الحجاج والخطابة الجديدة(1)
الحجاج،البلاغة الجديدة:
مرت البلاغة الانسانية بمراحل عدة، بين تطور وركود، وجاءت على البلاغة مرحلة شاع فيها المناداة بموتها بداعي أنها قد استنفذت طاقتها، ولم يعد بالإمكان إلّا أن تكون مادة تلقّن دون دراسة وتمعّن، ولا تمحيص.
1- مفهوم البلاغة الجديدة:
مرّ مفهوم البلاغة الجديدة بمراحل عدة، فانقسم النقاد حول نسبة هذا المفهوم إلى مجالات الدراسات اللغوية المختلفة؛ فنجد عبد السلام المسّدي، الذي اعتبر الأسلوبية وريثة البلاغة التي ماتت ورحلت، يقول :وإذا تبنينا مسلمات الباحثين، والمنظرين، وجدناها تقرر أن الأسلوبية وليدة البلاغة ووريثتها المباشرة»، وقد سار على هذا المنوال محمد عبد المطلب الذي اعتبر الأسلوبية بديلا عن البلاغة أو اعتبرها بلاغة جديدة.
في حين ذهب الناقد المغربي محمد العمري إلى أن البلاغة أوسع من أن تحصر في الأسلوبية، وقد اعتقد بعض الباحثين إلى حين، أن الأسلوبية يمكن أن تقدم بديلا حديثا للبلاغة، غير أن الأسلوبية ما أن حاولت تثبيت كرسيها على الدكّة التي كانت تستقر فيها باطمئنان حتى اهتزت من تحتها ومال جانبه لانكسار إحدى قوائمه، فالأسلوبية حسب هؤلاء تفتقر إلى البعد التداولي والحجاجي في البلاغة القديمة، فلا يمكن أن تكون وريثة لها حسب هنريش بليث؛ بل أن البلاغة الجديدة تهتم بالأسلوبية والشعرية والتداولية ومباحث الحجاج.
في حين يذهب عبد الله صولة إلى حصر مفهوم البلاغة الجديدة في كون هي البلاغة التي جاء بها شايم بريلمان، يقول: البلاغة الجديدة في العصر الحديث بلاغات كما يقول روبول: لكن يمكن أن نعتبر البلاغة التي جاء بها بريلمان، وتيتيكاه هي هذه البلاغة الجديدة.
2- أصل تسمية البلاغة الجديدة:
لاقى مصنف الحجاج، البلاغة الجديدة نجاحا كبيرا، ذلك لبروز محاولات جادة فيه للتجديد في النظريات البلاغية القديمة، إذ انطلق صاحباه (بريلمان، وتيتيكاه) من محاولة لإعادة النظر في البلاغة اليونانية القديمة، وقراءتها قراءة حديثة، تخرجها من متاهات التصنيف والتبسيط، وهذا هو أصل التسمية بالبلاغة الجديدة.
وقد تناول المؤلفان في مؤلفها السابق الذكر تصنيف آليات الحجاج باعتبارها تقنية خاصة ومميزة لدراسة المنطق التشريعي والقضائي على وجه التحديد، والملفت أن صفة الجديد المصاغة في عنوان المؤلفين، تعني ضمنيا أن هناك خطابة(بلاغة) قديمة، وإذا كانت البلاغة الجديدة عندهما مطابقة للحجاج، فإن فهم مرامي هذه التسمية لا يمكن أن يأتي إلا بالوقوف على المقصود بالبلاغة القديمة التي حاولا إخراجها من فلك الحجاج.
3- خصائص البلاغة الجديدة
- لم يعد هدف البلاغة الجديدة تأسيس الخطاب بل تأويله.
- اتسع حقل البلاغة الجديدة فلم يعد مقتصرا على ماحدده أرسطو من أجناس خطابية (المشاجري، التثبيتي، والمشاوري)، بل أصبح يشمل ميادين جديدة تتعلق في نهاية الأمر بكل أنواع الخطاب الإقناعي بدءا بالإشهار مرورا بالشعر، وصولا إلى الوثائق الرسمية كالمعاهدات والاتفاقات السياسية بل إنها تجاوزت ذلك إلى ميادين أخرى: كالصورة.
- تنوع مكونات هذه البلاغة، فهي بلاغة مجزأة بين التداولية واللسانيات، والمنطق.
- من وجوه الجدة التي تختص بها بلاغة بريلمان بالقياس إلى بلاغة أرسطو، أنها وإن كانت بعثا له، تختلف عنها من حيث المتلقي؛ فمتلقي تلك البلاغة أو الخطابة ربما كان جاهلا عجلان غير متروٍ، وهو ما جعل أفلاطون ينتقد البلاغة أو البلاغة في القديم، أما بلاغة بريلمان الجديدة فموجهة إلى الفكر، وهو يفسر في نظر برلمان بمعية زميلته تيتيكاه نصوصا فلسفية عقلانية؛ لتكون مدونة درس لهما، إضافة إلى عدم اقتصارها على ما هو شفوي، بل هما يلحّان على ضرورة أن تكون مدونتهما كتابة أساسا.
يعبر جميل حمداوي في مقدمة كتابه(من الحجاج إلى البلاغة الجديدة)، عن مرحلة البلاغة الجديدة بأنها تعاملت مع الخطابات النصية المختلفة منذ منتصف القرن العشرين تعاملا علميا وصفيا جديدا، ضمن مجموعة من الاتجاهات: لسانية، وأسلوبية، وحجاجية، وتداولية، وسيميائية.