلاقة بين البنى بـ«تشابه علاقة»، فعلاقة (أ) بـ(ب) تمثل المشركين بأوليائهم، تشبه علاقة (ج)بـ(د) وهي علاقة العنكبوت ببيتها؛ فكما أن المشركين يعتصمون بأوليائهم تعتصم العنكبوت ببيتها، هذا التمثيل يحوي طاقة إقناعية كبيرة لأنّ وجه الشبه فيه عقلي؛ المتلقي يسلم به حال تلقيه، إضافة إلى الوجه الجمالي للتمثيل، فالنفس تميل إلى الجمال، وتسلم بكل ما هو إبداعي. وإن كان بيرلمان قد حدد كل تمثيل على حدة «ففي حين لا شيء يمنع من أن يطول التمثيل، ويمتد في مجال الإبداع، يطلب من التمثيل في مجال الحجاج، أن يلتزم بحد معين، وإلا فقَدَ طاقته الإقناعية»، وقد لا ينسحب هذا على كل التمثيل؛ بل يمكن أن يكون التمثيل إبداعيا، طويلا، وله من الطاقة الإقناعية ما يجعله يضاهي وسائل البرهنة والاستدلال.
2- الطرق الانفصالية في الحجاج:
تقع هذه الطرق في العناصر التي تؤلف وحدة واحدة يتم تجزئتها لغايات حجاجية، «الحجاج القائم على كسر وحدة المفهوم بالفصل بين عناصره المتضامن بعضها مع بعض؛ مرده إلى زوج الظاهر/الواقع أو الحقيقة (Apparence/réalité)»، المعنى أن كل المعطيات ذات بعدين مختلفين، حد ظاهر؛ وهو المتبدي الذي يحتمل أن يكون زائفا، والواقع هو الحقيقي؛ الفصل بين الحدين في المعطى الواحد، يقع في صميم الحجاج بالانفصال، أو بالفصل، حيث يذهب المؤلفان إلى أنّ الحد الذي يوافق الظاهر، هو ما يدركه الفكر مباشرة بعد تلقي المعطى، أما الحد الذي يوافق الحقيقة فلا يمكن إدراكه إلا من خلال علاقته بالحد الموافق للظاهر، هنا تكمن عملية الفصل، حيث يقوم المتلقي بفصل مكونات الحد الموافق للظاهر، للتوصل إلى مظاهر التناقض والزيف الممكنة بين عناصره، من خلال مقارنتها بالمقياس أو القواعد التي تكون قد توضحت في الحدّ الموافق للواقع، ليتصدر هذا الزوج الظاهر/الواقع ضروب الفصل بين المفاهيم لعمومه وأهميته. كذلك من الفصل توظيف طرائق من قبيل: هو شبه كذا (Pseudo) مثل شبه العلمي (Pseudo scientifique) اللاكذا غير كذا، وبعض الجمل الاعتراضية، التي تحمل أفكارا مؤكدة، أو ناقضة لما سبقها أو تلاها، ووضع بعض الأقوال بين قوسين أو معترضتين، وقد يستخدم الفصل في الحدود والتعريفات، فالتعريف هو وسيلة حجاج شبه منطقية تحدث الفصل داخل المفاهيم، غالبا ما تقوم هذه التعريفات على زوجي: ظاهر/حقيقة، وهو جوهر الحجاج بالطرق الانفصالية.
من كل ما سبق يمكن تلخيص ملامح الحجاج عند بريمان كالآتي:
1- أن يتوجه إلى المستمع.
2- أن يعبر عنه بلغة طبيعية.
3- مسلماته لا تعدو أن تكون احتمالية.
4- لا يفتقر تقدمه –تناميه- إلى ضرورة منطقية بمعنى الكلمة.
5- ليست نتائجه ملزمة.